شرح العقيدة الطحاوية [11]


الحلقة مفرغة

يقول المؤلف رحمه الله تعالى:

[قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام ).

قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3]، وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]، وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام..) الحديث.

لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه، فإنهم يموتون.

ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.

فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به].

إثبات صفتي الحياة والقيومية لله ونفي ضدهما

هذه من الصفات الثبوتية، يعني: مما نثبت لله تعالى من الصفات صفة الحياة وصفة القيومية، كذلك ضدهما من الصفات السلبية، وهما: صفة الموت، وصفة النوم والسِنة، والسنة: هي النعاس أو مقدمات النوم، هذه صفات نقص، والرب سبحانه أثبت لنفسه صفات الكمال بقوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ونفى عن نفسه صفات النقص بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] أي: نعاس، وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] النوم المعروف، ونفى الموت بقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] فنفى الموت ونفى السنة ونفى النوم؛ وذلك لأن النوم نقص يحتاجه الإنسان والدواب؛ لأن فيه شيئاً من إراحة البدن بعد التعب، والرب سبحانه وتعالى منزه عن التعب ومنزه عن اللغوب.

نفي اللغوب والتعب عن الله سبحانه وتعالى

وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن خلق المخلوقات، فأخبرهم بأن الله خلق التربة يوم الأحد إلى أن انتهى من خلق المخلوقات يوم الجمعة، فقالوا: صدقت لو أكملت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أنهم يريدون بذلك ما هم يعتقدونه من أن الله أكمل المخلوقات يوم الجمعة واستراح يوم السبت. هكذا عندهم أن الله استراح يوم السبت، وكذبوا فإن الله تعالى لا يحتاج إلى إراحة، وأنزل الله رداً عليهم في سورة ق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: من تعب، فهو سبحانه نفى عن نفسه هذا اللغوب الذي هو نقص وعيب، وهذا يدل على أن الله موصوف بكل كمال.

وورد أيضاً: (أن نبي الله موسى سأل ربه، فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! خذ معك زجاجتين من ماء وقم بهما طوال الليل، فأخذهما فلما كان في أثناء الليل وهو قائم نعس فاضطربت يداه وضربت إحدى الزجاجتين الأخرى فانكسرتا، فقال الله: لو نمت لاختلت السموات والأرض كما فعلت هاتان الزجاجتان) أو كما في الأثر، ذكر ذلك ابن كثير في التاريخ وغيره.

الحكمة من تسمية الله نفسه بالقيوم

الله سبحانه وتعالى قائم على هذه المخلوقات، ولأجل ذلك سمى نفسه بالقيوم، يعني: القائم على خلقه، ومعلوم أن القائم على خلقه هو الذي يراقبهم وهو الذي يرعاهم ويكلؤهم وهم نائمون، قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42] أي: الرحمن هو الذي يكلؤكم، يعني: يحفظكم ويراقبكم، فإذا كان كذلك فإنه الذي يرعى عباده، ولا يعتريه نوم ولا نقص ولا سنة ولا غير ذلك؛ لأنه الذي يمسك هذه المخلوقات، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ [الحج:65]، إلى قوله: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65] أي: هو الذي يمسكها بقوته وبخلقه وبتمكينه، وقال تعالى: يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] أي: هو الذي يمسكهما حتى لا يضطربا ولا يزولا، فإذا كان كذلك فإنه الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وقد حكم الله بالفناء على كل من سواه، فقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، هذا دليل الحياة التي لا يعتريها نقص ولا تغيير، وبلا شك أن النوم نقص، ولذلك يسمى: أخا الموت، النوم موتة صغرى، ولذلك قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فذكر أنه يتوفاها في منامها، فالنوم شبه الموت، ولأجل ذلك نفاه عن نفسه ونفى أيضاً مقدماته؛ لقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] والسنة: هي النعاس أو النوم الخفيف.

يعتقد المسلمون أن الله موصوف بصفات الكمال كالحياة الكاملة والقيومية الكاملة، وقد وافقت الأشاعرة على وصف الله تعالى بالحياة، ولكنهم رجعوا في إثباتها إلى العقل، يقولون: إنما أثبتناها لدلالة العقل عليها، وكأنهم لم يعتبروا دلالة الشرع الواضحة، دلالة النصوص من الآيات والأحاديث ونحوها.

الحديث الذي مر بنا حديث مشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فابتدأ الحديث بنفي هذا النقص وهو النوم عن الله سبحانه وأنه لا ينبغي له أن ينام، هذه عقيدة المسلمين، وبلا شك أن الذي يعتقد أن ربه حي لا يموت وأنه قيوم لا ينام وأنه لا يعتريه تغير، هو الذي يكون قد قدر ربه في قلبه وعظمه على كل شيء؛ فيعبده حق العبادة.

معنى الحي القيوم وما يتضمنانه

قال المؤلف رحمه الله: [واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة، وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟

فيه قولان: أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفاً بصفات الكمال.

واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً، ولهذا كان قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها.

فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.

وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام].

التوسل والدعاء بأسماء الله من مستلزمات الإيمان بها

الماتن يقول: (حي لا يموت قيوم لا ينام) والشارح ابتدأ شرحه بأول آية الكرسي وهي قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، واستدل أيضاً بأول سورة آل عمران: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، وبالآية الثالثة في سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، فالله عز وجل قرن هذين الاسمين في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي سورة طه، ولما كان هذا شأنهما قال بعض العلماء: إنهما يتضمنان اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.

ولأجل ذلك يندب أن يكثر العبد من التوسل بأسماء الله إذا دعاه، وأن يكثر من التوسل بهذين الاسمين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث: أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، فأفاد بأن هذين الاسمين يدعى الرب سبحانه وتعالى بهما كما يدعى ببقية الأسماء الحسنى، التي قال الله عنها: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أي: توسلوا بها في دعائه، فأنت مأمور أيها العبد عند الدعاء أن تتوسل بأسمائه سبحانه ومن جملتها: الحي القيوم، وبلا شك أن هذين الاسمين يتضمنان صفات الكمال، فإن الحي يتضمن إثبات الحياة، والحياة التي تثبتها لله تعالى هي أتم حياة وأكملها، وذلك بوصفها بأنها حياة مستقرة وأنها لا يعتريها نقص، فلا يعتريها النوم الذي هو أخو الموت، ولا يعتريها الموت كما في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ومن هذا الوصف يستحق الرب تعالى أن يكون هو الإله، ولأجل ذلك بدأ الآية بإثبات الإلهية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] في آية الكرسي وفي أول سورة آل عمران، بدأ الآية بالإلهية، فكأنه يقول: الإلهية الحقة لا تصلح إلا لمن هو حي قيوم.

الحياة والقيومية الكاملة هي التي استحقها الرب واستلزمت جميع صفات الكمال، ومعنى كونها تستلزم صفات الكمال: أن من أثبتها لزمه أن يثبت بقية الصفات التي هي صفات الكمال.

فإن الحياة كلما كانت كاملة لزم أن يكون غيرها من الصفات تابعاً لها، وأما من نفى شيئاً من الصفات فإنه إنما أثبت حياة ناقصة، وقد وصف الله عز وجل نفسه بالسمع، والحياة تستلزم أن يكون سميعاً، وبالبصر، والحياة تستلزم أن يكون بصيراً، وبالكلام، والكلام لا بد أن يكون من حي، وكذلك بالقدرة وبالعلم وبالمشيئة والإرادة وما أشبه ذلك من الصفات التي يأتينا تفصيلها إن شاء الله تعالى.

فعلى هذا فالمسلم عليه أن يلح في دعاء الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه، بعد أن يعتقد دلالة تلك الأسماء، فدلالة الحي على إثبات الحياة، ودلالة القيوم على إثبات القيومية التي هي القيام على خلقه بحيث يوصف بأنه القائم على خلقه المدبر لشئونهم.

هذه من الصفات الثبوتية، يعني: مما نثبت لله تعالى من الصفات صفة الحياة وصفة القيومية، كذلك ضدهما من الصفات السلبية، وهما: صفة الموت، وصفة النوم والسِنة، والسنة: هي النعاس أو مقدمات النوم، هذه صفات نقص، والرب سبحانه أثبت لنفسه صفات الكمال بقوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ونفى عن نفسه صفات النقص بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] أي: نعاس، وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] النوم المعروف، ونفى الموت بقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] فنفى الموت ونفى السنة ونفى النوم؛ وذلك لأن النوم نقص يحتاجه الإنسان والدواب؛ لأن فيه شيئاً من إراحة البدن بعد التعب، والرب سبحانه وتعالى منزه عن التعب ومنزه عن اللغوب.

وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن خلق المخلوقات، فأخبرهم بأن الله خلق التربة يوم الأحد إلى أن انتهى من خلق المخلوقات يوم الجمعة، فقالوا: صدقت لو أكملت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أنهم يريدون بذلك ما هم يعتقدونه من أن الله أكمل المخلوقات يوم الجمعة واستراح يوم السبت. هكذا عندهم أن الله استراح يوم السبت، وكذبوا فإن الله تعالى لا يحتاج إلى إراحة، وأنزل الله رداً عليهم في سورة ق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: من تعب، فهو سبحانه نفى عن نفسه هذا اللغوب الذي هو نقص وعيب، وهذا يدل على أن الله موصوف بكل كمال.

وورد أيضاً: (أن نبي الله موسى سأل ربه، فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! خذ معك زجاجتين من ماء وقم بهما طوال الليل، فأخذهما فلما كان في أثناء الليل وهو قائم نعس فاضطربت يداه وضربت إحدى الزجاجتين الأخرى فانكسرتا، فقال الله: لو نمت لاختلت السموات والأرض كما فعلت هاتان الزجاجتان) أو كما في الأثر، ذكر ذلك ابن كثير في التاريخ وغيره.

الله سبحانه وتعالى قائم على هذه المخلوقات، ولأجل ذلك سمى نفسه بالقيوم، يعني: القائم على خلقه، ومعلوم أن القائم على خلقه هو الذي يراقبهم وهو الذي يرعاهم ويكلؤهم وهم نائمون، قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42] أي: الرحمن هو الذي يكلؤكم، يعني: يحفظكم ويراقبكم، فإذا كان كذلك فإنه الذي يرعى عباده، ولا يعتريه نوم ولا نقص ولا سنة ولا غير ذلك؛ لأنه الذي يمسك هذه المخلوقات، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ [الحج:65]، إلى قوله: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65] أي: هو الذي يمسكها بقوته وبخلقه وبتمكينه، وقال تعالى: يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] أي: هو الذي يمسكهما حتى لا يضطربا ولا يزولا، فإذا كان كذلك فإنه الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وقد حكم الله بالفناء على كل من سواه، فقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، هذا دليل الحياة التي لا يعتريها نقص ولا تغيير، وبلا شك أن النوم نقص، ولذلك يسمى: أخا الموت، النوم موتة صغرى، ولذلك قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فذكر أنه يتوفاها في منامها، فالنوم شبه الموت، ولأجل ذلك نفاه عن نفسه ونفى أيضاً مقدماته؛ لقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] والسنة: هي النعاس أو النوم الخفيف.

يعتقد المسلمون أن الله موصوف بصفات الكمال كالحياة الكاملة والقيومية الكاملة، وقد وافقت الأشاعرة على وصف الله تعالى بالحياة، ولكنهم رجعوا في إثباتها إلى العقل، يقولون: إنما أثبتناها لدلالة العقل عليها، وكأنهم لم يعتبروا دلالة الشرع الواضحة، دلالة النصوص من الآيات والأحاديث ونحوها.

الحديث الذي مر بنا حديث مشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فابتدأ الحديث بنفي هذا النقص وهو النوم عن الله سبحانه وأنه لا ينبغي له أن ينام، هذه عقيدة المسلمين، وبلا شك أن الذي يعتقد أن ربه حي لا يموت وأنه قيوم لا ينام وأنه لا يعتريه تغير، هو الذي يكون قد قدر ربه في قلبه وعظمه على كل شيء؛ فيعبده حق العبادة.

قال المؤلف رحمه الله: [واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة، وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟

فيه قولان: أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفاً بصفات الكمال.

واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً، ولهذا كان قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها.

فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.

وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام].

الماتن يقول: (حي لا يموت قيوم لا ينام) والشارح ابتدأ شرحه بأول آية الكرسي وهي قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، واستدل أيضاً بأول سورة آل عمران: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، وبالآية الثالثة في سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، فالله عز وجل قرن هذين الاسمين في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي سورة طه، ولما كان هذا شأنهما قال بعض العلماء: إنهما يتضمنان اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.

ولأجل ذلك يندب أن يكثر العبد من التوسل بأسماء الله إذا دعاه، وأن يكثر من التوسل بهذين الاسمين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث: أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، فأفاد بأن هذين الاسمين يدعى الرب سبحانه وتعالى بهما كما يدعى ببقية الأسماء الحسنى، التي قال الله عنها: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أي: توسلوا بها في دعائه، فأنت مأمور أيها العبد عند الدعاء أن تتوسل بأسمائه سبحانه ومن جملتها: الحي القيوم، وبلا شك أن هذين الاسمين يتضمنان صفات الكمال، فإن الحي يتضمن إثبات الحياة، والحياة التي تثبتها لله تعالى هي أتم حياة وأكملها، وذلك بوصفها بأنها حياة مستقرة وأنها لا يعتريها نقص، فلا يعتريها النوم الذي هو أخو الموت، ولا يعتريها الموت كما في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ومن هذا الوصف يستحق الرب تعالى أن يكون هو الإله، ولأجل ذلك بدأ الآية بإثبات الإلهية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] في آية الكرسي وفي أول سورة آل عمران، بدأ الآية بالإلهية، فكأنه يقول: الإلهية الحقة لا تصلح إلا لمن هو حي قيوم.

الحياة والقيومية الكاملة هي التي استحقها الرب واستلزمت جميع صفات الكمال، ومعنى كونها تستلزم صفات الكمال: أن من أثبتها لزمه أن يثبت بقية الصفات التي هي صفات الكمال.

فإن الحياة كلما كانت كاملة لزم أن يكون غيرها من الصفات تابعاً لها، وأما من نفى شيئاً من الصفات فإنه إنما أثبت حياة ناقصة، وقد وصف الله عز وجل نفسه بالسمع، والحياة تستلزم أن يكون سميعاً، وبالبصر، والحياة تستلزم أن يكون بصيراً، وبالكلام، والكلام لا بد أن يكون من حي، وكذلك بالقدرة وبالعلم وبالمشيئة والإرادة وما أشبه ذلك من الصفات التي يأتينا تفصيلها إن شاء الله تعالى.

فعلى هذا فالمسلم عليه أن يلح في دعاء الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه، بعد أن يعتقد دلالة تلك الأسماء، فدلالة الحي على إثبات الحياة، ودلالة القيوم على إثبات القيومية التي هي القيام على خلقه بحيث يوصف بأنه القائم على خلقه المدبر لشئونهم.

قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة ).

قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وقال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14].

وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم ، وقوله: بلا مئونة: بلا ثقل ولا كلفة].

انفراد الله سبحانه بالخلق والرزق

هذا من جملة ما وصف الله به نفسه وأخبر عن نفسه أنه الذي خلق الخلق ورزقهم، أي هو المنفرد بذلك وحده، فأما الخلق فليس له منازع، وأما الرزق فظاهر أنه الذي يسر أسباب الرزق، وأخبر بذلك ليعرفه العباد ويعبدوه وحده، فإذا علموا أنهم مخلوقون اعترفوا بأن لهم خالقاً، ذلك الخالق هو الله وحده، ما خلقهم لحاجته إليهم، ما خلقهم ليستكثر بهم من قلة، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم من عيلة، ولا ليستأنس بهم من وحشة، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، قال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].

الحكمة من خلق الله للجن والإنس

وقد أخبر الله بالحكمة من خلقه لهذا الخلق، وهو أنه خلقهم لعبادته وأمرهم بطاعته، خلقهم ليعرفوه ويعبدوه وأمرهم بأن يوحدوه ويطيعوه، وهو الغني عنهم، ولهذا قال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، وقال تعالى في آية أخرى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، فهو الغني وهم الفقراء.

إذا عرف العباد بأنهم مخلوقون وأن لهم خالقاً، عرفوا بأن ذلك الخالق غني عنهم وأنهم فقراء إليه، عرفوا بأنهم مملوكون وأن لهم مالكاً، عرفوا بأنهم مدبرون وأن هناك من يدبرهم ويسخرهم ويتصرف فيهم كما يشاء، ذلك الخالق والمالك والرب والمتصرف هو الذي يستحق أن يعبدوه، ولأجل هذا خاطبهم بذلك وذكرهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، ابتدأ بنعمة الخلق بعدما أمرنا بأن نعبده، ومن أسباب أمره سبحانه بعبادته:

أولاً: أنه خلقكم.

ثانياً: أنه خلق من قبلكم.

ثالثاً: أنه أنزل من السماء ماءً.

رابعاً: أنه جعل لكم الأرض فراشاً.

خامساً: أنه جعل السماء بناءً.

سادساً: أنه أنبت النبات.

كل ذلك من الأسباب التي هي منَّة ونعمة منه سبحانه.

حقيقة انفراد الله تعالى بالرزق وتيسير أسبابه

أما قوله: (رازق) فمعلوم أنه الذي تفرد بالرزق وحده، وقد يقول قائل: بل العبد هو الذي يتكسب، والدواب هي التي تسعى في طلب الرزق، فإذاً كيف يكون ذلك رزقاً، ونحن نشاهد أن الإنسان هو الذي يكتسب الرزق؟!

يقول هذا كثير من الناس، وأكثر من يقوله هم الملاحدة، حتى نقل لي بعض الإخوان عن بعض الملاحدة والعياذ بالله أنه لما قيل له: تذكر أن الله الذي يرزقك، فقال: كلا إنما ترزقني يميني والعياذ بالله، نسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، نسي أن الله يسر له الرزق وهو في رحم أمه، حتى يأتيه الرزق من حيث لا يشعر.

فالإنسان في بطن أمه يكون له باب واحد يأتيه الرزق منه، وهو حبل السرة الذي يتغذى من الدم، فمن الذي يسر ذلك له؟ هل للأبوين تصرف في هذا الجنين حتى يتم خلقه؟ ليس لهما تصرف، إذاً فالذي دبره على هذه الهيئة هو الذي يرزق.

فلما خرج إلى هذه الدنيا من الذي فجر له هذين الثديين من صدر والدته، بهذا اللبن اللذيذ الذي يحصل به التغذي؟! من الذي ألهم هذا الطفل أن يمتص الثديين حتى يحصل على هذا اللبن الذي يتقوت به؟!

عندما أخرجه الله إلى الدنيا فتح له بابين -وهما هذان الثديان- ليكون منهما رزقه وغذاؤه، لا يستطيع أن يحصل لنفسه هذا الرزق إلا أن ييسره الله له، من الذي حنن قلب أبويه عليه وجعل في قلوبهما الشفقة التامة إلى أن يحنوا عليه ويحدبا عليه ويحبا بقاءه ويسهرا ويتعبا في تحصيل راحته؟!

لولا أن الله جعل ذلك في قلوبهما لما التفتا إليه ولما بقي على هذه الحياة مدة.

بعدما فطم وترعرع من ذينيك الثديين، فتح الله له أربعة أبواب من الرزق: شرابان، وطعامان، فالشرابان: اللبن مأخوذ من الحيوان، والأشربة من الماء، والطعامان: اللحم طعام من الحيوانات التي سخرها الله للإنسان ليأكل من لحومها، وسائر الأطعمة مما تنبته الأرض، والله تعالى هو الذي يسر له ذلك.

أولاً: باب واحد في بطن أمه.

ثانياً: بابان بعدما خرج إلى الدنيا وكان رضيعاً.

ثالثاً: أربعة أبواب بعدما فطم وأحس بالحاجة: طعامان، وشرابان.

من الذي يسر أسباب الرزق؟ من الذي أنبت هذا النبات حتى أثمر وحتى أينع وأصبح صالحاً للقوت لو شاء الله تعالى لجعل الأرض حجراً لا تنبت، ولو شاء لجعل الأرض كلها ماءً لم يحصل بها هذا النبات ولا هذا الاستقرار، ولو شاء لجعل هذه الأرض سبخة لا ينبت فيها أي نبات أصلاً، بل لو أن الله جعل الأرض كلها ذهباً أو كلها فضة، هل يحصل الانتفاع بها وتنبت ويأكل الناس ودوابهم ويتقوتون بها؟ لا، ما تنفعهم.

الله جعل الأرض رخوة صالحة للإنبات، فتبين بذلك أنه سبحانه هو الذي رزقنا، ولهذا يمتن علينا بأنه هو الذي رزقنا، ولسنا نحن الذي نرزق أنفسنا، ثم إذا كان الإنسان قد أعطي قوة حتى يتكسب ويجمع المال من هنا ومن هنا، فمن الذي أعطاه هذا العقل والفكر حتى يتسبب؟ ومن الذي أعطاه هذه الأدوات وهذه الآلات حتى يسير على قدميه وحتى يبطش بيديه وحتى يكتسب بهما؟ أليس هو الذي خلقه؟!

إذاً فالله تعالى هو الخالق وهو الرازق، وإذا كان هو الخالق والرازق فهو الذي يستحق أن يعبد.