خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/129"> الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/129?sub=66145"> شرح العقيدة الطحاوية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح العقيدة الطحاوية [97]
الحلقة مفرغة
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله على النعمة بهذا الدين، نحمد الله أن جعلنا من أتباع خير المرسلين، لا شك -أيها الإخوة- أنها منة كبيرة ونعمة عظيمة، أن هداكم الله، وأقبل بقلوبكم، ومنّ عليكم بمعرفته، وبمعرفة دينه، وبمعرفة نبيه، ووفقكم للقبول وللاتباع، فقد رأيتم وقد سمعتم الفئام والأعداد الكبيرة الكثيرة الذين أُتوا علوماً، ولم يُؤتوا فهوماً، أوتوا أذهاناً وقلوباً ولم يؤتوا زكاءً؛ أذكياء ولكنهم ليسوا أزكياء، منّ الله عليهم بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن لم تغن عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
وما أكثر المنحرفين الذين رأوا الحق فحادوا عنه إما عن عمد وإما عن خطأ، وما أكثر الضالين المنكرين وهم يعلمون! فإذا وفق الله العبد ومنّ عليه وأقبل بقلبه فتلك نعمة عظيمة عليه أن يعرف قدرها، وعليه أن يشكر ربه عليها، ونحن إذا قرأنا وسمعنا ما يمر علينا في هذه الكتب وفي هذه الأخبار نرى العجب العجاب! هؤلاء من أهل العقول، ومن أهل الأفهام، ومن أهل الذكاء ومع ذلك يتركون الحق جانباً! ويتركون الحق وهم يرونه، ويرتكبون سبل الضلال!
ونحن نسمع وتسمعون أخباراً في القريب والبعيد عن فئام من الناس قد كان آباؤهم على جهل؛ ولكن هم قد زال عنهم الجهل، كان آباؤهم على ضلال، ولكن هم أبصروا الهدى وعرفوه، ومع ذلك تشبثوا بسنن الآباء والأجداد وبعاداتهم! وصدق الله القائل: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].
مر بنا في الدرس الماضي أن في الزمان القديم بل وفي هذه الأزمنة من يعظمون البله، ورووا فيهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله!)، وهذا الحديث لم يثبت؛ فهو حديث ضعيف، ولو نشروه، ولو اشتهر في مؤلفاتهم، فإنه لا حقيقة له، والأبله هو: ضعيف العقل، وأقل أحواله أن يكون مجنوناً ساقطة عنه التكاليف، فأما كونهم يُرفعون فوق الأبرار وفوق المقربين ويكونون أكثر أهل الجنة فإن هذا من الكذب.
ونحن نعرف أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر من يدخل الجنة هم الضعفاء والفقراء والمساكين الذين ليس لهم أموال تشغلهم، ولا تجارات يحاسبون عليها فيتأخرون، ولكن أهل الأموال يتأخرون في الحساب؛ ولذلك جاء في الحديث: (وأهل الجد محبوسون) يعني: أهل الحقوق محبوسون- يعني: للحساب- فأما أن يكون البله الذين هم ضعفاء العقول أكثر أهل الجنة فليس بصحيح، ثم لما فشا هذا الأمر عند كثير من الجهلة تشبثوا وتعلقوا بهؤلاء ضعفاء العقول، وصاروا يرفعون من شأنهم، ويعتقدون أن قولهم تنزيل من الله، وأن أفعالهم وحي من السماء، وأنهم معصومون، وأن أقوالهم متبعة، وأنهم صفوة الله من خلقه، فصاروا يتبعونهم، ويطيعون إشاراتهم وحكاياتهم، ولو كانت مخالفة للشرع، ولو كانت مخالفة للعقول السليمة!
وهذا بلا شك من الانحراف العقدي، ومن المخالفة للكتاب وللسنة؛ وذلك لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بسنته وسيرته، ونقتفي كتاب ربنا وسيرة نبينا، ونتمسك بذلك، ونلقي ما عدا ذلك خلف الظهور مهما كان القائل، ومهما كان المخالف، فكل ما خالف شرع الله تعالى فلا يلتفت إليه، وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
فطرق المتصوفة، وكذلك الملاحدة، والاتحاديون، وكذلك الطرقية ونحوهم من الصوفية الذين من جملة بدعهم تصفيقهم ورقصهم ونشيدهم ولهوهم ولعبهم وغير ذلك من البدع التي اتخذوها ديناً وما أنزل الله بها من سلطان.
كذلك أيضاً من المعلوم أنهم قد يلابسهم الشيطان، وقد يجري على أيديهم شعوذةً وأشياء تكون غريبة يموهون بها على العوام، ويوهمون من رآهم بأنهم على حق، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء تخالف عادات الناس، فلا جرم أنه لا يجوز أن يغتر بهم، وقد مر بنا الأثر المنقول عن الليث رحمه الله أنه كان يقول: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.
فـالشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث ! بل لو رأيت صاحب هوىً يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.
فهؤلاء المشعوذون ونحوهم لو طاروا في الهواء، ولو مشوا على الماء، ولو أخرجوا الذهب من الخشب، ولو قلبوا الحجر ذهباً فنقول: لا نغتر بهم -بل نعتقد أن ذلك شعوذة وعمل شيطاني- حتى نعرض أمرهم على كتاب ربنا وسنة نبينا، فهما الميزان الذي يرجع إليه، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالرد إلى الله: الرد إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنته بعد موته، فما وافقهما فهو الصواب، وإلا فهو مردود على من جاء به، وأما هؤلاء الذين يسير خلفهم هؤلاء الضعفاء، ويعتقدون أنهم قد ارتقت قلوبهم، وقد تقربت إلى ربها، وقد سقطت عنهم التكاليف، وقد وصلوا إلى حظيرة القرب، وقد أطلعهم الله على اللوح المحفوظ، وقد صار لهم تمكن كما يزعمون أن يأخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة ما توحيه إلى الرسل ونحو ذلك من الخرافات، فمثل هذه لا يلتفت إليها؛ بل مرجعنا هو شرع الله ودينه، وقد ذكرنا أن هذه الأمور فاشية منذُ أزمنة، وأن لهم حكايات ينقلونها، ومع ذلك يستشهدون بها.
ولا شك أن هناك من يسمون بالمجانين وليسوا مجانين، ولكن لما رآهم عوام الناس قد زهدوا في الدنيا واشتغلوا بالأعمال الصالحة سموهم مجانين!
ولكنهم في الحقيقة حكماء، وأما بعض المتأخرين الذين نقلت عنهم أقوال شنيعة فإنهم ولو كانوا عقلاء فهم أقل حالة من المجانين، وهم من البله والسفهاء وضعفاء العقول، فالمرجع في ذلك إلى ما يقوله علماء الشريعة، وعلماء الملة الذين هم أعرف بالله وبما جاء عن الله تعالى.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر! والصراط المستقيم بين ذلك.
وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وكما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم.
ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن تكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، ومن كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه، وكذلك من جن من المؤمنين المتقين، يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين.
وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولهاً أو متولهاً، لا يوجب مزيد حال، بل حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده أو ينقصه، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله.
وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه فذلك شيطان يتكلم على لسانه، كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله -كما يظنه كثير من أهل الضلال-؟! حتى قال قائلهم:
هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل
وهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه؛ لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشفه أو خرق عادة كان ولياً لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور].
نعمة العقل
فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6] يعني: نظر عبرة، وقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها.
وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟
الجواب: ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم.
كتابة الحسنات للمجانين
الجواب: لا تكتب لهم حسنات، ولا تكتب عليهم سيئات، ولكن تسقط عنهم التكاليف، وثوابهم في الآخرة على ما يشاء ربنا، فيمكن أن يلحقوا بأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، أو الذين لم يدركوا رسلاً قبلهم، ولم يأتهم رسل في زمان الفترة، فإنهم يقولون: يا رب! ما جاءنا بشير ولا نذير، وما بلغتنا دعوة الرسل، فكيف تعذبنا؟! فيقول الله تعالى: أرأيتم إذا أمرتكم أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك؟ فتمثل لهم نار تشتعل، فيقول: ادخلوا هذه النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وصار من أهل الجنة، ومن امتنع أن يدخلها قال الله له: هذا وأنا الذي أمرتك، فعصيت أمري، فكيف لو جاءتك رسلي؟! فعلم الله في هؤلاء أنهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب، فالمجانين الذين ولدوا مجانين، أو أصابهم الجنون بعد الولادة وقبل التكليف، وبقوا على ذلك، فهؤلاء يلحقون بأهل الفترات، ويمتحنون في الآخرة.
أما أن يقال: إنهم مقربون، أو إن لهم مكانة عند الله، أو إنهم من أهل الزلفى، أو إنهم ممن وصلوا إلى حظيرة القدس! فإن هذا كذب؛ بل هم أقل حالة بكثير من العقلاء، ولا شك أنهم عادةً إذا أصاب أحدهم الجنون في أثناء حياته، فإن كان قبل إصابة الجنون من أهل الفسوق، ومن أهل المعاصي، ومن أهل الذنوب، ومن أهل الجرائم الذين يسكرون، ويقتلون، ويسرقون، ويهجرون، فإنه إذا جُنّ يصير هذيانه فيما كان يفعله من قبل، فتراه يتكلم بأفعاله الشنيعة من فعل الفواحش والمنكرات ونحوها، وإذا ارتاح في وقت من الأوقات ورجع إليه عقله في حين من الأحيان فإنه يعود إلى غيه، كما قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى قوله كدبٍّ عاد إلى نكسه
أما إذا كان قبل الجنون من أهل الإيمان والأعمال الصالحة، وأهل التقوى؛ فإنه -والحال هذه- إذا أصيب بالجنون ثم بقي على جنونه أصبح معذوراً، ولا تزيد حسناته في حالة جنونه؛ بل يرفع عنه التكليف، وعادة أنه يهذو بما كان يعمله، فيتكلم في الحسنات، ويتكلم في القربات، وما أشبه ذلك، وهذا في المجنون الذي فقد العقل فقداً كلياً، وإذا عرفنا أن هذا الجنون نقص حقيقيٌّ فإننا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تذهب عقله، فنقول: لماذا حُرم شرب المسكرات؟ الجواب: لأن المسكر يزيل هذا العقل، ولو إزالة مؤقتة.
فالشيء الذي يزيل عقل الإنسان ويلحقه بالبهائم ينبغي مباعدته ومحاربته، فهؤلاء الذين يتعاطون أشياء تزيل عقولهم عمداً سواءً كان ذلك الشيء من المحرمات كالإسكار وما أشبهه، أو من غيرها نقول: إنهم هم السفهاء، ولا يرضى عاقل فعل السفهاء، ولا يرضى أن يتعاطى شيئاً يذهب عليه عقله.
الرد على أصحاب الفناء
فهذا الفناء هل حصل للصحابة؟!
الجواب: لم يحصل، ولم يحصل للتابعين لهم بإحسان، ولم يحصل لأئمة الدين، وإنما وجد في هؤلاء المتصوفة الغلاة الذين يزعمون أن سببه هو هذا التواجد، ويقولون: إن أحدهم يتصل قلبه بربه، وأنه يفنى عن نفسه، ولا يشعر بحالته، ويقولون: يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، يفنى بموجوده عن وجوده، موجوده يعني: نفسه، أي: أنه يفنى بنفسه في ربه، ويفنى من لم يكن هو الإنسان، ويبقى من لم يزل، ويتصل روحه بالملأ الأعلى، هذا معنى الفناء، وهو بدعة من بدع المتصوفة، ومع ذلك فإنهم يعدونه رقياً، ويتمدحون به، ويزعمون أنه درجة رفيعة، وأنه درجة متمكنة لا يصل إليها إلا الخواص!
كذلك أيضاً من أحوال المتصوفة، أن أحدهم إذا تليت عليه آيات أو مواعظ أو كلمات أو نحوها يصعق، ويزعم أن ذلك مما لا يطيق الصبر عليه، وهذا الصعق لم يُؤثر عن الصحابة، ولا عن أئمة الدين، بل كانوا كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم يزيدهم القرآن خشوعاً، ويخضعون له ويسجدون، قال عز وجل: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقال: إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، وقال: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] أي: تخشع قلوبهم، وتزيدهم الآيات إيماناً، هذه هي أوصاف أولياء الله، وهذا هو النص الحقيقي للمؤمنين، فأما أن يصل إلى أنه يصعق أحدهم أو يغمى عليه، فهذا أقل أحواله أن يكون معذوراً، وأن يكون الذي غلبه هو شدة الخوف، أو على ما يقول الصوفية: شدة التواجد، فلا شك أن هذا ليس أشرف حالاً من حال الصحابة والأئمة المهتدى والمقتدى بهم. وأما ما ذكر عن أحوال هؤلاء الذين ذكرهم هذا الشاعر، وأن العقول تسجد على أبوابهم .. إلى آخره، فإن ذلك بلا شك كفرٌ وضلال، فنقول: لا تسجدوا إلا لله، وهذا التواجد الذي يحصل لهم كله خطأ لا أصل له.
فالمسلم يتقيد بأوامر الشرع، ويبتعد عن الأشياء التي لا أصل لها، وأما من يسمون بالملامية الذين ذكرهم، وأنهم الذين يفعلون الأشياء التي يلامون عليها، ويتعمدون ذلك؛ فهؤلاء من المنحرفين؛ واللوم في الأصل هو: أن يفعل الإنسان شيئاً لا يحسن بحيث يلام عليه، وقد ذم الله تعالى ذلك، ففي قوله تعالى في قصة فرعون: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:38-40] أي: آثم بما يلام عليه، يعني: مستحق للوم الذي سبب أنه عذب به.
ثم هؤلاء يقولون: إنهم يفعلون هذه الأشياء، حتى إنهم يتعمدون أن يلاموا عليها، وليس في ذلك أصل من دين الله، فلا يغتر بمثل هذه الطرق التي لا أصل لها في شريعة الله.
لا شك أن العقول نعمة من الله على الإنسان، وأنه سبحانه منّ على هذا النوع الإنساني بأن ميزه بهذا الفهم، وهذا الإدراك، وهذا العقل الذي كلّفه لأجله، فالله تعالى ما كلف البهائم والدواب والوحوش والحشرات وبهيمة الأنعام؛ لأنها ليس لها عقول.
فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6] يعني: نظر عبرة، وقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها.
وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟
الجواب: ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم.
هل تكتب للمجانين حسنات؟
الجواب: لا تكتب لهم حسنات، ولا تكتب عليهم سيئات، ولكن تسقط عنهم التكاليف، وثوابهم في الآخرة على ما يشاء ربنا، فيمكن أن يلحقوا بأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، أو الذين لم يدركوا رسلاً قبلهم، ولم يأتهم رسل في زمان الفترة، فإنهم يقولون: يا رب! ما جاءنا بشير ولا نذير، وما بلغتنا دعوة الرسل، فكيف تعذبنا؟! فيقول الله تعالى: أرأيتم إذا أمرتكم أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك؟ فتمثل لهم نار تشتعل، فيقول: ادخلوا هذه النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وصار من أهل الجنة، ومن امتنع أن يدخلها قال الله له: هذا وأنا الذي أمرتك، فعصيت أمري، فكيف لو جاءتك رسلي؟! فعلم الله في هؤلاء أنهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب، فالمجانين الذين ولدوا مجانين، أو أصابهم الجنون بعد الولادة وقبل التكليف، وبقوا على ذلك، فهؤلاء يلحقون بأهل الفترات، ويمتحنون في الآخرة.
أما أن يقال: إنهم مقربون، أو إن لهم مكانة عند الله، أو إنهم من أهل الزلفى، أو إنهم ممن وصلوا إلى حظيرة القدس! فإن هذا كذب؛ بل هم أقل حالة بكثير من العقلاء، ولا شك أنهم عادةً إذا أصاب أحدهم الجنون في أثناء حياته، فإن كان قبل إصابة الجنون من أهل الفسوق، ومن أهل المعاصي، ومن أهل الذنوب، ومن أهل الجرائم الذين يسكرون، ويقتلون، ويسرقون، ويهجرون، فإنه إذا جُنّ يصير هذيانه فيما كان يفعله من قبل، فتراه يتكلم بأفعاله الشنيعة من فعل الفواحش والمنكرات ونحوها، وإذا ارتاح في وقت من الأوقات ورجع إليه عقله في حين من الأحيان فإنه يعود إلى غيه، كما قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى قوله كدبٍّ عاد إلى نكسه
أما إذا كان قبل الجنون من أهل الإيمان والأعمال الصالحة، وأهل التقوى؛ فإنه -والحال هذه- إذا أصيب بالجنون ثم بقي على جنونه أصبح معذوراً، ولا تزيد حسناته في حالة جنونه؛ بل يرفع عنه التكليف، وعادة أنه يهذو بما كان يعمله، فيتكلم في الحسنات، ويتكلم في القربات، وما أشبه ذلك، وهذا في المجنون الذي فقد العقل فقداً كلياً، وإذا عرفنا أن هذا الجنون نقص حقيقيٌّ فإننا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تذهب عقله، فنقول: لماذا حُرم شرب المسكرات؟ الجواب: لأن المسكر يزيل هذا العقل، ولو إزالة مؤقتة.
فالشيء الذي يزيل عقل الإنسان ويلحقه بالبهائم ينبغي مباعدته ومحاربته، فهؤلاء الذين يتعاطون أشياء تزيل عقولهم عمداً سواءً كان ذلك الشيء من المحرمات كالإسكار وما أشبهه، أو من غيرها نقول: إنهم هم السفهاء، ولا يرضى عاقل فعل السفهاء، ولا يرضى أن يتعاطى شيئاً يذهب عليه عقله.