شرح العقيدة الطحاوية [96]


الحلقة مفرغة

إن السحرة والكهنة والمشعوذين والمنجمين والعرافين هم خدمة الشياطين، أو هم رسل الشياطين، أو هم من شياطين الإنس الذين يخدمون شياطين الجن، وهؤلاء -مع الأسف- قد كثروا وتمكنوا، وبالأخص في الأزمنة المتأخرة؛ وكثرتهم سببها: ضعف الدين في القلوب، وضعف الإسلام والعاملين به في المجتمعات؛ وذلك أنهم كلما قوي المسلمون وكلما قويت العقيدة ضعفوا وضعف وجودهم، أو انقطعوا، أو كادوا أن ينقطعوا. ولقد كانوا قبل الإسلام موجودين بكثرة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين الاستراق؛ حتى ينقطع وحي الشياطين، وحتى ينقطع ما تسمعه الكهنة من أوليائها، وحتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويلتبس وحي الرحمن بوحي الشيطان، وفي بعض الأحاديث: أن بعض الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فرمي بكوكب -وهو الشهاب الذي يُرمى به- فسألهم صلى الله عليه وسلم: (ما تقولون في هذا النجم الذي رمي به؟)، فلم يقولوا شيئاً، فأخبرهم: بأن الشياطين كانت تسترق السمع، وتنزل إلى الكهنة بما تأخذه من الملائكة، فتخبرهم بأن الملائكة تحدثت بكذا، وأنه سيحدث كذا وكذا، ولما أنزل الله وحيه على النبي صلى الله عليه وسلم كثرت حراسة السماء، ورجمت الشياطين، واشتكوا إلى رئيسهم الذي هو إبليس، وقالوا: منعنا من السماء، ومنعنا من استراق السمع، فأرسل من يسأل ويستفصل: ما السبب؟ إذ لابد أن يكون هناك سبب، ثم إنهم وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فاستمعوا إليه، ورجعوا إلى قومهم، وقالوا: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]، ورجع الذين استمعوا القرآن إلى أوليائهم وقالوا: عرفنا السبب الذي لأجله حرست منا السماء، وهو بعث هذا النبي، فآمنوا به كما حكى الله عنهم قولهم: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [الجن:13].

وبكل حال في ذلك الوقت حرست السماء حراسة شديدة؛ لقوة الإسلام، ولحماية الوحي من السماء، ولما ضعف العمل بالشريعة، وضعف التمسك بها؛ قوي وجود الكهنة، وقوي استراق الشياطين والجن للسمع، ونزولهم إلى أوليائهم من الكهنة والسحرة، فكثروا حينئذٍ، وصار الناس يشجعونهم، حيث يأتون إليهم، ويقولون: أخبرنا بكذا وكذا، فإذا أخبرهم بما توحيه إليه الشياطين قدسوه وعظموه، وقالوا: هذا هو الذي يعرف، وهذا هو العارف، وهذا هو العرّاف، ولا يزال الناس يترددون إليه، وما ذاك إلا لضعف الإسلام، وقد مر بنا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، ولو كان ذلك الكاهن يخبر بأشياء مثل أن يخبر بمكان الضالة، ويخبر بمكان المسروق، أو بعين السارق، أو ما أشبه ذلك، فنقول: هذا مما يستوحيه من شياطينه، والواجب على الإنسان أن يلجأ إلى الله، وألا يصدق هؤلاء الكهنة.

والسحرة أيضاً قد تمكنوا، وقد كثروا مع الأسف، وأضروا بكثير من الناس، وكثر الذين يشتكون، وكثر الذين يقول أحدهم: إنه أصيب بكذا، أو أصيبت ابنته بكذا، بصرف أو بعطف، أو ببغض لبيتها أو ببغض لزوجها أو لأهلها، أو أصيب الرجل بضيق كلما دخل إلى بيته؛ بحيث إنه يصير محشرجاً، ويصير كأنه في سجن حتى يفارق بيته، أو حيل بينه وبين امرأته؛ بحيث إنه لا يقدر على إتيانها أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي يكثر الشكاة لها، ما أكثر الذين يشتكون أنه أصيب أحدهم بكذا وكذا، وأنه أصيب بهذا الصرف، وأصيب بهذه المصائب التي لا شك أنها من عمل الشياطين، ونقول: ما السبب في كثرة هذه المصائب؟ وما السبب في إصابة هؤلاء بهذه الأمور؟

لا شك أن السبب هو: ضعف الإيمان، فمتى كنت مؤمناً، ومتى كنت مسلماً متمسكاً بإسلامك فثق بأن الله يحرسك، وأنه يحميك من كيد هؤلاء السحرة ومن ضربهم.

وما يصاب غالباً بهذه الأمور الشيطانية إلا ضعاف الإيمان، نشاهد أن أكثر الذين يشتكون إما من جن أصابه أو أصاب ابنته، وإما من صرف، وإما من سحر أو نحو ذلك هم من العصاة والفسقة، وإما من الجهلة، وإما من العامة الذين لا يتحصنون، أما أهل التحصن فإن الله يحميهم بما يتحصنون به.

كيفية التحصن من كيد السحرة والشياطين

إذا أردت أن تكون في حصن حصين من عمل وكيد الشياطين وعمل السحرة فعليك أن تتحصن بالأشياء التي تحفظك:

أولها: تحقيق العقيدة السليمة، وهي: كونك تصدق بأن الله هو النافع الضار، وتصدق بأنه هو الذي يحمي العباد إذا تحصنوا به.

ثانيها: كثرة ذكر الله في كل الأحوال؛ فلا تغفل عن ذكر الله فإنه يطرد الشياطين.

ثالثها: الدعاء، فعليك أن تدعو بما يحضرك من الأدعية النافعة التي يكون فيها حفظ لك وحفظ لأهلك وحفظ لبيتك.. ونحو ذلك.

رابعها: قراءة كتاب الله وكثرة تدبره وتكراره، فإنه حصن لمن قرأه وتحصن به.

خامسها: حماية منزلك من آلات اللهو والملاهي كلها، وعن المعاصي ونحوها؛ فإن الشياطين تألف تلك الأماكن وتلك البيوت الممتلئة بالملاهي، والممتلئة بآلات الفساد ونحوها، فإذا كان المنزل خالياً من هذه الأشياء فإن الملائكة هي التي تعمره، ولا تجتمع الملائكة والشياطين.

الطرق الجائزة في علاج السحر

شياطين الجن والسحرة ونحوهم قد يسلطون أولياءهم على بعض المتعففين أو على بعض المتمسكين، يريدون بذلك إضراره ورده عما هو عليه، فالحيلة في إبطال هذا الكيد علاجه، ولا شك أنه لا علاج له إلا العلاج الرحماني وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز علاجه بإتيان السحرة، ولا بطلبهم أن يفكوا عنه، ولا العلاج بمثله من السحر، وإذا عرف الساحر فإنه يقام عليه الحد: (حد الساحر ضربه بالسيف)، فلا يجوز إقراره، فكيف يُؤتى إليه ويقال: فلان مصاب فعليك أن تعالجه!

فلا يجوز ذلك، إنما نعالجه بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالأدعية النافعة، وبالأدوية المباحة.

ولقد تكلم العلماء على بعض العلاجات النافعة، فتكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله عندما فسر سورتي المعوذتين في كتابه (بدائع الفوائد)، فإنه فسر سورتي المعوذتين، وأتى على قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وأطال الكلام على السحر، وعلى ذكر حقيقته، وعلى ما قيل فيه، ثم تكلم عن فك السحر وحلّه عن المسحور وهو المسمى بالنشرة، وذكر الآثار في ذلك، فذكر الحديث الذي روي بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان)، وقال: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهو قسمان:

حلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل كلام الحسن البصري أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، وصفته: أن الساحر والمسحور كل منهما يتقرب إلى الشيطان بما يحب، فأما أن يدعو الشيطان، وإما أن يطيع الشيطان، حتى يبطل عمله عن المسحور، فهذا حرام، وهذه هي النشرة المحرمة؛ لأن الناشر والمنتشر يتقربان إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.

الثاني: العلاج بالقراءة وبالأدعية وبالأوراد وبالآيات.. ونحوها؛ فهذا لا بأس به، وهو داخل في كون القرآن شفاءً كما وصفه الله؛ فإن الله تعالى وصف القرآن بأنه شفاء في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، ولهذا إذا قرئ على المصاب بجن أو بسحر، وكان ذلك المصاب عاصياً أو فاسقاً أو متصفاً بخروج عن الطاعة لم تؤثر فيه القراءة حتى يقلع عن معصيته، أو حتى يعلن التوبة وعدم الرجوع، فهنالك يشفى بإذن الله تعالى عملاً بهذه الآية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وقوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82] فهذا هو العلاج.

وقد ذكر ابن القيم وابن كثير أنواعاً من العلاجات، وابن كثير تكلم على السحر وأطال عليه في تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ.. [البقرة:102] إلى آخر الآية، وتكلم على قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] يعني: أن من السحر ما يسبب البغضاء بين الزوجين، والزوجان -غالباً- يكونان متآلفين، فالساحر يقدر بعمله الشيطاني على أن يوقع بينهما الوحشة، وأن يسبب الفرقة بينهما، أو يعمل عملاً يحجز به الزوج عن امرأته ويحبسها فلا يقدر على جماعها، فذكروا علاجاً وصفه ابن كثير ونقله عمن نقله من السلف، وهذا بلا شك من الأشياء المجربة، ذكر أنه يؤخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فتضرب بين حجرين، ثم يصب عليها ماء، ويقرأ فيها سورتي الكافرون والإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والمعوذتين، وآية الكرسي، وآيات السحر الثلاث:

في سورة الأعراف قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ.. [الأعراف:118-119]، وقوله تعالى في سورة يونس: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:80-81]، وقوله تعالى في سورة طه: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68-69]، فيكرر المصاب أو المحبوس عن امرأته قراءتها، وسيفك ذلك عنه بإذن الله إذا توافرت الشروط.

وهناك آيات أخرى غير هذه، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سبعاً وثلاثين آية في القرآن فيها قول: لا إله إلا الله، من قرأها فإنه يُحمى من كيد الشياطين ونحوه، وأنه لا يضره سحر في ذلك اليوم إذا قرأها كورد في الصباح أو في المساء، يعني الآيات التي فيها التهليلات، وتسمى: تهليلات القرآن.

وعلى كل حال فالقرآن كله شفاء كما وصفه الله تعالى، وإن كان فيه آيات تخص قراءتها، وتكون حرزاً للمؤمنين ودعاءً، وكذلك أيضاً الأحاديث النبوية، وقد جمع العلماء متقدميهم ومتأخريهم أدعية من الكتاب والسنة، وجعلوها كأوراد، وقراءتها قبل المرض تكون حفظاً بإذن الله، وبعد المرض تكون علاجاً.

وقد أصيب بعض الإخوان واشتكى أنه تصيبه حشرجة وضيق في صدره؛ بحيث إنه لا يستقر ولا ينشرح باله إذا دخل منزله، فعمد إلى الورد المطبوع المشتهر الذي اسمه: (الورد المصفى المختار) الذي جمعه الملك عبد العزيز رحمه الله، يقول: أخذت هذا الورد، وجعلت أقرأه قبل أن أنام، إذا جلست على فراشي قرأته من أوله إلى آخره، وإذا أصبحت قرأته من أوله إلى آخره في المصلى، وأنا رافع يدي ومخبت قلبي، قال: فما لبثت إلا شهراً أو أقل من شهر حتى زالت عني تلك الوحشة، واتسع قلبي، وزال عني ما أجد من ذلك الضيق!

وهذا دليل على أن كتاب الله وسنة نبيه والأدعية والأوراد سبب في الشفاء إذا وقع المرض، وسبب في الحمية والعصمة والحماية منه قبل وقوعه.

إذا أردت أن تكون في حصن حصين من عمل وكيد الشياطين وعمل السحرة فعليك أن تتحصن بالأشياء التي تحفظك:

أولها: تحقيق العقيدة السليمة، وهي: كونك تصدق بأن الله هو النافع الضار، وتصدق بأنه هو الذي يحمي العباد إذا تحصنوا به.

ثانيها: كثرة ذكر الله في كل الأحوال؛ فلا تغفل عن ذكر الله فإنه يطرد الشياطين.

ثالثها: الدعاء، فعليك أن تدعو بما يحضرك من الأدعية النافعة التي يكون فيها حفظ لك وحفظ لأهلك وحفظ لبيتك.. ونحو ذلك.

رابعها: قراءة كتاب الله وكثرة تدبره وتكراره، فإنه حصن لمن قرأه وتحصن به.

خامسها: حماية منزلك من آلات اللهو والملاهي كلها، وعن المعاصي ونحوها؛ فإن الشياطين تألف تلك الأماكن وتلك البيوت الممتلئة بالملاهي، والممتلئة بآلات الفساد ونحوها، فإذا كان المنزل خالياً من هذه الأشياء فإن الملائكة هي التي تعمره، ولا تجتمع الملائكة والشياطين.

شياطين الجن والسحرة ونحوهم قد يسلطون أولياءهم على بعض المتعففين أو على بعض المتمسكين، يريدون بذلك إضراره ورده عما هو عليه، فالحيلة في إبطال هذا الكيد علاجه، ولا شك أنه لا علاج له إلا العلاج الرحماني وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز علاجه بإتيان السحرة، ولا بطلبهم أن يفكوا عنه، ولا العلاج بمثله من السحر، وإذا عرف الساحر فإنه يقام عليه الحد: (حد الساحر ضربه بالسيف)، فلا يجوز إقراره، فكيف يُؤتى إليه ويقال: فلان مصاب فعليك أن تعالجه!

فلا يجوز ذلك، إنما نعالجه بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالأدعية النافعة، وبالأدوية المباحة.

ولقد تكلم العلماء على بعض العلاجات النافعة، فتكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله عندما فسر سورتي المعوذتين في كتابه (بدائع الفوائد)، فإنه فسر سورتي المعوذتين، وأتى على قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وأطال الكلام على السحر، وعلى ذكر حقيقته، وعلى ما قيل فيه، ثم تكلم عن فك السحر وحلّه عن المسحور وهو المسمى بالنشرة، وذكر الآثار في ذلك، فذكر الحديث الذي روي بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان)، وقال: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهو قسمان:

حلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل كلام الحسن البصري أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، وصفته: أن الساحر والمسحور كل منهما يتقرب إلى الشيطان بما يحب، فأما أن يدعو الشيطان، وإما أن يطيع الشيطان، حتى يبطل عمله عن المسحور، فهذا حرام، وهذه هي النشرة المحرمة؛ لأن الناشر والمنتشر يتقربان إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.

الثاني: العلاج بالقراءة وبالأدعية وبالأوراد وبالآيات.. ونحوها؛ فهذا لا بأس به، وهو داخل في كون القرآن شفاءً كما وصفه الله؛ فإن الله تعالى وصف القرآن بأنه شفاء في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، ولهذا إذا قرئ على المصاب بجن أو بسحر، وكان ذلك المصاب عاصياً أو فاسقاً أو متصفاً بخروج عن الطاعة لم تؤثر فيه القراءة حتى يقلع عن معصيته، أو حتى يعلن التوبة وعدم الرجوع، فهنالك يشفى بإذن الله تعالى عملاً بهذه الآية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وقوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82] فهذا هو العلاج.

وقد ذكر ابن القيم وابن كثير أنواعاً من العلاجات، وابن كثير تكلم على السحر وأطال عليه في تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ.. [البقرة:102] إلى آخر الآية، وتكلم على قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] يعني: أن من السحر ما يسبب البغضاء بين الزوجين، والزوجان -غالباً- يكونان متآلفين، فالساحر يقدر بعمله الشيطاني على أن يوقع بينهما الوحشة، وأن يسبب الفرقة بينهما، أو يعمل عملاً يحجز به الزوج عن امرأته ويحبسها فلا يقدر على جماعها، فذكروا علاجاً وصفه ابن كثير ونقله عمن نقله من السلف، وهذا بلا شك من الأشياء المجربة، ذكر أنه يؤخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فتضرب بين حجرين، ثم يصب عليها ماء، ويقرأ فيها سورتي الكافرون والإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والمعوذتين، وآية الكرسي، وآيات السحر الثلاث:

في سورة الأعراف قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ.. [الأعراف:118-119]، وقوله تعالى في سورة يونس: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:80-81]، وقوله تعالى في سورة طه: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68-69]، فيكرر المصاب أو المحبوس عن امرأته قراءتها، وسيفك ذلك عنه بإذن الله إذا توافرت الشروط.

وهناك آيات أخرى غير هذه، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سبعاً وثلاثين آية في القرآن فيها قول: لا إله إلا الله، من قرأها فإنه يُحمى من كيد الشياطين ونحوه، وأنه لا يضره سحر في ذلك اليوم إذا قرأها كورد في الصباح أو في المساء، يعني الآيات التي فيها التهليلات، وتسمى: تهليلات القرآن.

وعلى كل حال فالقرآن كله شفاء كما وصفه الله تعالى، وإن كان فيه آيات تخص قراءتها، وتكون حرزاً للمؤمنين ودعاءً، وكذلك أيضاً الأحاديث النبوية، وقد جمع العلماء متقدميهم ومتأخريهم أدعية من الكتاب والسنة، وجعلوها كأوراد، وقراءتها قبل المرض تكون حفظاً بإذن الله، وبعد المرض تكون علاجاً.

وقد أصيب بعض الإخوان واشتكى أنه تصيبه حشرجة وضيق في صدره؛ بحيث إنه لا يستقر ولا ينشرح باله إذا دخل منزله، فعمد إلى الورد المطبوع المشتهر الذي اسمه: (الورد المصفى المختار) الذي جمعه الملك عبد العزيز رحمه الله، يقول: أخذت هذا الورد، وجعلت أقرأه قبل أن أنام، إذا جلست على فراشي قرأته من أوله إلى آخره، وإذا أصبحت قرأته من أوله إلى آخره في المصلى، وأنا رافع يدي ومخبت قلبي، قال: فما لبثت إلا شهراً أو أقل من شهر حتى زالت عني تلك الوحشة، واتسع قلبي، وزال عني ما أجد من ذلك الضيق!

وهذا دليل على أن كتاب الله وسنة نبيه والأدعية والأوراد سبب في الشفاء إذا وقع المرض، وسبب في الحمية والعصمة والحماية منه قبل وقوعه.