مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

الحالة الثالثة التي يكفر فيها من يخالف شرع الله عز وجل: إذا زعم أن شرع العبيد مساوٍ لشرع الله المجيد، وللإنسان أن يأخذ منهما بما يريد. يقول: هذا كهذا، الكل يحقق مصلحة، ففي الحالة الأولى قال: شرع الله ليس فيه نفع على الإطلاق، والحالة الثانية: شرع الله فيه نفع وخير وصلاح، لكن شرع غير الله في هذه القضية أنفع، والحالة الثالثة: شرع الله هو شرع العباد مستويان، لك أن تأخذ بما شئت، هذا فيه نفع وهذا فيه نفع، مستويان، فمن زعم هذا فلا شك في كفره وردته عن دين الإسلام.

مثال ذلك: ما ذكره شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وكنت ذكرت هذا المثال سابقاً في موضوع النكاح المدني بدل النكاح الشرعي، انظروه في كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، على نبينا ورسله صلوات الله وسلامه، في الجزء الرابع صفحة ست وعشرين وثلاثمائة.

خلاصة ما ذكره الشيخ عليه رحمة الله: أنه في تركيا الملحدة بعد أن قُضي على الخلافة الإسلامية، وغيروا النكاح من كونه شرعياً إلى كونه مدنياً، والفارق بين النكاحين: أن النكاح الشرعي كان يعقده المأذون الشرعي أو إمام المسجد، فجعلوه يتبع البلدية، هناك كان يُفعل بمراسيم شرعية، والآن هنا بمراسيم وضعية، فـالشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: هذا العقد لا يحل الزوجة لزوجها، واتصاله بها سفاح لا نكاح! وتقدم معنا أن بعض المفتين مثل الشيخ نوزادا أفندي وهو من أهل الخير والصلاح كما أثنى عليه الشيخ مصطفى صبري ، استشكل هذه القضية وقال: إن أئمتنا ما اشترطوا في عقد النكاح إلا الولي وحضور الشاهدين، وصيغة النكاح والعقد، مع أن هذا يحصل في البلدية، طيب لماذا بعد ذلك لا تحل هذه المرأة لزوجها؟! فقال له: هذا فعل على حسب القوانين الوضعية لا على حسب الشريعة الربانية، وإن وُجدت شروط النكاح لكن ما فُعل طاعة لله عز وجل، أما هناك فيفعل بمراسيم شرعية طاعة لرب البرية، فهؤلاء عندما حولوه من نكاح شرعي إلى نكاح مدني لا تحل المرأة لزوجها، فقال الشيخ لوزادا أفندي : طيب ما الفارق بينهما؟ قال: لا يرد هذا السؤال، السؤال ينبغي أن يكون: ما السبب للتحول من الصفة الشرعية إلى الصفة المدنية؟! إن النكاح الشرعي فيه صفة النكاح المدني، هم يريدون عقداً ففيه عقد، يريدون شهوداً ففيه شهود، يريدون ولياً ففيه ولي، فما سيفعلونه في البلدية يُفعل عندنا، فعلامَ إذاً ألغيت الصفة الشريعة إلى صفة قانونية وضعية مدنية؟!

قال: لا يقال: ما الفارق؟! الذي ينبغي أن يقال: ما السبب في هذا التحول؟! السبب أننا نكره الصبغة الشريعة، ولا نريد أن نربط العباد برب البرية! فنقول: هذا يساوي هذا، ولذلك قالوا: ما الفارق؟! يا عباد الله! لا يصلح أن يقال: ما الفارق؟! أنتم لمَ غيرتم الصفة الشرعية؟ قال: هناك حقيقة يُفعل بمراسيم شرعية، ولذلك جرت العادة بين المسلمين في أنكحتهم الشرعية أن يذكروا الله جل وعلا، وإن لم يكن هذا من شروط عقد النكاح، وأن يقولوا خطبة الحاجة، وأن يصلوا على النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأن يحمدوا الله على ما منَّ عليهم بأن أباح لهم ما يسعدهم في حياتهم وينالون عليه أجراً عند ربهم سبحانه وتعالى، هذا كله صفة شرعية.

قال: هذه الصفة الشرعية لابد منها عند عقد النكاح؛ لأنه يصعب على ذوي الأنفة والغيرة أن يسلم الواحد منهم ابنته أو أخته لتكون فراشاً لرجل، هذا في منتهى الصعوبة، إنما يفعل الإنسان هذا طاعة للرحمن، فلا نتصرف في أعراضنا ولا في أموالنا ولا في دمائنا ولا في أمور حياتنا إلا على حسب شرع ربنا، فبما أن الله شرع هذا يسهل علي أن أزوج ابنتي أو أختي بمن أراه صالحاً، وأنها تسعد عنده، أما إذا لم يكن هذا عند عقد النكاح فما بقي إلا كأنه سلعة وثمن يقابلها ومعاوضة، لا ثم لا، ولذلك كما قال أئمتنا: عقود النكاح مبنية على المسامحة والمساهلة، بخلاف العقود الدنيوية عقود البيوع فهي مبنية على المماسكة والمشاحة، هناك مفاصلة، وأما هنا فيا عبد الله! لا ترهق نفسك، وإذا أراد أن يدفع مثلاً خمسة آلاف أقول: لا داعي، خفف عن نفسك، وخيرهن أيسرهن مهوراً، فحقيقة الذي يجرى في أنكحة المسلمين على الصفة الشرعية المقصود منه ستر هذين الصنفين من الذكور والإناث، وإنجاب ذرية توحد الله وتعبده.

فقال الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: لا يقال: ما الفارق بين العقدين؟ إنما يقال: ما السبب؟ أنت تقول: ما المانع من النكاح المدني لأنه لا فارق بينه وبين النكاح الشرعي؟! قال: لا يقال هذا، إنما الذي ينبغي أن يقال: ما السبب في التحول؟! لمَ تحولتم؟! هناك نكاح بصفة شرعية، لمَ ألغيتموه وجعلتموه في البلدية ضمن المراسيم الوضعية القانونية الجاهلية؟! فلا تحل المرأة لزوجها بهذا، وعليه كما قلت: هذا يساوي هذا من ناحية الصورة، لكن هناك مراسيم شرعية، وأمور معنوية ذهبت عندما فعلناه على الصفة الوضعية الرديئة، وعليه لا تحل الزوجة لزوجها بهذا النكاح.

ثم قال الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: إن كثرة الفروق بين شرع الخالق والمخلوق مانع للمؤمن من الاستبدال، إذا كثرت الفروق لا يمكن أن يترك دينه لكثرة الفوارق بين دينه وبين القانون الوضعي، كثرة الفروق مانع له من الاستبدال، وقلة الفروق -انتبه- أمنع مانع، إذا قلت الفروق، إذاً لا يوجد مقتضى للتحول، إذا كثرت الفروق يقول: أنا إذا اتبعت الشرع الوضعي سأبتعد عن ديني ابتعاداً كثيراً، وإذا قلَّت الفروق يقول: إذاً ما الداعي للتحول والفروق قليلة ولنبق على شرعنا؟! قال: وأما إذا انعدمت الفروق والصورة واحدة، فالأخذ بالشرع الوضعي كفر بَواح وردة ليس لها اعتبار من الاعتبارات، لماذا؟ إذا كان لا يوجد فارق فلم تركت الصبغة الشرعية وفعلت الصبغة الوضعية؟! إذن ما فعلت هذا إلا لتقلد من غضب الله عليه، وهذا هو الكفر البواح، أو لأنك تكره الصورة الشرعية التي شرعها رب البرية، ما دامت هذه الصورة كهذه الصورة فلم تأخذ بهذه وتلغي تلك؟ إذاً: كثرة الفروق تمنع من أن نستبدل، وأن نترك شرع الخالق إلى شرع المخلوق، وقلة الفروق أمنع مانع، وانعدام الفروق هذا حقيقة لا يفعله إلا من ليس في قلبه ذرة إيمان، وهو كافر بالرحمن؛ لأنه لا يوجد أي مبرر من المبررات حتى الدنيوية في ترك شريعة رب البرية والالتزام بالصورة الجاهلية، فما دامت هذه كهذه فلم تركت هذه وأخذت بهذه؟! إذاً أنت تكره الصورة الشرعية، فدل هذا على أنه ليس في قلبك تعظيم لرب العالمين، ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، إذاً أنت لا تريد أن تترك هذا الصفة الشرعية إلا تشبهاً بالمظاهر الجاهلية، كرهت حتى الصورة الشرعية، مع أنك تسلم أن الجوهر في هذه القضية كالجوهر في هذه القضية، وأن هذه كهذه، ولا يختلفان شيئاً في الحقائق، لكن هنا صفة شرعية، وهنا صفة جاهلية، فآثرت هذه على هذه لما في قلبك من كفر بالله، وعدم وجود ذرة إيمان.

وحقيقة هذا هو الفقه، وهذا هو الوعي عند أئمتنا الكرام، ثم ذكر الشيخ عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أن الشيخ لوزادا أفندي وافقه وقال: جزاك الله خيراً، هذا المعنى حقيقة ما ذهب ذهني إليه، وإلا إذا انعدمت الفروق فلمَ نترك الصفة الشرعية إلى الصفة الجاهلية الوضعية؟ ولا يغني عنا أن نقول: إن شروط النكاح وجدت في هذا العقد، الذي ينبغي أن نقوله: لمَ تركنا الصفة الشرعية إلى هذه الصفة الرديئة؟!

إخوتي الكرام! كنت ذكرت لكم سابقاً في بعض المواعظ أن الناس في هذا الزمان يكفرون من حيث لا يشعرون، وقد يفعل الإنسان الفعل فيكفر عندما يلاحظ المعنى الذي من أجله فعل ذلك الفعل، قد يفعله وهو إما أن يكون مباحاً وإما خلاف الأولى، فيفعله بنية خبيثة فيخرج من دين الله وهو لا يدرى، كنت ذكرت لكم أنه يجري في بعض الجامعات في هذه الأوقات حفلات، لكن تراث الحفلة على النظام الفرنسي؛ تعظيماً لهذه العادة الجاهلية الخبيثة، ما هي؟ قال: كل من يشرب الشاي يبقى واقفاً، ولا أحد منهم يجلس، يصب الشاي وهم وقوف، وبيده كأس الشاي، وباليد الأخرى شيء من الحلوى أو الكيك أو نحو ذلك، ويأكل بهذه ويشرب بهذه، ولا أحد منهم يجلس، لمدة عشر دقائق على النظام الفرنسي، ولو فعلوا هذا بدون تقليد الكفار، يعني: فعلوه إما أنه أيسر لهم، أو إما أنه مباح، وما خطر ببالهم ذلك التقليد لكان طبيعياً، مع أنه خلاف الأولى، فلو أكل وهو جالس لكان أهنأ له وأمرأ وأتبع للسنة وأفضل، لكن لا يقال: إنه عصى الله في أكله إذا أكل وهو قائم، ومن باب أولى لا يكفر، لكن عندما قصد التشبه بمن غضب الله عليه، فلا شك في أنه معهم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من تشبه بقوم فهو منهم ).

وينبغي أن نفهم ونعي معنى الحديث، فليس معناه: من شابه، إنما: من تشبه، إذا قصد التشبه بقلبه وأراده، فينبغي أن يعامل على حسب ما في قلبه، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، هو قصد التشبه، تكلف هذا استحساناً لما عليه من غضب عليهم ربنا، فإذا كان كذلك فلا يحكم عليه إلا بما في قلبه، وأما لو فعل هذا دون قصد التشبه، إما لأنه أيسر له في هذه الحياة، أو فعله دون أن يلاحظ فعل أعداء رب الأرض والسماوات، فهنا يُعطى ذلك الحكم ما يستحقه في شريعة الله من إباحة أو كراهة أو تحريم، دون أن يصل إلى كفر مهما كان حال تلك المعصية، لكن إذا فعلها تشبهاً فلا يعامل إلا على حسب ما قصد، (من تشبه) أي: تكلف ذلك وقصده وأراده فهو منهم.

وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الحديث صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، والطحاوي في مشكل الآثار، والإمام ابن عساكر في تاريخه، من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وقلت: رُوي الحديث عن عدة آخرين من الصحابة، رُوي عن سيدنا عبد الله بن عمرو وعن سيدنا حذيفة وعن سيدنا أبي هريرة، فهؤلاء أربعة من الصحابة.

كما رُوي الحديث مرسلاً عن تابعيين؛ عن الحسن وطاوس ، وأكمل الروايات وأتمها رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ).

هذه هي الحالة الثالثة، أن يقول: إن شرع الله المجيد وشرع العبيد مستويان! خذ بأيهما شئت، الأمر فيه سعة، هنا الصفات الشرعية والشروط الشرعية في عقد النكاح موجودة وهنا موجودة، فإن شئت أن تعقد عقداً مدنياً أو تعقد عقداً شرعياً، صفات موجودة وشروط موجودة.

ولذلك إخوتي الكرام! الذي يدل على فقه الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: أنهم عند أول نكاح عقد في البلدية قالوا فيه: أول نكاح لا دخل للسماء بما يجرى في الأرض، إذاً هم قد صرحوا، هم في أول الأمر يقولون: أنتم تقولون: لا ينبغي أن نعقد النكاح في البلدية، ما الفارق بين النكاح في البلدية وعند المأذون الشرعي؟ ما الفارق؟ الفارق أنتم صرحتم به في أول عقد جرى: لا دخل للسماء بما يجرى في الأرض!

فهذا لا بد من وعيه، كثرة الفروق تمنعنا أن نترك شرع الخالق إلى شرع المخلوق، وقلة الفروق تمنعنا أكثر وأكثر من الاستبدال، فهذا عين الضلال؛ لأنه ما دامت الفروق يسيرة فلم نترك شرع الله إلى شرع العباد؟ وانعدام الفروق هذا يدل على الكفر التام، وأن القلب أخبث من الشيطان، ما دامت الفروق منتفية على التمام، فلم تركت شرع الرحمن؟ كرهت حتى الصورة الشرعية، كرهتها من أجل أن تفعل الصورة الشيطانية.

الحالة الرابعة: أن يجزم العاصي المخالف لشرع الله عز وجل بتفضيل الشريعة الإسلامية على الشرائع، على القوانين الوضعية، لكنه يقول: لا مانع من الأخذ بالقوانين الوضعية لمصالح دنيوية!

انتبهوا إخوتي الكرام! يقول: إن شرع الله أعلى وأكمل من شرع العباد، والحالة التي قبلها يقول: مساوٍ، أما هذا فيقول: شرع الله أعلى، ولا يستوي شرع الخالق مع شرع المخلوق، فشرع الله أعلى وأتم وأكمل وأفضل، لكن شرع المخلوق يجوز الأخذ به من أجل مصالح دنيوية، أي: تفيدنا في حياتنا، وإن كان أقل مصلحة من شرع الله، لكنه يجوز الأخذ به، وشرع الله وحكم الله أعلى وأتم وأكمل.

وأمثلة هذا في الواقع المظلم الآثم الذي نعيش فيه ما أكثرها: سفور المرأة واختلاطها بالرجال، في العمل والمدارس والجامعات وغير ذلك، عمل قبيح لا شك، الذي يمتهن حكم الله في هذه القضية ويقول: إن الإسلام عندما منع النساء من الاختلاط بالرجال، ومنع الرجال من الاختلاط بالنساء، وألزم المرأة بأن تقر في بيتها، وما ينبغي أن تكون مع الرجل في عمل وفي مدرسة، وإذا خرجت تكون متحجبة، من يمتهن هذا الحكم لا شك في كفره، والأمر واضح على حسب ما تقدم معنا من الحالات الثلاث، لكنه هنا يقول: هذا الحكم هو السديد، وهو الذي ينفع العبيد، لكن نحن في أحوال متطورة صار عمل المرأة ضرورة، وإذا كانت ستعمل -والعمل ضرورة- بحجابها وجلبابها فكيف ستعمل؟ لا بد من أن تتخفف من ملابسها، وعليه فلا مانع من أن تسفر من أجل مصلحة دنيوية، هذا مع قولنا: أن حكم الله في هذه القضية أعلى من حكمنا وأفضل، لكنه يجوز الأخذ بهذا من أجل تحصيل مصلحة، فلا مانع أن تسفر، ولا مانع أن تخالط الرجال من أجل أن تحصل مصلحة؛ لأن الأحوال تغيرت، والمرأة الآن إذا ما عملت من أين ستأكل؟! ونحو هذه العبارات الخبيثة التي تجري.

وحقيقة المرأة مضطرة إلى العمل رغم أنفها في النظام الشيوعي الكافر الجاحد، هذا بقوة الحكومة لا بد من أن تعمل، وفي النظام الغربي وإن لم يلزمها النظام بالعمل، لكن واقع الحياة بجميع الأشكال والاعتبارات يقسرها على العمل، أما أبواها فضلاً عن غيرهما فإذا استغنت عن الخدمة وعن التربية، فهما يطردناها من البيت لتحصل الرزق، ولتحصل ما تأكله، إذاً النظام الغربي يلجئها إلى العمل رغم أنفها وإن لم يوجد هذا في النظام، وقد بدأت الآن الأحوال الغربية في بلاد عربية حقيقة كذلك!

بعض الناس ممن فيه خير وصلاح، ولعله يزيد على الستين، ولا يترك صلاة الجماعة في المسجد، ومن الطراز القديم من أهالي هذه البلاد، ابنته أخذت الثانوية، فيحار فيها المسكين، هو مستعد أن يرسلها لأمريكا، يحار ماذا ستعمل؟ كأنها ستفتح الدنيا بثانويتها، بعد ذلك جاء وقال: سأوظفها، أين ستوظفها؟ قال: في كويتل، ما معنى كويتل عندكم؟ قال: كويتل هذه شركة تلفونات يعملون فيها، قلت: معهن رجال؟ قال: نعم، مختلطة، قلت: أعوذ بالله! ستعمل مع رجال وأنت في هذا الوقار والكمال، قال: يا شيخ! لأنها إن أرادت تدرس جامعة لتتخرج سوف تكون مدرسة في مرحلة طويلة، أما هذه فمباشرة تأخذ راتب! وبعد ذلك تجلس مع زميل العمل وتزول الحواجز من أولها لآخرها!

هذا الآن صار في البلاد الغوية البلاد العربية، المرأة بجنب الرجل سافرة في جميع جهات العمل؛ في المدرسة، في المستشفى، ونحو ذلك، ويقولون: ضرورة، وهذه الضرورة لن تغير من الواقع شيئاً، فالفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة، وهذه الضرورة مهما كانت الناس في حاجة إليها، فهي مضرة ضارة على الصنفين، وعلى البلاد والعباد شاء الناس أم أبوا، فالذي يأتي ويقول: سفور المرأة واختلاطها بالرجال مصلحة العمل تقتضى هذا، ولا بد أن تختلط! فإن رأى جواز هذا فقد كفر، حتى وإن ما زال يقول: بأن حكم الله أفضل، وأما إذا قال: هذه معصية، كما هو الحال في معاصينا الكثيرة، فهو عاصٍ لله عز وجل ولم يكفر، لكن متى ما رأى إباحة هذا وجوازه، وأنه لا مانع أن تكون المرأة بجنب الرجل في العمل، بجنبه في المدرسة، لا مانع أن تتخفف من ملابسها، لا مانع من هذه الحياة الجاهلية التي نعيش فيها، متى ما خطر هذا في باله فقد خرج عن دين ربه.

وأما إذا قال: هذا حرام، ونفعله على أننا عصاة لذي الجلال والإكرام، فيرجى له الخير والتوبة ولو بعد حين، أما إذا استباح واستمرأ واستحل ورأى جواز هذا دون أن يرى في حكم الإسلام منقصة، أو دون أن يقول: إن هذا يساوي حكم الله، بل يقول: حكم الله هو الأفضل، يعني لو جلست المرأة في البيت وتحجبت وابتعدت عن الرجل فهذا أكمل، نعم هو الذي قرره ربنا عز وجل، لكن الآن ضرورة فيجوز هذا من أجل مصلحة نحصلها، فهذا كفر بالله عز وجل.

وخِلطة الرجال بالنساء في شرعنا من أقبح الخصال

وسمة الفساق والجهال في كل وقت وبكل حال

المرأة بين شريعة الإسلام وشريعة الغرب

إخوتي الكرام! قلت مرارا: إن أعظم ما يميز الحياة الإسلامية عن الحياة الغربية موضوع المرأة، أمر المرأة، أعظم فارق بين الحياة الإسلامية الحياة الشرعية، حياة العفة والطهر، والحياة الغربية، حياة الفجور والعهر، أعظم فارق في الحياة هو موضوع المرأة، فإذا رأيت أمة من الأمم نساؤهم متسترات مصونات فاعلم أنهم على شرع رب الأرض والسماوات، وإذا رأيت النساء في الشوارع متبذلات وفي الأسواق متهتكات، فاعلم أن تلك الأمة وتلك البلدة تحارب شريعة رب الأرض والسماوات، هذا لا بد من وعيه، أعظم ما يميز الحياة الإسلامية عن الحياة الجاهلية موضوع المرأة.

وعندنا المرأة عرض يصان، ويبذل الحر دمه -لا ماله- من أجل صيانتها وحفظها، والمحافظة على كرامتها، وعند أولئك المرأة سلعة تبتذل وتعرض هنا وهناك، لا بد -إخوتي الكرام- من وعي هذا، وأما ما يثيره بعد ذلك دعاة الاختلاط في هذه الأيام ويقولون: أنتم تمنعون الاختلاط من أجل ألا ينتشر الفساد، الاختلاط يهذب الجنسين ويضبطهما، ولا يعتدي بعد ذلك أحد على الآخر، ويصبح تهذيب في الأمة!

وهذا باطل قطعاً وجزماً، فإن خروج المرأة واختلاطها بالرجال يثير الشهوات ولا بد، الشهوات ستزداد إثارة، وسيؤدي هذا بعد ذلك إلى أمراض وفساد واعتداء بين الناس، وعندما يتعلق بهذه المرأة رجلان تصير عداوة وبغضاء بينهما، وعداوة وبغضاء بين من تعلق بها وبين أهلها، وعداوة وبغضاء بين من تعلق بها وبين زوجها، هذا فضلاً عن نشر الأمراض والبلايا في الأمة، هذا الذي يحصل عند خروج النساء، الشهوات ستثور وسيقع الناس بعد ذلك في المحظور.

وأما قولهم: إن هذا يؤدي إلى إضعاف الغريزة الجنسية، فيتهذب الجنسان، وما يبقى إلا محادثة ومؤانسة، وعلى تعبيرهم: ينفس الكبت الذي في قلوبهم بالاختلاط الذي بينهم والابتسامات وما شاكل هذا، دون أن يحصل اعتداء جسدي من واحد على الآخر، هذا لو سُلِّم -مع أنه كذب لا حقيقة له- لكن لو سلم نقول: هذا تمتع من الذي أحله؟ يعني كون المرأة تكلمها وتكلمك، وتلمسها وتلمسك، وتحادثها وتحادثك، وتضحك معك وتضحك معها، من الذي أحل هذا؟ هذا نوع من التمتع من الذي أحله؟ وأيضاً هذا سيوصل إلى تمتع جسدي ولا بد، لكن هذا من الذي أحله؟ هذه ناحية.

ناحية ثانية: أنتم عندما تسعون في إضعاف الغريزة الجنسية، وأن الرجل يرى المرأة ولا يثور، والمرأة تحادث الرجل ولا تميل إليه، طيب أنتم أحسنتم إلى الصنفين أم أسأتم؟ لمَ تأتون بما يقاوم الطبيعة وبما يغيرها؟ هذا إحسان أم إساءة؟!

تلذذ الرجل بالمرأة نعمة، وتلذذ المرأة بالرجل نعمة، أنتم جئتم وقضيتم على هذه النعمة، الرجل يرى المرأة ولا يتلذذ، والمرأة ترى الرجل وتحادثه ولا تتلذذ، يعني هذا لو سُلم لكم فأنتم أفسدتم الجنسين، ولذلك حقيقة عندما حصل التمتع الجائز اعتراه بعد ذلك شيء -كما يقال- من الضعف الجنسي عند الصنفين، فالرجل من كثرة التمتع بدأ لا يثيره وجه المرأة، بل لا يثيره فخذها، بل لا يثيره أحياناً عندما تتعرى وتتجرد عن ملابسها، كما هو الحال في البلاد الغربية، فيحتاج بعد ذلك إلى هيئات مفتعلة ليثار، أو إلى شذوذ يسلكه مع الرجال، نساء مع نساء، ورجال مع رجال، وصور بعد ذلك في منتهى الأشكال من أجل أن تحرك الغريزة التي ضعفت لكثرة الإشباع المتواصل عندهم، أما أنه لم يحصل اعتداء جسدي فهذا مستحيل.

ورضي الله عن الشيخ مصطفى صبري عندما يقول في كتابه موقف العقل، وفي كتابه القول في المرأة صفحة تسع وأربعين، يقول: ما حال دعاة الاختلاط إلا كحال القصة التي تحكى وتروى، وخلاصتها: أن رجلاً وامرأة كانا في سفر، فقال الرجل للمرأة: إذا وصلنا إلى مكان كذا يوجد هناك أكمة -جبل- سآخذكِ وراء الجبل وأحاول أن أعتدي عليك، وأن أفعل بك، وأنتِ تمتنعين، فيجري بينى وبينك خصومة لا يعلم نهايتها ومداها وآثارها إلا الله! قالت: هوِّن على نفسك، لن يحصل شيء من ذلك، قال: ولمَ؟ قالت: لأنني لن أمتنع ولن أمانع وانتهى الأمر!

هكذا دعاة الاختلاط، هم يقولون: إذا خلطناهم لن يحصل اعتداء، إذا حجبنا المرأة سيعتدي عليها السفهاء، وعليه لرفع الاعتداء تختلط النساء بالرجال ولا يتحجبن ولا تمنع يد لامس!

يا عبد الله! هذه حالها يصبح كما في الحكاية، قالت: أنا لن أمتنع، هنا المشاكل تجري، والاتصالات الجسدية ما أكثرها، لكن صارت طبيعية، وأما في حالة وجود الحجاب فقد يعتدي بعض السفهاء على واحدة، قصة واحدة تقع في بلدة فنرى البلدة كلها تتحدث عنها، وأما هنا فقصص لا نهاية لها، ليس في الأيام، بل على مر الساعات والدقائق؛ لأنها كما قلت: تقول: أنا لن أمتنع ولن أمانع، ولن يحصل مني أي معارضة، وهذا حال دعاة الاختلاط، ودعاة قلة الحياء، ودعاة الفساد في هذه الأيام.

فمن إخوتي الكرام رأى جواز ذلك وإباحته، فلا شك في كفره وردته وخروجه عن دين الله عز وجل.

عمل المرأة في الميزان

وأما مسألة العمل -إخوتي الكرام- فكما قلت: المرأة عندنا ريحانة تشم، وعرض يصان، وقد صارت في هذه الأيام المرأة عند الناس مشكلة يطلب لها ألف حل، فبعد أن كانت -كما قلت- عرضاً يصان صارت حُملاً يثقل الإنسان، وسلعة رخيصة تهان، يزج بها الإنسان في كل مجال، ولعلكم تسمعون دعاة السوء في هذه الأيام يقولون: نصف المجتمع عاطل! أنتم تقولون: نحن في زمن المنهجية، وزمن التخصص، وواقع الأمر هو زمن الهمجية الذي نعيش فيه، الله عز وجل يقول: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].

المرأة مختصة بعمل يناسبها في داخل بيتها، والرجل مختص بعمل يناسبه خارج البيت، هي عندما تقوم على البيت، وتربية الجيل، فإنها قد قامت بعمل، لكن عندما خرجت للعمل وضع مكانها من يعمل في البيت، ووضع من يوصلها، ونحو ذلك، وبهذا تكون قد عطلت رجلاً وامرأة أو أكثر من أجل عملها!

عمل المرأة قد يكون له ضرورة في البلاد الإسلامية بمقدار الحاجة، امرأة قابلة لعمل التمريض للنساء ونحو ذلك، هذا أيضاً بمقدار الحاجة، أما امرأة في بنك فلا يجوز للرجل أن يعمل في بنك، فكيف بامرأة واختلاط وقلة حياء، امرأة في بريد، امرأة في شرطة، في جميع جهات الحياة، كما قال الطاغوت الذي ذكرت أمره في الموعظة الماضية في يوم الجمعة، يقول: لمَ لا زلنا نعطي المرأة نصف ما نعطي الرجل في الإرث؟ المرأة تساوي الرجل في العمل في المدرسة وفي الشرطة وفي جميع مناحي الحياة، حتى في الشرطة يوجد شرطيات!

يا إخوتي الكرام! صارت المرأة تعمل أكثر من الرجال، فالذين يبحثون عن الوظائف من الرجال في جميع الديار بلا استثناء لا يعطون، فأنتم تقولون: نصف الأمة عاطل، شغلوا الرجال، لكن لا يقصد من هذا طاعة الله عز وجل، ولا يقصد المحافظة على مصلحة البلاد، إنما نشر الفساد، هذا إخوتي الكرام لا بد من وعيه، نصف الجيل عاطل، هذا يقوله الآن بعض الدعاة، نصف الجيل عاطل، امرأة جالسة في البيت.

وحقيقة المرأة إذا عملت تفقد ما تفقده من أنوثتها، فتصبح بين الرجل والمرأة، كما يعبر عنه الآن أهل الوعي في البلاد الغربية بأنه: جنس ثالث، لا على طبيعة المرأة ولا على طبيعة الرجل، جنس ثالث حقيقة، فقدت أنوثة المرأة، وما صارت رجلاً، صارت بين بين!

فمن استباح شيئاً من ذلك دون أن يفضله على شرع الله، ودون أن يقول: إنه مساوٍ لحكم الله، إنما يقول: هذا فيه مصلحة، والضرورة تقتضى هذا، والأحوال تغيرت، فإذا استباح ذلك واستجازه فقد كفر بالله عز وجل.

الدليل على أن من أجاز العمل بغير شرع الله دون تفضيله فهو كافر

وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في كتابه في سورة نبيه محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ [محمد:25-26] لم يقولوا: إن هذا يساوي شرع الله، ولم يفضلوه، ودون أن يقولوا: إن شرع الله لا خير فيه، إنما في بعض الأمور من شريعة الشيطان سنأخذها في حياتنا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:26-28].

يعني في أمر الاختلاط سنطيعكم فقط، نخلط بين النساء والرجال في المدارس في المستشفيات في دور العمل ونحو ذلك، في هذا الأمر سوف نطيعكم، (في بعض الأمر) أما أنظمتكم بكاملها فلن نأخذ بها، ولذلك حكم الله عليهم بالردة والكفر في هذا الأمر: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]، أمد لهم في الأماني والإضلال، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:26-28].

قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان في تفسير هذه الآية في الجزء السابع صفحة تسعين وخمسمائة: اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان تأمل هذه الآيات وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد، قال: لأن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام من المسلمين داخلون فيها بلا شك. أي: فيما تضمنته هذه الآية من الوعيد الشديد، ثم وضح هذا فقال: لا شك أن الكفار من شرقيين وغربيين، هؤلاء أعداء رب العالمين، وهم كفار بلا شك، ومن أراد أن يطيعهم في بعض الأمر، وأن يأخذ ببعض ما هم عليه في بعض الأمر، في شيء من الأشياء، في قضية من القضايا، فقد تحقق فيه مدلول هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ [محمد:25-26] من أهل الكفر على اختلاف ألوانهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:26-28].

هذا أيضاً إخوتي الكرام ينبغي أن نعيه، وأن ننتبه له، طاعة الكفار، طاعة القوانين الوضعية، طاعة الأنظمة الشيطانية ولو في قضية من القضايا دون أن يرى أنها تساوي شرع الله عز وجل، ودون أن يرى أنها أفضل من شرع الله، ودون أن يحقر شرع الله، إنما هو ملتزم بشرع الله عز وجل في أكثر أموره، لكن في قضية في قضيتين يقول: أنا أخرج من أجل تغير الحياة، وهذا الخروج -انتبهوا إخوتي الكرام- استباحه واستجازه واستحله، فلا شك في كفره، وأما إذا خرج ولا زال أنه يرى أنه عاص، فرحمة الله واسعة، فلا بد من التفريق بين الأمرين، ولذلك سفور المرأة المسلمة إما أن يكون معصية وإما أن يكون كفراً، فإذا خرجت سافرة وترى أنها عاصية، فلا زالت ضمن دائرة الإسلام، لكنها عاصية، وأما إذا استحلت سفورها فقد كفرت بالله عز وجل، كذلك اختلاطها بالرجل ترى أنه حرام، اختلاط الرجل بها يرى أنه حرام، يرجى لهما الخير ولو بعد حين، أما إذا استحل أحد منهما ذلك فلا شك في كفره وردته، هذا لا بد من وعيه، فمن استحل شيئاً من ذلك دون أن يرى أنه مساوٍ لشرع الله، دون أن يرى أنه أفضل من شرع الله، دون أن يرى أن حكم الله لا يصلح، فهو كافر.

هذه هي الحالة الرابعة، يقول: شرع الله هو الحق، لكن هذه لا مانع أن نأخذ بها لتغير الحياة التي نعيش فيها، فلا شك في كفره وردته، فلننتبه لهذا إخوتي الكرام! وكما ذكر الشيخ عليه رحمة أن كثيراً من المسلمين ينطبق عليهم هذا الوصف اللعين، ينتمي إلى الإسلام ويقول لمن كرهوا ما أنزل الرحمن: سنطيعكم في بعض الأمر! مرة بعض العتاة من الطغاة الطواغيت في هذه الأوقات سئل عن موضوع الخمر، وأنه إذا كانت البلدة بلدة العلم والإيمان، كيف يستباح فيها الخمر الذي حرمه الرحمن؟ كيف يباع ويرخص من قبل الدولة؟! بلدة علم وإيمان يباع فيها الخمر الذي حرمه الله في القرآن؟! فاستمع لجواب الشيطان، قال: هذا الخمر يباع ويرخص في بيعه، لا لأهل البلاد، نحن لا نقول لأهل البلاد: اشربوا! إنما البلاد يأتي إليها من يأتي من الوافدين ممن يأتون للسياحة، للنزهة، للفرجة، لعمل دبلوماسي شيطاني.. هؤلاء الذين يشربون الخمور في بلادهم، فنحن إذا منعنا الخمر في بلادنا فلن يأتوا إلينا، إذاً يرخص فيها بنية فقط أن يشربها أولئك، لا ليشربها أهل البلاد!

هذا لو كان صادقاً فيما يقول في هذه القضية، فلا شك في ردته وكفره، هذا لو كان صادقا فيما يقول في هذه القضية، (سنطيعكم في بعض الأمر)، يعني: نرخص فيها في مجال مضيق من أجل أن نحصل خيراً ومغنماً، (والله يعلم إسرارهم).

الحالة الخامسة -إخوتي الكرام- من الأحوال التي إذا خرج الإنسان فيها عن شرع ذي العزة والجلال، كفر بالكبير المتعال: أن يستخف ويعاند، ويستهزئ ويعارض، يستخف بشرع الله، ويعاند أحكام الله، يستهزئ بها، يعارضها، يسفهها، وأول من اتصف بهذا الوصف الذميم وهو إبليس اللعين، فهو أول من استخف وعاند، وأول من استهزأ وعارض، وما أكثر الأبالسة في هذه الأيام!

إخوتي الكرام! عند الحالة الخامسة والحالة السادسة نقف وأتكلم عليهما في موعظة الغد بعون الله جل وعلا، وبعد أن ننتهي منهما إن شاء الله سنتدارس الآيات الثلاث، وأوجهها حسب ما تقدم معنا من تفصيل في ثلاثة أحوال لمن يخرج عن شرع ذي العزة والجلال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

أختم الكلام إن شاء الله غداً على هذا الموضوع بعون الله وتوفيقه لنبدأ بعد ذلك في المواعظ الآتية بتراجم أئمتنا الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.