مقدمة في الفقه - شريعة ربانية وقوانين وضعية [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين!

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقدمة لعلم الفقه الشريف، وقلت: هذه المقدمة ستدور على أمرين اثنين:

الأمر الأول: في بيان معنى علم الفقه وفضله، وقد مر الكلام على ذلك، ونحن نتدارس آخر ما يتعلق بهذا الأمر في هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه.

والأمر الثاني كما تقدم معنا: ترجمة موجزة لساداتنا وأئمتنا الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين.

الأمر الأول إخوتي الكرام -كما قلت- مر الكلام عليه، ونحن الآن في الدرس التاسع من دروس المدارسة كما قلت في هذه المقدمة.

وبدأت فيه بعد أن بينت فضل هذا العلم ومكانته بعد تعريفه أيضاً، وقلت: إنه يحسن بنا بل يجب علينا أن نتدارس الفروق بين شرع الخالق سبحانه وتعالى وشرع المخلوق، وهذه الفروق كما قلت: تحتم علينا وتوجب علينا أن نلتزم بشرع ربنا سبحانه وتعالى، كما تحتم علينا أن نبتعد عن التشريعات الوضيعة الوضعية. وقلت: إخوتي الكرام! إن الأمر معروف لا يرتاب فيه اثنان، إنما من باب البيان فقط، وإلا لا مقارنة بين شرع الخالق وشرع المخلوق، وقلت: فضل شرع الخالق على شرع المخلوق كفضل الله سبحانه وتعالى على المخلوق.

إخوتي الكرام! كما قلت: الفروق كثيرة، وسأوجزها في خمسة عشر فرقاً، غالب ظني أننا تدارسنا اثني عشر فرقاً منها، أذكرها سرداً، ثم نتدارس الفروق الثلاثة الباقية.

أولها: -كما تقدم معنا إخوتي الكرام-: أن شرع ربنا مستمد من خالقنا، مستمد منه سبحانه وتعالى، وبينت ما في هذا من فائدة ومعنىً معتبر، فشرع الله مستمد من خالقنا، من ربنا، من سيدنا ومالكنا.

الأمر الثاني: أن شرع الله صاحبه علم تام، كيف لا والله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى.

الأمر الثالث: أن صاحبه حكمة تامة وهي وضع كل شيء في موضعه، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وقد أحسن خلقه وشرعه، فما ترى في خلقه من تفاوت، كما أنك لا ترى في شرعه من تناقض وتضارب.

الأمر الرابع: فيه هدى ونور، وإرشاد العباد إلى أقوم الأمور.

الأمر الخامس: فيه خير وبركة، وتقدم معنا أن هذه الخيرية وهذه البركة هي أعظم ما منَّ الله به علينا من الخيرات، فنعمة الله علينا بنعمة الهداية والإرشاد أعظم علينا من نعمة الخلق والإيجاد.

الفرق السادس: أن هذا الشرع صاحبه رحمة واسعة، فهو شرع الخالق إلى عباده، إلى مخلوقاته.

الأمر السابع: أنه لا تناقض فيه ولا تضارب، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، والتشريعات الوضيعة الوضعية متناقضة متضاربة فاسدة.

الفرق الثامن: أنه أحسن الحديث، وهو من الله القوي العزيز سبحانه وتعالى.

الفرق التاسع: أن شرع الله فيه حياة أرواحنا، وهو روح هذا العالم وروح الوجود.

الفرق العاشر: أنه هو المهيمن الرقيب الشاهد المتطلع على ما سواه، يقر ما في سواه من حق ويبطل ما فيه من باطل.

الفرق الحادي عشر: أنه محترم مقدس.

الفرق الثاني عشر: أنه مصون من التغيير والعبث.

وهذه الفروق: مر الكلام عليها، ووصلنا إلى الفرق الثالث عشر من الفروق بين شرع الخالق والمخلوق.

الفرق الثالث عشر: شرع الله جل وعلا تتسع نصوصه لما جد، ولما سيجد إلى قيام الساعة، فهي نصوص محددة لكنها تحتمل معاني كثيرة لما يقع من حوادث، فنلحق النظير بالنظير حسب ما وُجد من نصوص بعد ذلك عامة من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، تشمل الوقائع.. الواقعة في مستقبل الزمن إلى قيام الساعة.

وقد تقدم معنا إخوتي الكرام! في تعريف الفقه أنه: العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية.

إذاً: عندنا أدلة تفصيلية، قواعد تستنبط منها تلك الأحكام الشريعة لكل واقعة تقع في هذه الحياة إلى لقاء رب الأرض والسموات.

وعليه فالأمر كما قال أئمتنا: إن الثروة الفقهية هي من أعظم معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام خير البرية، فهي معجزة عظيمة تفوق سائر المعجزات، وهي أن هذا التشريع صالح لكل زمان ومكان، ويتسع لجميع الحوادث التي تقع في مستقبل الزمان، هذه المعجزة هي أعظم وأبلغ من المعجزات التي فيها إخبار بغيب، ووقع كما أخبر ربنا ونبينا عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم أيضاً من المعجزات التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام عن طريق الفتوحات والانتصارات التي أيده الله بها، هذه حقيقة المعجزة: كلام وجيه بليغ يشمل لكل حادثة تقع إلى قيام الساعة، بحيث أي حادثة تقع وتجد يمكن أن تدرجها ضمن نص شرعي من كتاب الله وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.

حقيقة هذه ثروة عظيمة، كما قال شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، في الجزء الرابع صفحة ست وتسعين ومائتين، قال: إنها ثروة عظيمة لا تفنى جِدَتُها، ولا تبلى جِدَّتُها، هي غنية لا تفنى كنوزها، والنضرة والبهجة والحيوية فيها لا تبلى، كأن النص الذي نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام من خمسة عشر قرناً، كأنه نزل في هذه الأيام ويخاطبنا في هذا الزمان.

وكما قلت: إنها من أعظم معجزات نبينا، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ولإيضاح هذا الأمر -إخوتي الكرام- وهو أن هذه النصوص الشرعية محددة، لكنها تشمل وقائع لا حصر لها، نص يشمل ما شئت من وقائع تجد، هذا من الذي كشف عنه؟ ساداتنا وأئمتنا الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين، لإيضاح هذا الأمر استمعوا إلى مثالين اثنين ولا أريد أن أطيل، وكما قلت سابقاً إخوتي الكرام: كل قضية من هذه القضايا، وكل فرق من هذه الفروق يمكن أن يُشرح في مواعظ إذا أردنا أن نسترسل فيه، لكن كما قلت: أوجز قدر الإمكان من أجل أن ندخل في مباحث علم الفقه، فلذلك سأقتصر على مثالين اثنين:

المثال الأول: ثبت في مسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، والحديث في السنن الأربعة، وسنن الدارمي، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، وهكذا ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كما رواه الإمام الدارقطني في السنن، والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه البغوي في شرح السنة، والحديث في أعلى درجات الصحة، قال عنه الإمام الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد صححه الإمام البخاري كما نقل ذلك عنه أئمة الحديث ومنهم الإمام الترمذي، وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان، وأقر الذهبي تصحيح الحاكم عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، ولفظ الحديث: عن كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنها وأرضاها، وكانت تحت ولد سيدنا أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين: ( أنه دخل عليها سيدنا أبو قتادة رضي الله عنه وأرضاه، فسكبت له وَضوءه -بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ ويتطهر به- فجاءت هرة فأصغى لها الإناء لتشرب، فنظرت زوجة الابن مستغربة كيف يصغي أبو قتادة الإناء لهذه الهرة وسيتوضأ بعد ذلك من هذا الماء! فقال: يا بنية! -يعني لعلك تتعجبين- قالت: نعم، قال سيدنا أبو قتادة رضي الله عنه وأرضاه: فعلت مثل ما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسمعته يقول: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، ليست بنجس، هذه سؤرها طاهر، فلا إشكال لو شربت من هذا الماء.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- ماذا استنبط منه أئمتنا؟ سأشير -كما قلت- بعد أن أسرد الآن رواية الحديث على سبيل الإيجاز أيضاً، هذا الحديث أيضاً رُوي بسند صحيح عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في سنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، والحديث رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام الدارقطني في السنن، والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، والطحاوي في شرح معاني الآثار، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية، وكما قلت: إن الحديث صحيح، وفيه: ( أنه أُهدي إلى أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها هريسة، فجاءت هرة فأكلت منها، فأكلت أمنا عائشة رضي الله عنها من هذه الهريسة، فقيل: يا أم المؤمنين! أكلت منها هرة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضل الهرة ) يعني: تأتي هرة تشرب، ثم ما يبقى يأتي ويتوضأ منه عليه صلوات الله وسلامه.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- رُوي عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه في معجم الطبراني الصغير، انظروا معجمه في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين وثلاثمائة، وانظروا كلام الإمام الهيثمي على هذا الحديث في المجمع في الجزء الأول صفحة ست عشرة ومائتين، ورُوي عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، رواه عنه الإمام ابن شاهين في كتابه الناسخ والمنسوخ صفحة اثنتين وأربعين ومائة، وانظروا الكلام على هذه الأحاديث تصحيحاً وتقوية في أحسن كتاب في التخريج كما قلت مراراً، وهو نصب الراية للإمام الزيلعي رضوان الله عليه في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين ومائة إلى صفحة سبع وثلاثين ومائة، وقد أخذ أربع صفحات في الكلام على هذا الحديث تخريجاً، من ثلاث وثلاثين ومائة إلى سبع وثلاثين ومائة، وانظروا مختصره الدراية للإمام ابن حجر في الجزء الأول صفحة ستين إلى صفحة اثنتين وستين، وانظروا التلخيص الحبير له أيضاً في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين إلى صفحة خمس وخمسين.

هذا حديث يتكلم عن شيء محدد وهو عن سؤر الهرة، استمع لكلام أئمتنا وماذا استنبطوا من هذا الحديث حكماً لآسار متعددة متنوعة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر علة في كلامه البليغ الوجيز المحكم، وقد أُوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً عليه صلوات الله وسلامه، فأينما توجد هذه العلة نرتب هذا الحكم الذي رتبه نبينا عليه الصلاة والسلام، هذا من الذي يكشف عنه؟ فقهاؤنا رضي الله عنهم أجمعين.

سأنقل من أقوال الفقهاء الأربعة من ساداتنا الحنفية، ولكن هذا الحكم مقرر عند المذاهب الأربعة، لا خلاف بينهم فيه، يقول الإمام ابن عابدين عليه رحمات رب العالمين في رد المحتار على الدر المختار في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين ومائتين، وهكذا في كتاب الاختيار لتعليل المختار في فقه السادة الحنفية أيضاً في الجزء الأول صفحة تسع عشرة، وهو يتكلم على سؤر الهرة، وأنه طاهر، لو شربت من الإناء لا يتنجس، يقول الحنفية وسائر المذاهب كذلك: (سقط حكم النجاسة اتفاقاً) لِمَ؟ قال: (لعلة الطواف المنصوصة) أي بالحديث: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، قال: (لأنها تدخل المضايق -يعني من الأماكن الضيقة، من نافذة من كُوة من جحر ونحوه، تدخل إلى بيتك من غير اختيارك، تتسلق من السطح-؛ لأنها تدخل المضايق، ولازمه شدة المخالطة)، يلزم إذا كانت تدخل بغير اختيارك أنها ستخالطنا مخالطة شديدة بغير اختيارنا، (بحيث يتعذر صون الأواني عنها). انتهى ما يتعلق بالهرة.

ثم بعد ذلك يسحب الحكم على آسار كثيرة، لوجود هذه العلة فيها وهي الطواف، قال: (وفي ومعناها سواكن البيوت للعلة المذكورة، من فأرة وغيرها)، كل ما يشق بعد ذلك الاحتراز منه، ويخالطنا من غير اختيارنا، فله هذا الحكم.

هذا من الذي كشف عنه؟ أئمتنا الفقهاء، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما نص على سؤر الفأرة، وما يشبهها من سواكن البيوت، ذكر فقط الهرة، وعليه فلو شربت الفأرة، والجرذان الذي يكون في البيوت، فهذا لا ينجس الماء؛ وذلك لمشقة الاحتراز، فهي ليست بنجس، وسؤرها طاهر، مع أن اللحم لا يؤكل واللحم نجس، ولكن من الطوافين عليكم والطوافات.

الرد على من يدَّعون اتباع الكتاب والسنة ثم يتركون العمل بالمذاهب المعتبرة

اخترت هذا المثال إخوتي الكرام لأنني سأعلق عليه بتعليقين اثنين:

التعليق الأول: جاء بعض المشوشين في هذا الحين إلى بعض شيوخنا الكرام الطيبين الشيخ محمد الملاح عليه وعلى شيوخنا جميعاً والمسلمين رحمات رب العالمين، وقد تُوفي، وهو من الشيوخ الصالحين في بلاد الشام، وكان أعلم المشايخ في المذهب الحنفي، جاءه بعض المشوشين، وتكلم معه في موضوع اتباع السنة أو اتباع المذهب، وأنتم تتبعون السنة أو تتبعون مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه؟ وكما قلت لكم -إخوتي الكرام- كلام معسول يحبِكونه، لكنه في الحقيقة باطل مرفوض، وجواب هذا كما قلت مراراً: نتبع السنة حسب ما فهم أئمتنا وسلفنا، لا حسب ما يفهم خوارج هذا الزمان، نتبع السنة حسب ما فهم أئمتنا، فقال له: أنت ما تتقيد بمذهب ولا تلتزم بمذهب؟ قال: المذاهب كلها بدعة، قال: إذاً كيف ستستدل على الأحكام؟ قال: من الكتاب والسنة، قال: أحسنت يا ولدي! الكتاب والسنة الذي لا يحتكم إليهما ضال، اجلس سأسألك سؤالاً مختصراً:

قال: إذا شربت فأرة من إناء هل تنجس الماء أم لا؟ ماذا تقول؟ هات دليلاً على ذلك من الكتاب والسنة كما تريد أن تستدل على الأحكام، لأنه إذا كان ستأتي أنت بدليل، فهات على كل قضية وأدخل هذه ضمن النصوص الشرعية إذا كنت فقيهاً، وحقيقة لا يوجد فعل إلا ويستدل عليه تحليلاً أو تحريماً، وجوباً أو ندباً، كراهة أو تحريماً أو إباحة من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، علم من علم وجهل من جهل، الفقهاء لا يوجد فعل إلا ويستدلون عليه، لكن كما قلت: قد ينص عليه صراحة، قد تُذكر علة، وبعد ذلك أينما توجد هذه العلة فالحكم هو هو، فهذا المعترض الذي شن على المذاهب قال: الماء نجس، إذا شربت فأرة من وعاء الماء تنجس، لا يجوز أن نستعمله ولا أن نتطهر به، قال لمَ يا ولدي؟ يعني لمَ سؤرها نجس؟

الهرة تشرب من الوعاء ولا يتنجس، قال: سامحني، قال: سامحتك، ماذا تقول؟ عندك جواب ثانٍ؟ قال: نعم، سؤرها طاهر، لو شربت فأرة من الوعاء فالسؤر طاهر، قال: لمَ يا ولدي؟ أوليس السؤر يتبع اللحم، ولحم الفأرة نجس، فسؤرها نجس، قال: دعني أفكر، قال: فكر، مرة طاهر، ومرة نجس لسؤر فأرة، قال: ماذا ستقول؟ قال: تحتاج إلى بحث، قال: يا ولدي! اعرف قدرك، سؤر فأرة ما عرفته، وبعد ذلك تشوش على المذاهب، تتبعون الكتاب والسنة أو تتبعون المذاهب الأربعة! يا ولدي! سؤر الفأرة معروف، يا ولدي! اعرف قدرك، واعرف مراتب الأدلة، وطرق الاستنباط ثم تكلم.

ثم قال له: جوابك الأول: الأصل أنه صحيح أن السؤر نجس، لكن ما عندك لا دليل ولا حسن تعليل، التعليل أن تقول: سؤر الفأر نجس؛ لأن السؤر يتبع اللحم، وعليه فإن الماء المتبقي بعد شرب الفأرة التعليل أنه نجس، هذا هو الأصل تعليلاً، لكن الدليل ستقول بعد ذلك: إنه طاهر، تركنا الأصل لوجود علة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، نص على أن ما يشق الاحتراز منه معفو عن سؤره، وأن سؤره طاهر وليس بنجس، قال: التعليل في الأصل صحيح لو ذكرت تعليلاً، لكنك لم تعلل ولم تدلل، ما عرفت الدليل ولا عرفت التعليل

الأصل أن تقول: السؤر نجس لعلة كذا، ثم تقول: السؤر طاهر بدليل كذا، وعليه فإن العلة هناك أصلية؛ لأن السؤر يتبع اللحم، فتركت لوجود دليل واضح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ألا وهو علة الطواف، ولذلك قال الفقهاء هذه الكلمة الموجزة: وفى معناها سواكن البيوت، كل ما يشق الاحتراز منه، ويساكنك من غير اختيارك فله هذا الحكم.

ثم قال له الشيخ: يا ولدي! مشقة الاحتراز من الفأرة أصعب من مشقة الاحتراز من الهرة، فإن الهرة يمكن أن يحترز الإنسان منها، بحيث يرفع السؤر مثلاً، ويغلق النوافذ، أما هذه من تحت الباب تدخل، يعني لو كان يوجد ثقب صغير بمقدار أصبع لدخلت منه الفأرة، فهذه مشقة الاحتراز منها أصعب من الهر بكثير، فأنت ما عرفت حكم سؤر الهرة، سؤر الهرة ما عرفت حكمه، وبعد ذلك تقول: تتبعون الكتاب والسنة أو المذاهب الأربعة؟!

يا ولدي! إذا كنا سنتبع الكتاب والسنة على حسب فهمك فستضيع الأمة، أسألك عن سؤر الهرة في مجلس واحد وتجيب بجوابين مختلفين ثم تسكت، تقول: تحتاج إلى مراجعة ونظر! هذا في مجلس واحد، لك ثلاثة أجوبة وأنت في الثلاثة آثم؛ لأنك تجيب عن غير علم، وتعصى العليم سبحانه وتعالى، ثم تشوش على المذاهب، يعني مع كل هذا تشوش ولا تعرف قدرك وتقف عند حدك.

إخوتي الكرام! هذا أمر لابد من وعيه جيداً.

القصة الثانية التي سأعلق عليها نحو قصة الفأرة، كنت ذكرتها في بعض المواعظ، وقد جرت مع العبد الصالح ذي النون شيخ الديار المصرية عليه رحمات رب البرية، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين عليه رحمة الله ورضوانه، قيل: اسمه ذو النون، وقيل: هو لقبه، وكنيته أبو الفيض، وقيل: اسمه ثوبان، والعلم عند ذي الجلال والإكرام، وعلى كل حال هو رجل صالح كما قال الإمام الدارقطني، ويكفيك هذا القول في توثيقه، وتقدم معنا أنه الإمام العلم الجبل، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، يقول الدارقطني كما نقل عنه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي الفيض ذي النون ثوبان المصري رضي الله عنه وأرضاه، يقول: إذا صح الطريق إليه أحاديثه مستقيمة، وهو ثقة، لكن يحتاج الإسناد الذي يوصل إليه أن يكون من دونه ممن ينقلون عنه ثقة، فإذا صح الطريق إليه فأحاديثه مستقيمة، وهو ثقة، وهو من الذين رووا موطأ الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، كما ذكر ذلك الإمام ابن كثير في ترجمته في حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين، انظروا ترجمة هذا العبد الصالح في السير في الجزء الحادي عشر صفحة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

ومن كراماته: أنه عندما توفي -وكان بعض السفهاء في مصر يعيب عليه ويتكلم عليه- فعندما توفي أظلت الطير جنازته حتى دُفن عليه رحمة الله! الطير تمشي فوقه تظل الناس كأنها غيوم من أجل أن تقي الناس حر الشمس عند دفن هذا العبد الصالح، فعرف الناس قدره وكرامته على ربه سبحانه وتعالى، ومن كلامه المحكم أنه كان يقول: من تطأطأ لقي رطبة، ومن تعالى لقي عطبه. إذا تطأطأ يلقط الرطب، لكن إذا شمخ بأنفه يحصل العطب، والإمام أبو نعيم ختم الجزء الحادي عشر في ترجمته من صفحة ثلاثين وثلاثمائة إلى صفحة خمس وتسعين وثلاثمائة، ثم بدأ الجزء العاشر أيضاً، يعني التاسع في نهايته ثم الجزء العاشر في صفحتين أو ثلاث حتى أنهى ترجمته، ذكرها في قرابة أربعين صفحة، ترجمة ذي النون المصري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

إخوتي الكرام! لقد كان في بلاد مصر كما قلت، وجاء بعض الناس إلى هذا الإمام الصالح، وقال له: بلغني أن عندك اسم الله الأعظم! والعلم عند الله هل هو يعلم أو لا، لكن هذا قال له هذا الكلام، فأريد أن تعلمني هذا الاسم الذي إذا دعوت به أُجبت، وإذا سألت به أُعطيت، حتى يكون لي شأن، وتعلمني شيئاً تخصني به عن غيري من تلاميذك وأصحابك، وقد قال له هذا الكلام بعد أن جلس عنده سنة، فتجاهل الشيخ طلبه، ثم بعد فترة قال له: تعرف فلاناً الذي يأتينا من الفسطاط، ويحول بيننا وبينهم نهر النيل؟ يعني مشاة ونهر لا بد من اجتيازه، قال: نعم، قال: خذ هذا الصندوق وأوصله إليه، والصندوق حقيقة ما وضع فيه ذو النون شيئاً، إنما فقط جاء بفأرة صغيرة نشيطة ووضعها في هذا الصندوق، ثم لفه بخرقة وقال: هذه أمانة توصلها إلى فلان هدية، قل له: هذه هدية من أخيك ذي النون، فلما حمل الصندوق -وهو من خشب- استنكره، وحس أنه ما له وزن، ثم مشى حتى وصل إلى ضفاف النهر، فتحرك شيء منه، فقال: سبحان الله! شيء ليس له وزن ويتحرك! ماذا فيه؟ أريد أن أرى ما في داخل الصندوق، وهذا مؤتمن لا يجوز له أن ينظر في الصندوق، وهذه أمانة يوصلها إلى صاحبها، فكشف الخرقة فنطت الفأرة وذهبت، وما عاد بإمكانه أن يعيدها، فعاد وما أوصل الصندوق إلى صاحب ذي النون، فلما رجع قال له: يا بني! على فأرة ما اؤتمنت، اذهب فالزم السوق خيراً لك. إذا كانت فأرة واحدة ما اؤتمنت عليها، وبعد ذلك تريد أن تكون خليفة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتتعلم هذا العلم، وأن أخصك بشيء، ومع ذلك ما اؤتمنت على فأرة! يا ولدي! اذهب فالزم السوق فهذا خير لك.

وهذا -إخوتي الكرام- حالنا، حكم سؤر الفأرة ما عرف عنه شيئاً، وأجاب في مجلس واحد ثلاثة أجوبة، وآخر الجواب سكوت، هذا آخر جوابه، وبعد ذلك يقول: نريد كتاباً وسنة!

يا إخوتي الكرام! من الذي ينازع في الاحتكام إلى الكتاب والسنة؟! لا ينازع في ذلك إلا من غضب عليه ربنا سبحانه وتعالى، لكن الكتاب والسنة ينبغي أن يفهما حسب ما فهم سلفنا وأئمتنا، من هم سلفنا؟ الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، وتقدم معنا أن فهم الصحابة استقر في هذه المذاهب الأربعة ولا يخرج الحق عنها، وسيدنا أبو حنيفة هو أول الفقهاء الأربعة، وهو تابعي أدرك ستة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلنقف عند حدنا ولا داعي للتطاول بكلام ظاهره معسول، لكنه في الحقيقة سم مرذول: تتبعون الكتاب والسنة أو تتبعون الإمام الشافعي؟ تتبعون الكتاب والسنة أو تتبعون مالك رضي الله عنهم أجمعين أو الإمام أحمد؟! يا عباد الله! هذه مقابلة باطلة، وما يراد منها إلا التشويش، وإلقاء الفساد والفتن والنزاع بين المسلمين، نتبع كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام حسب ما فهم أئمتنا، فالخروج عن فهمهم مضيعة وهلكة.

مما يبين اتساع النصوص الشرعية لما يجد قياس جوع القاضي وحزنه على غضبه حال الحكم

المثال الثاني الذي سأذكره: حديث رواه الإمام أحمد، وهو في الكتب الستة أيضاً، في الصحيحين والسنن الأربعة، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام ابن الجارود في المنتقى، وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين كما سمعتم من رواية سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)، وفى رواية: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)، ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث صورة من الصور التي تمنع القاضي من الحكم وهي الغضب، فإذا تلبس بغضب فلا يجوز أن يصدر حكماً؛ لأن هذا الغضب إذا استولى على عقله لا يمكن أن يعي القضية تماماً، ولا أن يعلم ما يناسبها من حكم شرعي فسيخطئ، والله جل وعلا يقول في كتابه مخبراً عن حال نبيه ونجيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]، أي: لما غضب وغضبه لله، نبي الله ما غضب لنفسه عليه الصلاة والسلام، عندما أُخبر بأن قومه عبدوا العجل ألقى هذه الصحف، حتى تكسرت انفعالاً وغضباً، كيف عاد الناس إلى عبادة الطواغيت وعبادة العجل من دون الله عز وجل؟!

هذا الغضب الذي تملك عليه، صار بمثابة الآمر الناهي لنبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يقل الله: ولما سكن، إنما قال: ولما سكت، يعني: كأنه كان يأمر وينهى، ونبي الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام يتصرف حسب ذلك الأمر الذي يصدر، وإن كان انفعالاً لله، ولما سكت عن موسى الغضب كأنه يأمره وينهاه، ولذلك -إخوتي الكرام- لابد من أن يعلم الإنسان هذا الأمر، إذا غضب القاضي فلن يعي القضية ولن يعلم ما يناسبها من الأحكام الشرعية، ولذلك منعه نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام من أن يحكم، وعليه فلا يجوز أن يصلح بين اثنين وهو غضبان، ولا يجوز أن يحكم بين اثنين وهو غضبان؛ لأنه يفقد تمام الوعي.

هذه الصورة الوحيدة ألحق أئمتنا بها صوراً كثيرة متعددة بجامع تشويش الذهن في جميع تلك الصور كما تشوش الذهن هنا في هذه الصورة، استمع ماذا يقول أئمتنا: وسنأخذ مثالاً من الفقه الحنبلي، ولا خلاف فيه بين أئمتنا، لكن سأنقله من فقه الحنابلة من باب التنويع رضوان الله عليهم أجمعين:

يقول الإمام المقدسي في العدة في شرح العمدة صفحة ثلاث وعشرين وستمائة: وفي معنى الغضب كل ما يشغل فكره من الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة الأخبثين، وشدة النعاس، والهم، والغم، والحزن، والفرح، فهذه كلها تمنع من استيفاء الرأي الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي في معنى المنصوص عليه فتجري مجراه.

وهناك ما هو المنصوص؟ هو الغضب، فيلحق به ما كان في معناه، الغضب نُص عليه بالحديث: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)، (لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان)، لكن هل المراد صورة الغضب فقط؟ لا، بل تقاس عليها صور كثيرة، فإنه إذا كان يدافع الأخبثين ذهنه يتشوش أكثر من الغضب، وإذا جاءه فرح استخفه، أو حزن ملك عليه، أو جوع شديد، أو ألم شديد، هذا كله يبعد عنه كمال التأمل الذي هو سبب لإصابة الحق لفهم القضية، ولتنزيل الحكم الشرعي بعد ذلك على هذه القضية بعد أن فهمها، فها هو لم يفهم القضية، ومن باب أولى لم يعالجها بعد ذلك معالجة شرعية، فهذه كلها في معنى الغضب، هذا ما يكشف عنه أئمتنا، وهو الفقه الذي هو العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية، فقد أُلحق بالغضب عدة أحوال تشوش ذهن الإنسان، وتعكر البال، فلا يجوز للإنسان أن يزاول القضاء، ولا أن يقضي إذا طرأ عليه شيء من ذلك. وعليه: فنصوص الشرع تتسع لما جد ولما يجد، ولجميع الأحوال والوقائع.

وعليه لو جاء إنسان وقال: هل يقضي القاضي وهو فرحان؟ مباشرة نقول له: لا، ما الدليل؟ قل له: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)، سوف يقول: هذا غضبان! قل: يا عبد الله! الغضب يشوش الذهن، والفرح أيضاً يشوش الذهن؛ لأنه صرف إلى الشيء الذي فرح به، ما عنده الآن تأمل للقضية التي عرضت عليه، فلا بد إذاً من أن يكون متزناً هادئاً، وهكذا الجوع والعطش والنعاس ونحو ذلك، لو جاء أحد وقال: من أين أتيتم بهذه الأحكام؟ نقول: من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، كما تقدم معنا في جواب فقهائنا المحدثين الكرام، يفتي أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فيقول محدث زمانه الإمام الأعمش: من أين لك هذا يا أبا حنيفة؟ يقول: مما رويتم لنا، فيقول: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. حقيقة لا بد من وعي هذا، لكن الآن ابتلينا بفرقة لا من الصيادلة ولا من الأطباء، ويعترضون على الأطباء!

ضرورة الأخذ بفهم الأئمة واستنباطهم للأحكام

يا إخوتي الكرام! هل رأيتم أحداً يراجع طبيباً في مستشفى من المستشفيات ويعترض عليه؟ يعني عندما يعطيه الوصفة ويقول له: تشرب واحدة وواحدة وواحدة، أو ثنتين وواحدة وثنتين، لو قال: لو جمعت الخمسة وشربتها مرة واحدة، هل يصلح هذا؟! هل يعترض أحد؟! ولو جاء أحيانا ليسأل الطبيب وكان الطبيب عنده حماقة ونزق فيقول: لا تتفلسف علينا، خذ الدواء وانصرف، أليس كذلك؟ يعني الطبيب الذي يعمل في معالجة داء، وقد يخطئ في تشخيص الداء، وقد يخطئ في وصف الدواء، ومع ذلك تستجيب له، وتستجيب له أحياناً ليفتح بطنك، وكم من بطن يُفتح ولا يحتاج إلى فتح، وكم أحياناً من طحال يستأصل وليست العلة فيه، ويكونون قد وهموا، هذا وقع بكثرة، وأنا على علم بذلك في حوادث لا تحصى، ومع ذلك سلم نفسه للطبيب ليشق بطنه، وينزع الطحال، ثم الأعراض هي هي، وقالوا: تبين أننا أخطأنا في هذا الأمر، وكان ما ينبغي أن نستأصل الطحال، لكن استؤصل.

يا إخوتي الكرام! هذا كما قلت: نفعله نحن مع طبيب نسلم بدننا إليه، بعد ذلك الطبيب شهد له أئمتنا بحسن الاستنباط والفهم بشهادة كبار المحدثين، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، وتقدم معنا أن هذا القول مأثور عن عدد من الأئمة، منهم الإمام الشافعي وغيره، فهذا الطبيب سننازعه؛ لأن دين الله ما بقي له قيمة في قلوبنا، والوازع الديني ضعُف، ولذلك ننازع الطبيب الشرعي، ولا ننازع الطبيب البدني، عظمنا الدنيا فاحترمنا أهلها، ولما امتهنا الدين عارضنا أهله، معارضة أبي حنيفة سهلة، وترى طبيباً نصرانياً هندوسياً ومجوسياً لا يعارضه ويستسلم له، لمَ هذا؟ كل صعلوك سيجعل نفسه هو المتخصص في الطب، وسيعترض على أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك، وعندما تذكر له واحداً من هؤلاء، يقول: بلى، هم رجال ونحن رجال. طيب يا عبد الله! لم لا تلغي المستشفيات؟ ها هم الأطباء رجال وأنت رجل، لمَ تذهب مثل الصعلوك، وتلتزم بما يرشد ويقول هذا الطبيب، ولما تأتي للفقهاء تقول: هم رجال ونحن رجال! لأنه كما قلت: ما بقي في قلوبنا تعظيم لذي العزة والجلال، صرنا نتلاعب على حسب أهوائنا في هذه الأيام.

وهذا إخوتي الكرام! لابد من وعيه، ولا يجوز أن نلبس على الناس باسم كتاب وسنة؛ لنقود الناس إلى أهوائنا وآرائنا، وقد ذكرت لكم -إخوتي الكرام- في موعظة الجمعة كم هو التخبيط الذي يخبط به الناس في هذه الأيام ممن يَّدعون اتباع الكتاب والسنة، ولا يريد المذاهب الأربعة، ويقول: كان حنفياً ثم اهتدى، ثم يفتي بعد ذلك! بأي شيء؟! والله يا إخوتي الكرام! فتوى لا تقبلها نساء البادية، دع طلبة العلم، دع الفقهاء، نساء البادية لا تقبلها.

يفتي بأن المرأة إذا طلقت طلقتين وانتهت عدتها، ثم تزوجها زوجها بعقد جديد، وترتيب جديد، تعود إليه وله عليها ثلاث طلقات، من قال بهذا؟! هذا كما قلت: تستنكره نساء البادية، هذا يقوله مجتهد هذا الزمان، الذي يدعو إلى الكتاب والسنة، دعونا من المذاهب الأربعة، يقول: كنت حنفياً ثم اهتديت، ثم يقول هذا التخريف، وقلت لكم أنه بناء على هذه الفتيا: أعيد بعض النساء إلى أزواجهن، طلقها طلقتين وانتهت العدة، ثم تزوجها، وبعد الزواج على حسب فتيا الشيخ ذهب الطلاقان، فطلقها بعد أن عاد طلاقاً آخر، ثم راجعها، ثم طلقها طلاقاً آخر ثم راجعها، كم طلقة الآن؟ أربع طلقات ولا زالت في عصمته! هذا واقع، هذا هو التخبط والفتن التي نعيشها في هذا الزمن، ولو نظر في أي مختصر من مختصرات الفقه لاهتدى وهُدي إلى صراط الله المستقيم، لكن يقول: نريد كتاباً وسنة، على حسب فهم من؟! يا عبد الله! لا خلاف في هذا، وكما سيأتينا في فقه أئمتنا أنه ما منهم أحد إلا ومصادر الأحكام واستنباط الأحكام عنده: كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وإجماع وقياس باتفاق أئمتنا، فبعد ذلك تقول: كتاب وسنة! يعني هل جهل أئمتنا بالكتاب والسنة، وأعرضوا عن الكتاب والسنة عندما استنبطوا الأحكام؟! إنهم وضعوا النصوص في مواضعها، وجئنا نحن نريد أن نتلاعب بها.

إذاً: هذا هو الفرق الثالث عشر: أن نصوص الشرع المطهرة تتسع لما جد ولما سيجد إلى قيام الساعة.

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا علماً نافعاً، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] 4383 استماع
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] 3678 استماع
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] 3660 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] 3541 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] 3309 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] 3293 استماع
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه 3260 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] 3259 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] 3214 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] 3166 استماع