شرح العقيدة الطحاوية [55]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة).

السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة: جماعة المسلمين وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)].

يحث دين الإسلام على التمسك بالسنة، ويحث على الاجتماع على العقيدة السلفية، وينهى عن التفرق والتعادي والتقاطع ، ويأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، والأدلة على ذلك واضحة ظاهرة، ومنها قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فأمر بالاتباع، وأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، وهو الذي أمرنا الله تعالى بأن ندعو به في صلاتنا بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهو الطريق الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، ونهجه أهل السنة، يأمر الله تعالى بالسير عليه، وبالتمسك به غاية التمسك، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك به أشد ما يكون، وبالعض عليه بالنواجذ، التي هي أقاصي الأسنان، ولا شك أن ذلك كله دليل على أهمية السير على هذا الصراط السوي.

وينهى الإسلام عن التفرق والاختلاف؛ وذلك لأن في الاختلاف عداوة، فمتى اختلفت وجهة المسلمين فكانت طائفة تذهب إلى هذا، وطائفة تذهب إلى ذاك، وهذه تضلل الأخرى، وهذه تبدع هذه، ولم يكونوا مجتمعين على الحق، ولم يحصل بينهم التعاون على البر والتقوى؛ خيف عليهم أن يتسلط عليهم عدوهم، ويتغلب عليهم، فلا يقاومونه لاختلاف وجهاتهم، ولاختلاف أنظارهم.

والله تعالى قد نهى عن التفرق في مواضع كثيرة من كتابه، يقول الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ويقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وينهى أيضاً عن الاختلاف كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران:105]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، (شيعاً) يعني: أحزاباً، الشيع هو أن كلاً يذهب إلى رأي يتشيع له، يعني: يتعصب له.

وبكل حال فإذا عرفنا أن الإسلام يأمر بالاجتماع، فهذا الاجتماع لابد أن يكون على السنة، وأن يكون على الصراط السوي وعلى الطريق المستقيم، أما إذا كان المجتمعون قد اجتمعوا على ضلالة، اجتمعوا على بدعة، فإن اجتماعهم لا قيمة له؛ وذلك لأنهم تركوا الحق جانباً، وأعرضوا عن صراط الله الذي أمر بالتمسك به وبسؤاله، وهو الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، وهو صراط المنعم عليهم الذين قال الله فيهم: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].

وكثيراً ما تأتي الأدلة في الحث على الجماعة، وكثيراً ما نسمع الخطباء يحثون على الجماعة، ويقولون: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، أو فإن يد الله على الجماعة، والمراد بالجماعة هنا: جماعة الإسلام، الذين يجتمعون على قول صحيح سليم، ليس فيه خطأ ولا خلل، هؤلاء هم الجماعة، وجاءت الأحاديث تقول: (عليكم بالجماعة، (إياكم والفرقة)، (اجتمعوا على الحق ولا تفرقوا)، (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) ففيها حث المسلمين على أن يسيروا جميعاً، وأن الذي يشذ منهم فإنه إلى الهلاك، وتخطفه الشياطين، فيصير من نصيبها، كما أن الغنم إذا كانت مجتمعة فإن الراعي يراقبها ويرعاها، فإذا انفردت واحدة منها، وكانت بعيدة، وغفل عنها، جاء السبع فأكلها، فكذلك جماعة المسلمين.

الحق يستمد قوته من دليله ولا تضره كثرة مخالفيه

أهل البدع جماعات كثيرة، وقد تكون لهم قوة وكثرة واجتماعات، وقد يتفوقون في بعض الأحيان على أهل السنة، وقد يزيدون عليهم عدداً أو عدة أو قوة، ولكن هل يقال: إنهم على الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل السنة؟!

ليس كذلك، بل هم أهل فرقة، وهم أهل بدعة، وهم أهل ضلالة، ولو كثر عددهم، ولو كثرت جماعاتهم، ولو حصلت لهم قوة معنوية، أو قوة حسية، فإنهم ليسوا من أهل الجماعة، وليسوا من أهل السنة، فأهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقلون ويكثرون، وأحياناً يمكن الله لهم، فيرجع ضالهم، ويرشد غاويهم، فيكثرون على الحق، ويتمسكون به، ويسيرون عليه، وأحياناً يكثر أعداؤهم فيضلون الخلق، ويشتتون الجماعات، ويقل المتمسكون بالسنة، ويصيرون أفراداً، فلا يعرفون، وربما يستخفون بمذهبهم، ويكنونه ولا يجهرون به، ومن جهر به أوذي وطرد واضطهد وسجن وشرد وهرب، وهو مع ذلك على السنة، وعلى العقيدة وعلى التوحيد، وعلى الدين الإسلامي، وعلى الصراط المستقيم، ولكن إذا قويت البدع وقويت المنكرات في بعض البلاد تسلط أهلها على أهل الحق واستضعفوهم، وساموهم سوء العذاب، ولكن النصر والتمكين لهم، والعاقبة للتقوى، إذا صبروا واحتسبوا، وما أصابهم في ذات الله وفي دينه كان رفعاً لدرجاتهم، وإعظاماً لأجرهم.

يحصل في هذه الأزمنة اضطهاد كثير لأهل الحق، وإذلال لهم، واتهام لهم بالثورات وبالانقلابات على الدولة، وأنهم يريدون السلطة، وكذلك مطاردتهم في الأسواق وغيرها، وكل من رؤي متمسكاً بالسنة وعاملاً بها اتهم بالاتهامات البعيدة، وأدخل السجون وضرب، وفرضت عليه الضرائب التي تثقل كاهله وما أشبه ذلك، كما هو موجود في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام، وهذا لا يدل على أن هؤلاء ليسوا على الحق، بل هم على حق، وإذا صبروا كان ذلك أعظم أجراً، ولا يدل على أن تلك الأمم والشعوب والدول التي أظهرت خلاف الحق، وانتهجت الباطل؛ على حق وصواب، فالعبرة لسيت بالكثرة، إنما العبرة بالإصابة، العبرة في الحق لمن كان مصيباً للحق ومتمسكاً به، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.

أهل الحق هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا أهل السنة والجماعة.

وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.) وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى، عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً).].

هذه أدلة على أن أهل الحق هم المتمسكون بالسنة النبوية، وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والصحابة رضي الله عنهم ما خاضوا في علم الكلام الذي خاض فيه المتكلفون المتكلمون، وكذلك كانوا يكرهون الاختلاف حتى في الفروع، بل إذا اختلفت عليهم الأدلة قالوا: آمنا بها وفوضنا ما لم نعلم، وعملنا بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان في عهده.

وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الاختلاف، خرج عليهم مرة وقد اختلفوا في القدر، فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: احمر وجهه من الغضب، فقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم أم بهذا كلفتم؟ أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه.).

هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت علينا الأدلة أن نأخذ بما هو الأنسب والأظهر، وندع الاختلاف.

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع الاختلاف في هذه الأمة، ففي هذا الحديث الذي تقدم أخبر بأن أمته ستتفرق بهم الأهواء إلى ثنتين وسبعين فرقة، وكل طائفة تزعم أن الحق في جانبها، وكل طائفة تضلل غيرها وتبرر موقفها.

وهذه الاختلافات اختلافات اعتقادية، يضلل من خالف فيها، وليست اختلافات في الفروع وفي المسائل الاجتهادية التي طريقها الاجتهاد، فإن هذه لا يضلل فيها، ولهذا خالف بعض الأئمة مشايخهم دون أن يضللوهم، فالإمام مالك رحمه الله كان إماماً متبعاً، وقد خالف أبا حنيفة في أشياء، والإمام الشافعي قرأ على مالك وأخذ عنه علمه، وقد خالفه في أشياء من الفروع، وكذلك أحمد خالف الأئمة الذين قبله في أشياء، ولكن ليس هذا ضلالاً، وليست هذه المذاهب من الفرق الضالة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في النار إلا واحدة، إنما تلك هي البدع المضلة التي تتعلق بالعقيدة، ولا شك أن أمور العقيدة أدلتها يقينية، أدلتها قطعية، ولا يستدل عليها بالأدلة الظنية التي يتطرق إليها احتمال الثبوت أو عدمه، وإنما يستدل عليها بأمور قطعية الدلالة لا لبس فيها ولا خفاء، ولكن عميت الأعين وصمت الآذان، فإن أولئك المبتدعة يرون الحق أبلجاً، ويرون الصراط مستقيماً، فتأتيهم بالأدلة، وتوضحها لهم، ولكن هم صم ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا، بهت بما شهدوا، عموا عن الحق، وعن سماعه صموا، وعن قوله خرسوا، وهذا حرمان من الله، وإلا فالطريق واضح؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأهواء الثنتين والسبعين، وأمر بالتمسك بالجماعة، وقال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفي رواية: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

عمق علم الصحابة وعدم تكلفهم يوجب الاهتداء بهديهم

الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلموا في الجوهر والعرض، ولم يتكلموا في الأعراض والأبعاض والأعضاء وما أشبه ذلك مما ابتلي به المتكلمون، ولم يتكلموا في المحدثات التي امتلأت بها كتب هؤلاء المتكلمين، وإنما تقبلوا ما جاءتهم به السنة، وما ثبت في الأحاديث، وما نص عليه القرآن، وتقبلوا ذلك كله، واستسلموا له، كما شهد لهم ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات)، ابن مسعود من الصدر الأول، مات سنة اثنين وثلاثين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو إحدى وعشرين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات سنة إحدى عشرة، وابن مسعود مات سنة ثنتين وثلاثين، ومع ذلك يحث على طريقة الصحابة، ويريد بالصحابة: السابقين الأولين، كالخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان لأنهم في زمانه، وكذلك من مات من السابقين ممن مات قبله، كـعبد الرحمن بن عوف وأبي ذر ، والعباس بن عبد المطلب ، ونحوهم، ولا شك أن هؤلاء هم الصحابة الذين قصدهم في قوله هذا: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) ومن كان عالماً لا يؤمن عليه أن يضل، ولا يؤمن عليه أن يفتتن بالدنيا، أو يفتتن بالشبهات وبالدعايات المضللة، يقول: (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً) ما أبلغه من وصف! البر: هو الصدق والإخلاص، يعني: أن قلوبهم خالصة مخلصة، وعلمهم عميق؛ لأنه علم نبوي، ولم يكونوا يتكلفون.

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما جاءه رجل وقال: إن فلاناً يزعم أنه يكون قبل القيامة دخان يأخذ بمشام الناس، فعجب لذلك! حيث استدل بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] فقال: إن الله تعالى قال لنبيكم: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وإن هذا من التكلف؛ لأن هذا فسر الآية بما يراه أو بما يظنه من أن الدخان المذكور فيها يكون قرب الساعة، وبكل حال فهو ينكر على من يتكلف في تفسير الآيات بمثل هذه الاحتمالات.

فإذا نظرنا فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، لم نجد في علمهم شيئاً من التكلف، بل وجدناهم يأخذون الأدلة على ظاهرها، ويفوضونها أو يعتقدون ما دلت عليه.

وقد حدث الضلال في آخر عهدهم من بعض المنكرين لبعض الأمور الغيبية، كما روي أن رجلاً انتفض عند ابن عباس لما قرأ آية في الصفات استنكاراً لها، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه!

أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!)، فإنه دليل على أنه قد وجد في عهده من يتحدث بأشياء قد تستغرب، وقد يستنكرها بعض الجهلة، فلأجل ذلك نهى أن يحدثوا بالأشياء التي فيها شيء من الغرابة، وأمرهم أن يتحدثوا بالأشياء المعلومة كالأحكام، أي: اشغلوا أوقاتكم بالأحكام، وبأمور الطاعة، وبنوافل العبادات، وإياكم أن تشتغلوا بالأشياء التي فيها غرابة، ويستنكرها العامة وينكرونها، وإذا أنكروها وهي قطعية هلكوا، حيث إنهم كذّبوا الله ورسوله، فهذه طريقة وسيرة السلف الذين هم الصحابة ومن سار على نهجهم.

أهل البدع جماعات كثيرة، وقد تكون لهم قوة وكثرة واجتماعات، وقد يتفوقون في بعض الأحيان على أهل السنة، وقد يزيدون عليهم عدداً أو عدة أو قوة، ولكن هل يقال: إنهم على الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل السنة؟!

ليس كذلك، بل هم أهل فرقة، وهم أهل بدعة، وهم أهل ضلالة، ولو كثر عددهم، ولو كثرت جماعاتهم، ولو حصلت لهم قوة معنوية، أو قوة حسية، فإنهم ليسوا من أهل الجماعة، وليسوا من أهل السنة، فأهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقلون ويكثرون، وأحياناً يمكن الله لهم، فيرجع ضالهم، ويرشد غاويهم، فيكثرون على الحق، ويتمسكون به، ويسيرون عليه، وأحياناً يكثر أعداؤهم فيضلون الخلق، ويشتتون الجماعات، ويقل المتمسكون بالسنة، ويصيرون أفراداً، فلا يعرفون، وربما يستخفون بمذهبهم، ويكنونه ولا يجهرون به، ومن جهر به أوذي وطرد واضطهد وسجن وشرد وهرب، وهو مع ذلك على السنة، وعلى العقيدة وعلى التوحيد، وعلى الدين الإسلامي، وعلى الصراط المستقيم، ولكن إذا قويت البدع وقويت المنكرات في بعض البلاد تسلط أهلها على أهل الحق واستضعفوهم، وساموهم سوء العذاب، ولكن النصر والتمكين لهم، والعاقبة للتقوى، إذا صبروا واحتسبوا، وما أصابهم في ذات الله وفي دينه كان رفعاً لدرجاتهم، وإعظاماً لأجرهم.

يحصل في هذه الأزمنة اضطهاد كثير لأهل الحق، وإذلال لهم، واتهام لهم بالثورات وبالانقلابات على الدولة، وأنهم يريدون السلطة، وكذلك مطاردتهم في الأسواق وغيرها، وكل من رؤي متمسكاً بالسنة وعاملاً بها اتهم بالاتهامات البعيدة، وأدخل السجون وضرب، وفرضت عليه الضرائب التي تثقل كاهله وما أشبه ذلك، كما هو موجود في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام، وهذا لا يدل على أن هؤلاء ليسوا على الحق، بل هم على حق، وإذا صبروا كان ذلك أعظم أجراً، ولا يدل على أن تلك الأمم والشعوب والدول التي أظهرت خلاف الحق، وانتهجت الباطل؛ على حق وصواب، فالعبرة لسيت بالكثرة، إنما العبرة بالإصابة، العبرة في الحق لمن كان مصيباً للحق ومتمسكاً به، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.