خطب ومحاضرات
مقدمة في الفقه - أبو حنيفة فقيه الملة [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين..
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك.. سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة أئمة الإسلام.. الأئمة الفقهاء الأربعة العظام رضوان الله عليهم أجمعين، وبدأت بسيدنا أبي حنيفة، فقيه هذه الملة المباركة المرحومة، وهو أول الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد حصلت فيه ثلاثة أمور حسان لم تحصل لبقية الفقهاء الكرام رضوان الله عليهم أجمعين:
أولها كما تقدم معنا: أنه تابعي فاز بشرف صحبة ورؤية أصحاب النبي عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا ثبوت رؤيته لسيدنا أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
الأمر الثاني: أنه هو الذي وضع الطريقة المتبعة في دراسة الفقه، فكل فقيه بعده بدءاً بسيدنا الإمام مالك فمن بعده ساروا على طريقة ترتيب وتبويب سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين في الفقه، بحيث يبدأ بالعبادات، ثم ينتقل إلى البيوع وهكذا, هذا الترتيب الذي وضعه بهذه الصورة والشاكلة الحنفية بقيادة إمامهم سيدنا أبي حنيفة النعمان رضوان الله عليهم أجمعين.
الأمر الثالث الذي امتاز به أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه: هو حاله مع علماء الأمة كحال نبينا عليه الصلاة والسلام مع رسل الله الكرام، فنبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الأنبياء تابعاً، وسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أكثر العلماء تابعاً من هذه الأمة, مذهبه حصل له رواج وقبول وانتشار، وعمل به الصالحون الأبرار في سائر الأقطار، بحيث لم تحصل تلك النسبة لأحد من أئمة الإسلام.
هذه المزايا الثلاث امتاز بها هذا الإمام المبارك رضوان الله عليهم أجمعين.
قلت إخوتي الكرام: سنتدارس ما يتعلق بترجمته ضمن أربعة أمور: الأول: نسبه وطلبه العلم، الثاني: في ثناء العلماء عليه وبيان منزلته ورتبته وفضيلته ومكانته، والثالث: في طريقة تفقهه في الدين، والرابع: في عبادته لرب العالمين سبحانه وتعالى.
وكنا نتدارس الأمر الثاني -إخوتي الكرام- في بيان منزلة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه حسبما قرر أئمة الإسلام أقرانه ومن جاء بعده رضوان الله عليهم أجمعين، تقدم معنا آخر شيء تدارسناه أن حبه من السنة، وأنه يجب على أهل الإسلام أن يدعوا لسيدنا أبي حنيفة النعمان في صلواتهم؛ لأنه حفظ عليهم السنن والفقه، وتقدم معنا أن هذا الكلام مأثور عن عدد من أئمة الإسلام العظام الكبار الكرام، منهم أبو معاوية محمد بن خازم ، ومنهم الإمام أبو عبد الرحمن الخريبي ، وغيرهم، ووقفت عند هذا الأمر، وسأكمل تقريره بعون الله وتوفيقه.
نعم إخوتي الكرام! إن حب المسلمين فرض في الدين، فكيف بحب الأولياء الصالحين؟! فكيف بحب علمائنا وساداتنا الفقهاء المتقين؟! لا شك أن هذا من آكد الفروض، وأوجب الواجبات؛ فهم أولياء رب الأرض والسماوات، فهنيئا لمن هُدي إلى محبتهم، وتعطير المجالس بذكرهم، وشقاءً ثم شقاءً لمن حُرم من محبتهم، ولمن وقع في أعراضهم، نسأل الله أن يحفظنا من ذلك بمنه وكرمه؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أولياء الله حبهم فرض.. حبهم واجب، وقد تقدم معنا أنه عند ذكرهم تنزل الرحمات، وإذا ذكروا ذكر رب الأرض والسماوات، كما أنه إذا ذكر الله ذكروا رضوان الله عليهم أجمعين، فحب أبي حنيفة من السنة، وإذا أردت أن تعرف الإنسان هل هو سني أم لا؛ فانظر لموقفه نحو أئمتنا وفي مقدمتهم أولهم وفقيههم وأسبقهم رضي الله عنهم أجمعين سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه.
قول الإمام عبد العزيز بن أبي رواد
كان عبد العزيز بن أبي رواد يقول: من أحب أبا حنيفة فهو سني، ومن أبغضه فهو مبتدع شقي، من أحب سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فهو سني هذا على السنة، ومن أبغضه فهو مبتدع شقي، وكان يقول: بيننا وبين الناس أبو حنيفة النعمان ، فمن أحبه وتولاه؛ فهو على السنة، ومن أبغضه وانحرف عنه؛ فهو على البدعة. هذا هو الفيصل بين أهل الهدى وأهل الردى، فمن أحبه فهو على السنة، من تولاه فهو على السنة، ومن أبغضه وانحرف عنه فهو على البدعة، يقول هذا الكلام شيخ الإسلام العبد الصالح عبد العزيز بن أبي رواد رضوان الله عليهم أجمعين.
الطعن في الإمام أبي حنيفة وفي غيره من الأئمة طعن في الإسلام
قال: لأن القرآن حق، والسنة حق، والذين نقلوا لنا القرآن والسنة هم الصحابة، فإذا كان الناقل لا يوثق به فما قيمة المنقول، ونحن -إخوتي الكرام- فقه ديننا يعود إلى هؤلاء الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت مراراً: نصوص القرآن والسنة مع فهم الصحابة انحصر ذلك فيما عليه الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا جئنا ووقعنا فيهم وطعنا فيهم فقد طعنا في الإسلام حقيقة، وهذه زندقة لكن كما يقال: من وراء جدار وستار، لا يريد أن يطعن في الإسلام مباشرة، يتوصل إلى الطعن في الإسلام عن طريق الطعن في أئمة الإسلام، بدءاً بسيدنا أبي حنيفة النعمان ومن بعده من الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
قال العبد الصالح عبد العزيز بن أبي رواد ، كما في الخيرات الحسان في مناقب سيدنا أبي حنيفة النعمان صفحة ثمان وأربعين، والكلام موجود في عقود الجمان أيضاً في مناقب سيدنا أبي حنيفة النعمان ، الكتاب الأول كما قلت للإمام ابن حجر الهيتمي ، والثاني عقود الجمان للإمام الصالحي رضوان الله عليهم أجمعين. وعبد العزيز بن أبي رواد من أئمة الخير والصلاح، صدوق عابد خرَّج له البخاري في صحيحه تعليقاً وأهل السنن الأربعة، وانظروا ترجمته العطرة في السير في الجزء السابع صفحة أربع وثمانين ومائة، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الأول صفحة أربع عشرة ومائتين: ثقة. ووالده تقدم معنا وهو عبد المجيد بن أبي رواد من أهل مكة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، من أئمة الإسلام الكبار.
كان عبد العزيز بن أبي رواد يقول: من أحب أبا حنيفة فهو سني، ومن أبغضه فهو مبتدع شقي، من أحب سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فهو سني هذا على السنة، ومن أبغضه فهو مبتدع شقي، وكان يقول: بيننا وبين الناس أبو حنيفة النعمان ، فمن أحبه وتولاه؛ فهو على السنة، ومن أبغضه وانحرف عنه؛ فهو على البدعة. هذا هو الفيصل بين أهل الهدى وأهل الردى، فمن أحبه فهو على السنة، من تولاه فهو على السنة، ومن أبغضه وانحرف عنه فهو على البدعة، يقول هذا الكلام شيخ الإسلام العبد الصالح عبد العزيز بن أبي رواد رضوان الله عليهم أجمعين.
ولذلك -إخوتي الكرام- الوقيعة فيه وفي أئمة الإسلام وقيعة في الإسلام، وقد تفطن سيدنا أبو زرعة رضي الله عنه وأرضاه لعمل الزنادقة اللئام، فقال: إذا رأيت أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- فاعلم أنه زنديق ولا دين له، لمَ؟
قال: لأن القرآن حق، والسنة حق، والذين نقلوا لنا القرآن والسنة هم الصحابة، فإذا كان الناقل لا يوثق به فما قيمة المنقول، ونحن -إخوتي الكرام- فقه ديننا يعود إلى هؤلاء الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت مراراً: نصوص القرآن والسنة مع فهم الصحابة انحصر ذلك فيما عليه الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا جئنا ووقعنا فيهم وطعنا فيهم فقد طعنا في الإسلام حقيقة، وهذه زندقة لكن كما يقال: من وراء جدار وستار، لا يريد أن يطعن في الإسلام مباشرة، يتوصل إلى الطعن في الإسلام عن طريق الطعن في أئمة الإسلام، بدءاً بسيدنا أبي حنيفة النعمان ومن بعده من الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
إخوتي الكرام! حقيقة الثناء على سيدنا أبي حنيفة النعمان من قِبل أئمة الإسلام لا يتسع للإحاطة به المقام، فقد جمع الله في هذا الإمام المبارك خصال الخير على التمام، وقد أثنى عليه -كما تقدم معنا- المحدثون والفقهاء والقراء والزهاد والعباد والأولياء رضوان الله عليهم أجمعين.
قول يحيى بن سعيد القطان في الإمام أبي حنيفة
(لا نكذب الله) أي: لا نقول عليه الكذب، لا نكذبه؛ فهذا ولي من أوليائه، وجعله حجة بين عباده، لما منَّ عليه من الفقه والفهم والحكمة، لا نُكذِّب الله فيما اختاره، ولا نَكْذبه فنحن نتكلم حقاً، وهذا إمام مبارك نقتدي به.. ماذا عندك؟
قال: ما سمعنا أحسن رأياً من أبي حنيفة ، وقد أخذنا بأكثر آرائه، أكثر فقهه نحن نلتزم به وندين الله به. هذا يقوله يحيى بن سعيد القطان الذي قال عنه أئمتنا: ثقة متقن حافظ إمام قدوة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقال عنه الذهبي في السير في الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين: هو الإمام الكبير أمير المؤمنين في الحديث، ومن مناقبه أنه كان يختم القرآن كل ليلة، ولا يحدث بعد الختمة بشيء في الصباح حتى يدعو لألف من شيوخه، يسميهم بأسمائهم، ثم بعد ذلك يبدأ بنشر حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وكان إذا جاء إلى المجلس مع أصحابه -كما في السير في ترجمته- كان بيده سُبحة يسبح بها، هذا أمير المؤمنين في حديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقرئت مرة سورة الدخان بحضرته؛ فصعق، قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه: لو أن أحداً يملك نفسه، ويستطيع أن يدفع الوارد إذا ورد عليه؛ لملك يحيى بن سعيد القطان نفسه. يقول: عندما يقع هذا الأمر على مَن يقع، ويصاب بالصعق عندما يسمع كلام الله جل وعلا، هذا ليس من باب التكلف، ولو أن الإنسان يمكن أن يضبط نفسه وهذا في وسعه؛ لضبط نفسه يحيى بن سعيد القطان ، وهذا الكلام في ترجمته في كتب الجرح والتعديل، لا في كتب الأساطير.
وقد توفي هذا العبد الصالح سنة ثمان وتسعين ومائة، أي: بعد سيدنا أبي حنيفة بثمان وأربعين سنة.
انتبه لحال يحيى بن سعيد القطان ! استمع هذا الكلام وعض عليه بالنواجذ، قال الذهبي في ترجمته: قلت: كان متعنتاً في نقد الرجال، فإذا رأيته قد وثق شيخاً فاعتمد عليه.. إذا وثَّق فما بعد توثيقه توثيق، لأنه كان يتشدد في التوثيق، فإذا كان يتشدد ويقول تلك الكلمة البليغة الحكيمة الجليلة العذبة الجميلة في سيدنا أبي حنيفة ؛ فإن قوله معتمد، فخذه وأنت مطمئن.
وعليه فمن قال غير ذلك؛ فهو أحد اثنين: إما جاهل أو حاسد, من قال غير ذلك الكلام في سيدنا أبي حنيفة النعمان ؛ فهو أحد رجلين: جاهل بمكانته، أو حاسد لنعمة الله على عباده.
يقول الذهبي: قلت: كان متعنتاً في نقد الرجال، فإذا رأيته قد وثَّق شيخاً فاعتمد عليه، أما إذا ليَّن أحداً فتأن في أمره حتى ترى رأي غيره فيه. هذا إذا لين، وهو الآن قد وثَّق وأبو حنيفة أعلى من يحيى بن سعيد القطان ، وحاشا أن نستدل على توثيق سيدنا أبي حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان ! بل بكلام البخاري وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين، إنما فقط أذكر هذا لأبين أن مكانته مُسلَّمة رضي الله عنه وأرضاه، ولنعطر بعد ذلك المجلس بذكر أقوال هؤلاء الأئمة في هذا الإمام رضي الله عنهم وأرضاهم، وإلا فـأبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه في غنى عن توثيق من جاء بعده، يكفي شهادة الأقران له بأنه إمام الأئمة وفقيه الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين، فلا يحصل التوثيق بكلام يحيى بن سعيد القطان ، إنما كما قلت: لبيان هذا الذي نُقل في ترجمة هذا الإمام، وإلا فعندنا الإمام أبو حنيفة أعلى منزلة من يحيى بن سعيد القطان ، وممن جاء بعده من أئمة الإسلام، فلا يمكن أن يُقاس به رضي الله عنهم أجمعين، ولكلٍ مقام معلوم, فلا بد من وعي هذا إخوتي الكرام! وليس المراد هنا إثبات توثيق سيدنا أبي حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان، إنما هو إذا كان متعنتاً ووثق؛ فعض على ذلك بالنواجذ, فلو كان في أبي حنيفة شيء، فكيف يقول يحيى بن سعيد القطان هذا الكلام؟!!
وتقدم معنا كلام يحيى بن معين أنه ثقة، وما سمع فيه تجريحاً وتضعيفاً، ما سمع أحداً يضعفه، وعليه فهذا حادث بعد ذلك لأسباب نسأل الله أن يغفر لنا وللمسلمين؛ إنه كريم وهاب.
ثناء زهير بن معاوية على الإمام أبي حنيفة
هذا العبد الصالح زهير بن معاوية وهو ثقة ثبت، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين بعد المائة، أي: بعد أربع وعشرين سنة على أكثر تقدير بعد سيدنا أبي حنيفة ، فقد عاصره وحضر مجالسه، ويعرفه رضي الله عنهم أجمعين.. ولد زهير بن معاوية سنة مائة، أي: بعد سيدنا أبي حنيفة بعشرين سنة كما في تقريب التهذيب، وقال الذهبي : وُلد سنة خمس وتسعين، أي: بعد سيدنا أبي حنيفة بخمس عشرة سنة، وحديثه في الكتب الستة، قال عنه الحافظ الذهبي في السير في الجزء الثامن صفحة واحد وثمانين ومائة: هو الإمام الحافظ المجود، كان من أوعية العلم، صاحب حفظ وإتقان، استمع لمنقبة لـزهير بن معاوية ، ثم اسمع لكلامه في مجالس سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ومجالس غيره.
حدَّث شعيب بن حرب ، وقد توفي سنة سبع وتسعين ومائة، وحديثه في صحيح البخاري، وسنن أبي داود والنسائي ، ثقة عابد.. قال الذهبي في ترجمته في السير في الجزء التاسع صفحة ثمان وثمانين ومائة: هو الإمام القدوة شيخ الإسلام شعيب بن حرب ، حدث بحديث رواه عن اثنين من شيوخه، عن زهير بن معاوية وعن شعبة بن الحجاج أبي بسطام ، إمام زمانه في الجرح والتعديل، حدث عن هذين الاثنين، وقد تقدم معنا ثناء شعبة على سيدنا أبي حنيفة ، وأمر سيدنا أبي حنيفة لـشعبة بأن يحدث كما تقدم معنا، وشعبة شعبة ، وإذا وجدت شعبة في حديث فاشدد يدك به, حدَّث شعيب بن حرب بحديث يرويه عن شيخيه عن زهير بن معاوية وعن شعبة ، فقدم زهير بن معاوية على شعبة ، فقيل له: تقدم زهير بن معاوية على شعبة ؟ فقال: زهير بن معاوية أفضل من عشرين مثل شعبة . فماذا يقول زهير بن معاوية في سيدنا أبي حنيفة ؟! استمع لكلامه:
قال لرجل جاء ليحضر مجلسه ليتلقى حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: أين كنت؟ قبل أن تأتيني أين كنت؟
قال: في مجلس أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه.. كنت عند أبي حنيفة ، انتهى المجلس فجئت إليك. قال: والله إن ذهابك يوماً واحداً إلى مجلس أبي حنيفة أنفع لك من مجيئك إليَّ شهراً. مجلس واحد تجلسه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أفضل من أن تأتي إلى مجلسي شهراً كاملاً، هذا الكلام يقوله من هو أفضل من شعبة بعشرين مرة، زهير بن معاوية رضي الله عنهم وأرضاهم.
وحقيقة إخوتي الكرام! لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، وقد ابتُلينا في هذه الأيام بأهل شطط وجَور، بينهم وبين سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ما يزيد على ألف سنة، ويقعون في عرضه، قاتلهم الله أنى يؤفكون! وانظر لجهابذة المحدثين وكبار شيوخ أهل العلم في زمنه، يقول: أنت كنت في مجلس أبي حنيفة وجئت إلي! ذهابك لمجلس أبي حنيفة أنفع لك وأفضل من أن تحضر مجلسي شهراً كاملاً، وزهير بن معاوية هو زهير بن معاوية رضي الله عنه وأرضاه!
هذا -إخوتي الكرام- ثناء الأقران الذين شهدوا حياة سيدنا أبي حنيفة النعمان، وليس بعد شهادة الأقران شهادة؛ ولذلك ما حصل بعد ذلك من كلام سيأتينا إنما هو جهل أو حسد، ما وقف على حقيقة هذا الفقيه فقال ما قال، وهو معذور لجهله أو حسده، فكلامه يرد عليه، لكن هذا كلام شيوخ المحدثين الكبار، المتعنت كما تقدم معنا في التوثيق والمتشدد يقول ما يقول في سيدنا أبي حنيفة ، إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين يقول ما يقول في سيدنا أبي حنيفة .. شعبة يقول ما يقول في سيدنا أبي حنيفة .. زهير بن معاوية .. عبد الله بن المبارك ، وهؤلاء كلهم رأوه، وجلسوا عنده وحضروا مجالسه، باستثناء سيدنا يحيى بن معين رضي الله عنهم أجمعين.
قال العبد الصالح يحيى بن سعيد القطان، وقوله في تهذيب التهذيب في الجزء العاشر صفحة خمسين وأربعمائة، وهو في السير أيضاً في الجزء السادس في ترجمة سيدنا أبي حنيفة في صفحة اثنتين وأربعمائة، وهو أيضاً في الجزء الذي ألفه الإمام الذهبي في فضائل أبي حنيفة وصاحبيه، صفحة اثنتين وثلاثين يحيى بن سعيد القطان ، استمع ماذا يقول، يقول: نكذِب الله، ما سمعنا أحسن رأياً من أبي حنيفة ، وقد أخذنا بأكثر آرائه.
(لا نكذب الله) أي: لا نقول عليه الكذب، لا نكذبه؛ فهذا ولي من أوليائه، وجعله حجة بين عباده، لما منَّ عليه من الفقه والفهم والحكمة، لا نُكذِّب الله فيما اختاره، ولا نَكْذبه فنحن نتكلم حقاً، وهذا إمام مبارك نقتدي به.. ماذا عندك؟
قال: ما سمعنا أحسن رأياً من أبي حنيفة ، وقد أخذنا بأكثر آرائه، أكثر فقهه نحن نلتزم به وندين الله به. هذا يقوله يحيى بن سعيد القطان الذي قال عنه أئمتنا: ثقة متقن حافظ إمام قدوة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقال عنه الذهبي في السير في الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين: هو الإمام الكبير أمير المؤمنين في الحديث، ومن مناقبه أنه كان يختم القرآن كل ليلة، ولا يحدث بعد الختمة بشيء في الصباح حتى يدعو لألف من شيوخه، يسميهم بأسمائهم، ثم بعد ذلك يبدأ بنشر حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وكان إذا جاء إلى المجلس مع أصحابه -كما في السير في ترجمته- كان بيده سُبحة يسبح بها، هذا أمير المؤمنين في حديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقرئت مرة سورة الدخان بحضرته؛ فصعق، قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه: لو أن أحداً يملك نفسه، ويستطيع أن يدفع الوارد إذا ورد عليه؛ لملك يحيى بن سعيد القطان نفسه. يقول: عندما يقع هذا الأمر على مَن يقع، ويصاب بالصعق عندما يسمع كلام الله جل وعلا، هذا ليس من باب التكلف، ولو أن الإنسان يمكن أن يضبط نفسه وهذا في وسعه؛ لضبط نفسه يحيى بن سعيد القطان ، وهذا الكلام في ترجمته في كتب الجرح والتعديل، لا في كتب الأساطير.
وقد توفي هذا العبد الصالح سنة ثمان وتسعين ومائة، أي: بعد سيدنا أبي حنيفة بثمان وأربعين سنة.
انتبه لحال يحيى بن سعيد القطان ! استمع هذا الكلام وعض عليه بالنواجذ، قال الذهبي في ترجمته: قلت: كان متعنتاً في نقد الرجال، فإذا رأيته قد وثق شيخاً فاعتمد عليه.. إذا وثَّق فما بعد توثيقه توثيق، لأنه كان يتشدد في التوثيق، فإذا كان يتشدد ويقول تلك الكلمة البليغة الحكيمة الجليلة العذبة الجميلة في سيدنا أبي حنيفة ؛ فإن قوله معتمد، فخذه وأنت مطمئن.
وعليه فمن قال غير ذلك؛ فهو أحد اثنين: إما جاهل أو حاسد, من قال غير ذلك الكلام في سيدنا أبي حنيفة النعمان ؛ فهو أحد رجلين: جاهل بمكانته، أو حاسد لنعمة الله على عباده.
يقول الذهبي: قلت: كان متعنتاً في نقد الرجال، فإذا رأيته قد وثَّق شيخاً فاعتمد عليه، أما إذا ليَّن أحداً فتأن في أمره حتى ترى رأي غيره فيه. هذا إذا لين، وهو الآن قد وثَّق وأبو حنيفة أعلى من يحيى بن سعيد القطان ، وحاشا أن نستدل على توثيق سيدنا أبي حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان ! بل بكلام البخاري وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين، إنما فقط أذكر هذا لأبين أن مكانته مُسلَّمة رضي الله عنه وأرضاه، ولنعطر بعد ذلك المجلس بذكر أقوال هؤلاء الأئمة في هذا الإمام رضي الله عنهم وأرضاهم، وإلا فـأبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه في غنى عن توثيق من جاء بعده، يكفي شهادة الأقران له بأنه إمام الأئمة وفقيه الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين، فلا يحصل التوثيق بكلام يحيى بن سعيد القطان ، إنما كما قلت: لبيان هذا الذي نُقل في ترجمة هذا الإمام، وإلا فعندنا الإمام أبو حنيفة أعلى منزلة من يحيى بن سعيد القطان ، وممن جاء بعده من أئمة الإسلام، فلا يمكن أن يُقاس به رضي الله عنهم أجمعين، ولكلٍ مقام معلوم, فلا بد من وعي هذا إخوتي الكرام! وليس المراد هنا إثبات توثيق سيدنا أبي حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان، إنما هو إذا كان متعنتاً ووثق؛ فعض على ذلك بالنواجذ, فلو كان في أبي حنيفة شيء، فكيف يقول يحيى بن سعيد القطان هذا الكلام؟!!
وتقدم معنا كلام يحيى بن معين أنه ثقة، وما سمع فيه تجريحاً وتضعيفاً، ما سمع أحداً يضعفه، وعليه فهذا حادث بعد ذلك لأسباب نسأل الله أن يغفر لنا وللمسلمين؛ إنه كريم وهاب.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] | 4382 استماع |
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] | 3678 استماع |
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] | 3660 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] | 3540 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] | 3309 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] | 3292 استماع |
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه | 3259 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] | 3259 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] | 3213 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] | 3166 استماع |