مقدمة في الفقه - فقه الإمام مالك وعمل أهل المدينة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

فسنتحدث الآن عما ما يتعلق بفقه الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! كما تقدم معنا في فقه سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أن أصول التشريع التي يستدل بها واحدة عند الأئمة الأربعة وأئمة الإسلام: كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والإجماع الثابت، والقياس السوي السديد، لا خلاف بين أئمتنا في ذلك، هذه مصادر التشريع، وهي التي يستدل بها على الأحكام الشرعية، هذا متفق عليه بين أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

الإمام مالك عند مبحث الإجماع عنده زيادة تفريع وتفصيل فيما يتعلق بأمر الإجماع، يقسم الإجماع إلى قسمين:

الأول: الإجماع الذي اصطلح عليه سائر علماء الملة المباركة المرحومة، وهو إجماع المجتهدين من أمة نبينا الأمين عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، على حكم من الأحكام في الدين، فهذا حجة، وهذا هو الإجماع، ولا يكون إلا عن نص، هذا متفق عليه عند أئمتنا في أمر الإجماع.

الآن: ذكرنا أن للإمام مالك اصطلاحاً آخر في الإجماع، فهو مع الجمهور مع الأمة بأسرها في ذلك الإجماع، وأنه حجة، لكن له إجماع آخر هو إجماع أهل المدينة النبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، عمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، إذا اتفقوا على شيء فيرى أن هذا أيضاً إجماع ينبغي أن يستدل به على الأحكام الشرعية، والإجماع -كما لا يخفى- يقدم عندنا في الاستدلال، فهو أقوى الأدلة، ولذلك إذا وُجد ما يعارضه من نص احتمل أحد من أمرين: إما أنه منسوخ أو مؤول؛ لأن الإجماع هو أقوى الأدلة، وعليه فالإمام مالك عنده إذا وُجد عمل أهل المدينة، وهناك نص يخالفه، فإما أن يؤوله، أو يقول: هذا متروك العمل به، فالإجماع عنده أقوى من الحديث الآحادي؛ لأن هذه سنة عملية ورثها أتباع التابعين عن التابعين عن الصحابة عن النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هذا العمل الشرعي المنقول بواسطة الجم الغفير في مكان النور لا يمكن أن يُترك برواية واحد، فهو أقوى من رواية الحديث الآحادي، فإذا عارضه أوله أو قال: متروك العمل به.

هذا -إخوتي الكرام- هو الذي يراد بإجماع أهل المدينة.. بعمل أهل المدينة النبوية، قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في التمهيد في الجزء السابع صفحة اثنتين وعشرين ومائتين: والذي أقول به: إن مالكاً رضي الله عنه وأرضاه إنما يحتج في موطئه وفى غيره بعمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، يريد بذلك -انتبه- عمل العلماء والخيار والفضلاء، لا عمل العامة والسوداء، يعنى الدهماء من الناس، إنما هذا هو عمل أهل العلم، وهذا هو قول أهل العلم في هذا المكان، متفقون على ذلك، وأهل العلم الذين أدركهم أخذوا من التابعين عن الصحابة الطيبين عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، في هذه البقعة يجمعون على حكم شرعي، وهذا لا يمكن إلا أن يكون له مستند عن النبي عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فإذا عارضه حديث آحادي فإنه يترك.

استمعوا لما يتعلق بهذا في كتاب الجامع للإمام ابن أبي زيد القيرواني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في صفحة سبع عشرة ومائة في قرابة صفحة ونصف، أقرأ عليكم كلامه رضي الله عنه وأرضاه: قال الإمام مالك رحمة الله ورضوانه عليه: العمل أثبت من الأحاديث. أي عمل؟ عمل التابعين حسبما تلقوا عن الصحابة الكرام الطيبين، قال: العمل أثبت من الأحاديث. قال من أقتدي به: إنه يصعب أن يقال في مثل ذلك: حدثني فلان عن فلان، هذا الآن نقل متواتر طبقة عن طبقة، أمة عن أمة، جيل عن جيل في هذا المكان المبارك الجليل، فيصعب أن يقال في مثل ذلك: حدثني فلان عن فلان، وكان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم الأحاديث، فيقولون: ما نجهل هذا، لكن مضى العمل على خلافه.

وهذا الكلام انظروه في المدارك في طبقات أصحاب سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، في الجزء الأول صفحة ست وستين، وسيأتينا تلخيص المبحث الذي ذكره في أول المدارك في خمس عشرة صفحة من ستين إلى خمس وسبعين في الاحتجاج بعمل أهل المدينة في أول الكتاب، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا له رسالة قرابة عشرين ومائة صفحة في صحة الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وهي في المجلد العشرين من صفحة تسعين ومائتين إلى صفحة أربعمائة، مائة وعشر صفحات، في صحة الاحتجاج بعمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

قال الإمام ابن أبي زيد: وكان محمد بن أبي بكر بن حزم وهو الأنصاري المدني، كان قاضي المدينة المنورة، ثقة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة -ربما قال له أخوه- وهو من كبار المحدثين في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه: لمَ لم تقضِ بحديث كذا؟ أنت قاضٍ لمَ تركت العمل بهذا الحديث؟ فيقول: لم أجد الناس عليه. وكان يقول كما في المدارك في الجزء الأول صفحة اثنتين وستين: إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك منه شيء. يعني حرج وتوقف، إذا وجدت أهل هذا البلد المبارك، بلد النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فهذه خصيصة عند المالكية للمدينة المنورة لا تثبت لمكة ولا لغيرها، إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء، فلا يكن في قلبك منه شيء.

وقال النخعي رضي الله عنه وأرضاه، أبو عمران إبراهيم بن يزيد النخعي، الفقيه الثقة -تابعي كبير رضي الله عنه وأرضاه- حديثه في الكتب الستة أيضاً، توفي سنة ست وتسعين، انظروا ترجمته في السير في الجزء الرابع صفحة عشرين وخمسمائة، وكان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء. قال رحمه الله: لو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين لتوضأت كذلك، وأنا أقرؤها إلى المرافق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، يقول: أقرؤها في كتاب الله إلى المرافق، ولو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين، يغسلون الكفين فقط، لما غسلت إلا الكفين، لمَ؟ قال: وذلك لأنهم لا يتهمون.

وهذا لابد -إخوتي الكرام- من وعيه حقيقة، فهل يعقل أن يتواطأ الصحابة على ترك هذه الفريضة وهي غسل اليدين إلى المرافق ويغسلوا اليدين إلى الكعبين؟ لا يعقل قطعاً وجزماً، فهم لا يتهمون، فدلَّ لو عملوا بخلاف الظاهر أن ظاهر تلك الآية متروك ومنسوخ بعمل هؤلاء الذي هو عمل الصحابة الذي أخذوه عن النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: وذلك لأنهم لا يُتهمون في ترك السنن، وهم أرباب العلم، وأحرص خلق الله على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن ذلك بهم أحد إلا ذو ريبة في دينه. يعنى أنهم خالفوا السنة، وتركوا القرآن، وغسلوا أيديهم إلى الكفين والكوعين، إذا فعلوا هذا يقول: لا يظن أحد بهم أنهم تركوا السنن، وأجمعوا عليها، إلا إذا كان صاحب ريبة وصاحب زيغ وضلال.

وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- في حج الإفراد قول سيدنا عبد الله بن عباس : أقول لكم: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. وقلت: هذا انفعال من هذا الصحابي، يُستغفر له، ويطرح هذا القول وانتهى الأمر، لا يحتاج الأمر لأكثر من هذا، أما أن نستدل بهذا الأثر على ترك سنة سيدنا أبي بكر وعمر، فهذا ضلال فانتبهوا له!

لذلك قال له عروة كما تقدم معنا: هما أعلم بالسنة منك، فسكت.

يا عبد الله! ليس الموضوع أن سنة أبي بكر وعمر شيء وسنة النبي عليه الصلاة والسلام شيء آخر، لو كان الأمر كذلك لكفرا، فهما أعلم بالسنة منك، فعل منقول يحتمل ويحتمل، ففهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهماً من حجة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأنت عند حجته بل عند موته عليه الصلاة والسلام ما بلغت الاحتلام، فمن أنت لتفهم فهمهما؟ لقد حجا معه وهما أعلم بحجته منك، فهما أعلم بالسنة منك، وأن حج التمتع هذا الاعتبار خاص في ذلك الوقت وانتهى.

وقلت مراراً -إخوتي الكرام- أن هذا الكلام لابد من أن يعيه أهل الإسلام في هذه الأيام، لو جاءك سفهاء وقالوا: تتبع النبي عليه الصلاة والسلام أو أبا حنيفة؟! تتبع النبي عليه الصلاة والسلام أو الإمام الشافعي؟! يا عبد الله! متى صار بينهما معادلة ومقارنة من قال بهذا؟! من قال هذا عليه غضب الله، يا عبد الله لو أنت قلت: تتبع النبي عليه الصلاة والسلام حسبما فهم الشافعي أو حسب فهمي، هنا تأتي المقارنة الصحيحة، سنتبع نبينا عليه الصلاة والسلام حسبما فهم أئمتنا أو حسبما تفهم أنت؟! نتبع النبي عليه الصلاة والسلام حسبما فهم أئمتنا، لا حسبما يخرف المخرفون في هذا الزمن المشئوم.

إذاً: لابد إخوتي الكرام من وعي هذا الأمر، أما تتبع وتتبع، هذا كلام لغط ومجادلة بالباطل، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر:5]، ومن قال هذا فإنما يريد أن يشوش، وهذا ينبغي أن يؤخذ على يديه، وأن يوقف عند حده.. تتبع النبي عليه الصلاة والسلام أو تتبع الإمام مالك؟! يا عبد الله! متى جعلنا الإمام مالك نداً للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأن له شرعاً يختلف عن شرع النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؟!

قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث. انتبه! سنة متقدمة ليس عملاً عمله أناس على حسب الهوى والتشهِّي، إنما سنة عملية ينقلها جم غفير، ألوف مؤلفة، مات نبينا المبارك عليه الصلاة والسلام عن عشرين ألفاً من الصحابة في المدينة المنورة، أما الصحابة الآخرون فقد بلغوا مائة ألف وعشرين ألفاً وأكثر، أما في المدينة المنورة فقد مات عليه صلوات الله وسلامه عن عشرين ألفاً ينقلون سنة عملية في فعل من الأفعال، فإذا قُدِّر أنه عارض السنة العملية، السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة، فإنها خير من الحديث، أي: من الحديث الآحادي الذي ينقل عن طريق الأفراد.

وهذا الكلام -إخوتي الكرام- انظروه في ترتيب المدارك، والإمام عبد الرحمن بن مهدي حديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقد تقدم معنا حاله في الموعظة الماضية، وقلت: توفي في السنة التي توفي فيها الإمام سفيان بن عيينة رضوان الله عليهم أجمعين، عبد الرحمن بن مهدي، أبو السعيد البصري رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! في المدارك أيضاً زيادة على ما في كتاب الجامع في الجزء الأول صفحة ست وستين: قيل لـابن الماجشون، وهو عبد العزيز بن عبد الله، ثقة فقيه مصنف حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع وستين ومائة، وهو الذي كان يفتي في المدينة المنورة مع سيدنا الإمام مالك رضوان الله عليهم أجمعين، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء السابع صفحة تسع وثلاثمائة، قيل له: لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ أنتم أحياناً تروون الحديث كما يفعل الإمام مالك، مل حدي: ( البيعان بالخيار ) رواه في موطئه، وترك العمل بظاهره! إما أنه رأى أنه منسوخ أو مؤول كما تقدم معنا أنه يرى أن البيعان بالخيار ما لم يفترقا بالأقوال، يرى ذلك؛ لأنه عارض عمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، فقيل لـابن الماجشون: لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليعلم الناس أنا على علمٍ تركناه. ما يأتي مشوش بعدنا ويقول: هؤلاء ما بلغهم هذا الحديث، من أجل هذا عملوا بما عملوا به، لا، بل رويناه ونحن على علم به، لكن عندنا ما هو أقوى منه، وهو عمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، ليعلم الناس أنا على علم تركناه، وهذا العلم ليس من باب المحادة والمشاقة، إنما هذا الحديث متروك؛ لوجود ما هو أقوى منه، ومصروف عن ظاهره.

قال الإمام ابن عيينة رضي الله عنه وأرضاه: الحديث مضلة إلا للفقهاء، وتقدم معنا أن هذا قاله أيضاً عبد الله بن وهب: الحديث مضلة إلا للفقهاء، يريد أن غيرهم -كما يقول الإمام ابن أبي زيد - قد يحمل شيئاً على ظاهره وله تأويل من حديثِ غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقه، قال الإمام ابن وهب: كل صاحب حديث ليس له إمام في الفقه فهو ضال، ولولا أن الله أنقذنا بـمالك والليث لضللنا.

إخوتي الكرام! حقيقة هذا الكلام السديد الرشيد ينبغي أن نعيه في هذه الأيام، يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كما في ترتيب المدارك: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة. إذاً عمل أهل المدينة، وإجماع أهل المدينة من مصادر التشريع، والحُجج التي يحتج بها ويستدل بها عند سيدنا الإمام مالك.

ما هو القدر الذي وافقه فيه أئمتنا في هذا الأمر، وما القدر الذي خالفوه فيه؟ هذا كما قلت سأفصله بعون الله وتوفيقه:

تفصيل ما سأذكره باختصار: التفصيل موجود في ترتيب المدارك في خمس عشرة صفحة، وفى مجموع الفتاوى في عشر صفحات ومائة صفحة، من مائتين وتسعين إلى صفحة أربعمائة في صحة عمل أهل المدينة من المجلد العشرين من مجموع الفتاوى، قال الإمام ابن تيمية في صفحة ثلاثمائة من مجموع الفتاوى في المكان الذي ذكرته: الكلام في إجماعهم، وأنه يحتج به، محل ذلك في الأعصار المفضلة، الكلام في هذه الإعصار، في العصور الثلاثة، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، كإجماع من عداهم؛ لأنه حصل عندهم ما حصل عند غيرهم من انتشار شيء من البدع والأهواء والآراء، لكن عصر الصحابة الطيبين، عصر التابعين، وأتباعهم، السنن هي الظاهرة، وإذا كان يوجد شيء فهذا في القلوب، أما بعد ذلك فقد وُجدت البدع حتى بدعة التشيع والرفض في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه بعد أتباع التابعين، وحصل ما حصل.

إذاً: هذا الكلام في الإجماع في هذا الوقت في زمن الصحابة والتابعين وأتباعهم، قال الإمام ابن قدامة في روضة الناظر في الجزء الثاني صفحة أربع وأربعين ومائة من الطبعة المحققة: ولا خلاف في أن قولهم -أي: قول أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه- لا يعتد به في زماننا. والإمام ابن قدامة توفي سنة عشرين وستمائة، ولو قال: بعد عصر أتباع التابعين، لكانت العبارة أسد.. ولا خلاف في أن قولهم لا يعتد به في زماننا فضلاً عن أن يكون حجة.

أعود -إخوتي الكرام- إلى تحرير الكلام في الاحتجاج بعمل أهل المدينة الكرام عند إمام دار هجرة نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، قال الإمام القاضي عياض في المدارك في الجزء الأول صفحة ثمان وستين: إجماع أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه على ضربين:

النوع الأول: ما مستنده النقل والحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم

الأول: ضرب من طريق النقل والحكاية، تنقله الكافة عن الكافة، وهذا أربعة أقسام يأتي تفصيلها بعون الله، وهذه الأقسام الأربعة حجة عند سائر علماء الإسلام، هذا باتفاق، هذا من طريق النقل والحكاية فيما يتعلق بأمور شرعية منقولة عن نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام، مستندها رواية ومشاهدة أو إقرار، قول أو فعل أو إقرار على الفعل أو على الترك في هذه الأحوال الأربعة، وطريقه النقل، والنبي عليه الصلاة والسلام أقرهم على هذا، على فعلهم أو على تركهم، فهذا حجة بالاتفاق كما سيأتينا، وسوف أمثِّلُ لكل حالة من الأحوال الأربعة بعون الله، ضرب طريقه كما قلت النقل، تنقله الكافة عن الكافة، هنا الطريق النقل والحكاية، وهذا يحتج به عند سائر علمائنا.

من أمثلته: لما اجتمع سيدنا أبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه بسيدنا الإمام مالك عندما حج مع هارون الرشيد عليهم جميعاً رحمة الله ومغفرته، ناظره الإمام مالك في زكاة الخضروات عند سيدنا أبي حنيفة، وعلى هذا متون سائر كتب فقه الحنفية، فيما أخرجت الأرض العشر قل أو كثر، إلا الحشيش والحطب الفارسي عند الحنفية، وما عدا هذا من بقدونس وجرجير وخس وخيار، كلها يجب فيها العشر إذا سُقيت بماء السماء أو نصف العشر إذا سقيت بكلفة الإنسان وجهد الإنسان بالدولاب وبالموتور وما شاكل هذا، فناقشه الإمام مالك، قال: هؤلاء أهل مدينة خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، كانوا يزرعون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام الخضروات، فما كان واحد منهم يزكي، وما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام منهم الزكاة، وما علمهم ذلك، وهذا الذي عليه أهل المدينة بلا خلاف، علماؤهم ومزارعوهم، وجميع من في هذه المدينة يعلم هذا الحكم، تلقاه أتباع التابعين عن التابعين عن الصحابة الكرام الطيبين عن إقرار نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فأنتم تقولون: الزكاة في الخضروات وفيما قل أو كثر، حتى لو زرع الإنسان متراً في متر من البقدونس إذا قطعها ينبغي أن يخرج زكاتها، أو من النعناع أو من الخيار أو من البصل، عشر بصلات واحدة زكاة، هذا حقيقة فيه مشقة على العباد، هذا هو مذهب سيدنا أبي حنيفة وخالفه صاحب المذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم وأرضاهم.

فالإمام أبو يوسف -انظر لإنصافه- قال: على هذا عمل أهل المدينة حسبما تلقوا من النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: سنة حق، وإذا وجد أحد في المدينة يخالف من العامة ومن العلماء، فلك بعد ذلك مجال للكلام، قال: رجعت عن قولي، ولو علم إمامي بما علمته لرجع عن قوله كما رجعت، نحن استدللنا بأدلة عامة على أن الزكاة واجبة في كل شيء، أما هنا شيء خاص وهى أن الخضروات لا زكاة فيها، وزاد بعد ذلك أبو يوسف مخالفة ثانية وهى لابد من النصاب وهى خمسة أوسق، ولذلك خلاف الصاحبين مع سيدنا أبي حنيفة في أمرين:

الأول: أنه لا زكاة إلا في الزروع والثمار، وأما الخضروات والفواكه فهذه لا زكاة فيها، الزكاة في الزروع والثمار التي تختزن وتدخر، أما ما عداها لا زكاة فيها.

الأمر الثاني: ينبغي أن تبلغ خمسة أوسق كما هو قول الأئمة الثلاثة، والإمام أبو حنيفة عنده كل شيء فيه زكاة قل أو كثر. قال: رجعت، ولو علم إمامي بما علمته لرجع عن قوله كما رجعت.

مثال آخر: الوقف عند أبي حنيفة جائز، لكنه يقول: تحبس العين على مالكها، إنما يتصدق بالثمرة والعين تبقى ملكاً له, لا تصبح العين صدقة إلا إذا أوصى بها فقط، ولذلك لو لم يوصِ فإنه يرث الورثة بعد ذلك هذا الوقف الذي وقفه عند أبي حنيفة إلا إن أوصى به، قال: أو قضى به حاكم؛ لأن قضاءه ينفذ في أمور الخلاف، لكن ما عدا هذا لو أوقف ولم يوصِ ولم يقضِ به قاض فإنه يرث الورثة هذا الوقف عند أبي حنيفة؛ لأنه وقفه وما أخرجه عن مُلكه.

وعند الجمهور كما وافقهم أبو يوسف قال: إزالة العين عن ملكه، الوقف أن يزيل العين، عندما يوقف أرضاً أزال العين وأخرجها عن ملكه، وصارت لله جل وعلا، لكنه حبسها فلا تباع ولا توهب، إنما تبقى ينتفع بها إلى يوم القيامة، ويأتيه الأجر منها، وقد رجع أبو يوسف عن قول إمامه عندما عرف أن عمل أهل المدينة على خلافه، ومعهم نقل وحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر ألا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضعيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول فيه مالاً ) .

هذا إخوتي الكرام ثابت في الكتب الستة، فأيضاً رجع أبو يوسف عن القول الذي كان يقول به موافقة لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وقال: لو رأى هذه الحجة وأن أهل المدينة يفعلون هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام أقرهم عليه هذا حبس فلان وهذا حبس فلان وقف ووقف فلان، لرجع أبو حنيفة كما رجعت، ولقال بما قلت به؛ لأن هذا حجة بالاتفاق؛ لأن هذا مستنده النقل عن النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، من وقوله، أو فعله، أو إقراره على فعل شاهده، أو على ترك رأى الناس لا يعملونه فوافقهم عليه, عليه صلوات الله وسلامه.

فهنا الآن فيما يتعلق بالخضروات، وفيما يتعلق بالوقف، وفيما يتعلق بالصاع والمد، رجع أبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه، وكما قلت: هذا متفق عليه عند علماء الإسلام، وهذا الأمر هو الذي يحتج به الإمام مالك وغيره، جميع أئمة الإسلام يحتجون به، ما مستنده؟ مستنده النقل والحكاية عن النبي عليه الصلاة والسلام، من قوله، أو فعله، أو تقريره على الفعل أو على الترك عليه صلوات الله وسلامه.

النوع الثاني ما مستنده الاجتهاد والاستدلال

النوع الثاني من إجماعهم: قال القاضي عياض : مستنده الاجتهاد والاستدلال، يقول: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، قال الإمام القاضي عياض في ترتيب المدارك: فاختلف المالكية في الاستدلال بهذا النوع من الإجماع والعمل الذي هو عمل مصر فقط وهو عمل أهل المدينة المنورة، على منورها صلوات الله وسلامه، بناء على اجتهاد لا على ما يُنقل ومستنده النقل.

قال: اختلفوا على ثلاثة أقسام: معظم المالكية لا يستدلون بهذا كغيرهم، فلابد من نص يقرر الحكم في هذه القضية، وبعضهم قال: إنه حجة، وبعضهم قال: ليس بحجة، ولكن عمل أهل المدينة يرجح اجتهادهم على غيرهم، فإذا كان أولئك ما عندهم نص، بل عندهم اجتهاد آخر، أي: بقية الأمصار، فعمل أهل المدينة يرجح اجتهادهم على الاجتهادات الأخرى التي في بقية الأمصار، إذاً: معظم المالكية على أنه ليس بحجة، وقيل: إنه حجة، وقيل: إنه يرجح فقط هذا الاجتهاد ولا يعتبر حجة، إنما هذا الاجتهاد يقدم على الاجتهادات الأخرى، لميزة أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.