شرح عمدة الأحكام [74]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وعن أنس رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذها فقبله].

تحل الأطعمة سواء من اللحوم أو من النباتات، وقد تقدم حكم المعاملات من البيع والشراء، والتجارة، وتنمية الأموال، وبعض المكاسب، والإيجارات وما أشبهها، وتقدم متى تكون حلالاً، ومتى تحرم ويكون فيها غش أو ربا أو غرر أو خداع، أو نحو ذلك، وأما هنا فأرادوا بيان الأطعمة التي أحلها الله والتي حرمها، فيذكرون في هذا الكتاب ما يباح من المأكولات ومن الأشربة وما أشبهها.

الله تعالى أحل الأطعمة التي لا ضرر فيها، وحرم ما فيه ضرر؛ لأن الله خلق هذه الأرض وخلق ما فيها مسخراً لمنفعة البشر كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29] (لَكُمْ) أي: مسخراً لكم، لكن إذا كان فيه ضرر فإنه ينتفع به في غير الأكل.

فجميع ما على وجه الأرض كله خلق لأجل الإنسان، لكن كثيراً من هذه المخلوقات خلقها الله تعالى لتكون آية ودلالة وعبرة على قدرة الخالق تعالى، وليعتبر بها العقل، ويعتبر بها الإنسان، ولا نتوسع في هذا فالباب طويل، ولكن نعود فنقول: المأكولات التي أحلها الله تعالى هي الطيبات، قال تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً [البقرة:168]، وقال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، وهذا النبات الذي ينبت في الأرض منه ما هو غذاء للإنسان كالحبوب والثمار التي لا ضرر فيها، ومنه ما هو غذاء للدواب، يقول تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [طه:54]، ويقول تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل:10] أي: ترعون دوابكم السائمة التي هي راعية بأفواهها (تسيمون) أي: ترعون.

ولا شك أن الطيبات معلومة بالطبع، وبفكر الإنسان، وبعقله، فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة، فمعلوم أن أكل السموم والأشياء الضارة محرمة لكونها ليست طيبة، ولكنها ضارة وخبيثة، ومعلوم أن أكل السباع وأكل الدواب الصغيرة كالبعوض والحشرات الصغيرة من المستخبثات، فلا تدخل في الطيبات، فإذاً: يبقى ما هو من الطيبات على أصله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (الحلال بين والحرام بين..) فإن الطيبات بينة واضحة، والخبائث بينة واضحة، فالنفس تستخبث الجيف، وتستخبث النجاسات والقاذورات، وتنفر منها، ولو لم تكن عندها معرفة بتفاصيل الشريعة، وكذلك تستخبث الحشرات، يستقبح الإنسان أن يأكل الذباب أو يأكل الذر أو يأكل النمل، أو يأكل السوس من الدود، أو يأكل الحشرات الأخرى كالبعوض، والنحل، والزنابير، وكذلك العظاية وسام أبرص والوزغ والسحلية، ولا شك أن نفسه تتقزز أن يأكل من هذه الأشياء، فعرف بذلك أنها خبيثة، فهي من الحرام البين.

وكذلك يعرف أن أنواع الخبز الذي يصنع من البر أو من الأرز ونحوه من الطيبات، وأنه طعام طيب، وكذلك اللحوم الطيبة المذكاة يعرف أنها طيبة، وكذلك الصيد الذي يقتل ويصاد من الظباء وما أشبهها يعرف أنها من الطيبات؛ فلذلك قال: (الحلال بين)، وهو هذه الطيبات التي أحلها الله (والحرام بين)، وهي الخبائث، والخبائث هي كل شيء ضار بالبدن أو ضار بالعقل، فالضار بالبدن مثل أكل الجيف وأكل لحم الخنزير؛ لأنه يتغذى بالنجاسات والأقذار ونحوها، فهذه لا شك أنها ضارة بالبدن، وتسبب ضرراً في تغذية البدن ونحوه، ولا تؤكل إلا عند الضرورة وخوف الموت، فقد أباحها الله عند الضرورة في قوله: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].

وأما الطيبات فإنه يعرفها بفكره، ويعرفها بعقله، ويميز بين ما هو ضار وما هو نافع. وكذلك أيضاً يعرف أن من الطيبات الأشربة المباحة من الألبان والمياه وما حلي بعسل أو نحوه يعرف أنها من الأشربة الطيبة، وإذا كانت تضر بالعقل كالخمور ونحوها فإنها من الخبائث؛ لأنها ضارة بالعقل؛ ولأجل ذلك تسمى الخمر أم الخبائث، ومثلها ما هو ضار بالبدن كهذا الدخان الذي هو التنباك، فلا شك أنه من الخبائث؛ لأنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولأنه يضر بالبدن، ويعرف ذلك الذين حللوه، فهو من الحرام البين.

وهكذا كل المباحات هي بينة لمن وفقه الله ورزقه معرفة وعقلاً، أما الذين زين لهم الشيطان الحرام، فاستحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن، فهؤلاء لا عبرة بهم، فالذين يستحسنون أكل لحم الخنازير ويقولون: إنها دواب من جملة الدواب التي على الأرض، وهي داخلة في قوله: (لَكُمْ)، فالجواب: أنها لما كانت خبيثة تتغذى بالنجاسات ونحوها دخلت في الخبائث، والذين يستحسنون الخمور ويسمونها: أشربة روحية نسوا أنها تزيل العقول، وأنها تلحق أهلها بالمجانين، ولا شك أنها محرمة لأجل هذه العلة، والذين يستحسنون شرب الدخان ويقولون: لا ضرر فيه، نسوا أنه لا نفع فيه البتة، وفيه أضرار كثيرة يعرفها من قرأ في تحاليله، وإذا كان فيه ضرر وليس فيه نفع فهو خسران مبين، فيه خسارة بعض المال، وإحراق له في غير منفعة بل في مضرة.

إذاً: هناك من تنعكس فطرته، وتنقلب معرفته، فيرى الحلال حراماً، ويرى الحرام حلالاً، ويخيل إليه ما هو قبيح حسناً، فمثل هذا لا عبرة به، بل العبرة بأهل العقول الذكية، ثم يرجع في ذلك إلى ما شرعه الله، وإلى ما وضحه فيقال: إن الله تعالى قد بين ما هو حلال وما هو حرام بياناً واضحاً كافياً، فيرجع إلى بيانه، فحرم الخمر، وحرم كل ما هو ضار بالبدن، وحرم الخبائث بقوله: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، وحرم كل ما يضر بالدين أو يقدح فيه من الأشياء التي تضره، فحرم المعاملات الربوية والغش في المعاملات والغصب والسرقة وأخذ المال بغير حق والنهب والظلم وما أشبه ذلك؛ لأن في ذلك أخذ لما لا يستحقه المسلم، فدل ذلك كله على أن الحلال بين، وأن الحرام بين؛ ببيان الله تعالى وبيان رسله عليهم الصلاة والسلام.

ترك المشتبهات

قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وفي رواية: (وبينهما مشبهات ..)، هذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس إما في وجه الكسب، وإما في وجه المدخل، وإما من حيث الأصل، فتشتبه على الناس، فتتعارض فيها الأدلة أو الأقيسة، أو لا يوجد فيها دليل، ولها شبه بهذا، ولها شبه بهذا، فتلحق بما هو أقرب لها.

فمن الدواب ما اختلف في حله وفي حرمته، فاختلفوا في لحم الخيل هل هو حلال أو حرام؟

فذهبت الحنفية إلى أنها حرام وألحقوها بالحمر، وذهب الجمهور إلى أنها حلال، واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث، مثل حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (حرم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل).

واختلفوا في أكل الفيل هل من هو الدواب المباحة أم لا؟ والجمهور على أنه حرام لأنه ذو ناب..

واختلفوا في أكل الزرافة، وأكثرهم على أنها حلال لأنها أشبه ببهيمة الأنعام.

واختلفوا في أكل الضب، والجمهور على أنه حلال، وإن وردت فيه بعض الأدلة التي تدل على كراهته.

واختلفوا في أكل الجراد، والجمهور على أنه حلال؛ لأن العرب تستطيبه، ولما ورد من الأحاديث في إباحة أكله.

واختلفوا في أكل الدلدل ويسمى النيص وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه، وأن النفس تميل إلى النفرة منه؛ فإن الإنسان يترك الشيء المشتبة.

أما الضبع فهو ملحق بما يأكل الجيف، وله ناب، ويفترس، فلأجل ذلك قال الجمهور: هو حرام، وجعلها بعضهم من المستثنى، وأباحها لأجل ما ورد فيها من الأحاديث، ولكن الورع ترك المشتبهات.

وأما الأرنب ففيها هذا الحديث الذي في الصحيحين، يقول أنس : أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، يعني: تعبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها فقبله، فدل على أنها من المباح؛ لأنهم سعوا في أثرها، فدل على أنها مباحة الأكل، وقال بعضهم: إنها تحيض؛ ولأجل ذلك لا تباح، ولكن لا دليل على كراهتها.

وعلى كل حال فالإنسان إذا اطمأنت نفسه إلى شيء فإنه من المباح، وإذا نفرت نفسه من هذا الشيء فيتركه حتى يقوم عنده دليل على حرمته أو على إباحته بناء على الأصل.

وأما المعاملات فقد تقدم أن الكثير من المكاسب قد يكون فيه اشتباه على الإنسان، يشتبه عليه هذا المكسب، أو هذه المعاملة هل هي من المباح أم لا؟ فيشتبه عليه هذا المال الذي جاءه من هذه الجهة هل هو حلال أو حرام؟ فيدخل في قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وإذا اشتبه عليك هذا الأمر، وتقززت نفسك منه، فإن الأولى الصبر عنه؛ ولأجل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، وقال قبل ذلك: (استفت قلبك) يعني: انظر إلى هذا الشيء؛ هل تجد أن نفسك ترتاح لهذه المعاملة أم تجد أن نفسك تكرهها وتتوقف فيها؟ هذا من جهة، ولكن قد يكون بعض الناس معهم شيء من التساهل، فيتوسعون في المكاسب ويأخذون أموالاً بغير حق باسم أجرة أو باسم جعالة؛ وإن كانت لم تطب بها نفس الذي بذلها، أو أنه لا يستحقها لسبب من الأسباب، فإذا لم يكن لها جهة شرعية فما أحسن التورع، والبعد عنها، والسلامة من مآثمها؛ حتى يطيب مأكل الإنسان؛ لأن الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً، وسلم من العذاب، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً، وفي بعض الأحاديث: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).

فعلى المسلم أن يكون متنزهاً عن الآثام، وأن يكون متحرياً للصواب، وأن يكون ورعاً عما ليس بحلال واضح الحلية، وهذا معنى قوله: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، فالشبهات هي هذه الأمور المشتبهة التي تأتيك، يأتيك هذا المال باسم مساعدة، وقد يكون قصد صاحبه أن يعطيك لأجل أن تشفع له، أو لأجل أن تقربه، أو لأجل أن تزيد له في سعر، أو أن تنقص له في ثمن، أو ما أشبه ذلك، ولا تطيب به نفس صاحبه، فيكون حراماً أو يكون مشتبهاً، فإذا توقيت هذه الأمور المشتبهة واقتصرت على ما هو حلال نجوت إن شاء الله من الحرام، واستبرأت لدينك، واستبرأت لعرضك، وأما من توسع في هذه المشتبهات فإنه يجره ذلك إلى الوقوع في الحرام؛ ولأجل ذلك قال: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام)؛ لأنها مع كثرتها لابد أن يكون فيها شيء حرام ولو كان قليلاً، ولو درهم من ربا أو شبيه بربا، أو شبيه برشوة، أو شبيه بغرر، أو شبيه بمال لم تطب نفس صاحبه، ولكن بذله قهرياً أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه والحال هذه يعتبر من المشتبه أو من الحرام.

وإذا وقع في كثير من المشتبهات وقع في الحرام ولا بد، ومثل له النبي عليه السلام بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، الحمى هي الأرض التي يحميها ملك من الملوك أو نحوه، فإذا جاء راعٍ بغنمه ورعى حولها فقد يغفل عنها فتدخل غنمه في ذلك الحمى، فيمسكه الحماة الذين يحمونها، ويعذبونه ويعاقبونه على دخوله، فهكذا الذي يقرب من الحرام لا يأمن أن يقع في الحرام.

قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وفي رواية: (وبينهما مشبهات ..)، هذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس إما في وجه الكسب، وإما في وجه المدخل، وإما من حيث الأصل، فتشتبه على الناس، فتتعارض فيها الأدلة أو الأقيسة، أو لا يوجد فيها دليل، ولها شبه بهذا، ولها شبه بهذا، فتلحق بما هو أقرب لها.

فمن الدواب ما اختلف في حله وفي حرمته، فاختلفوا في لحم الخيل هل هو حلال أو حرام؟

فذهبت الحنفية إلى أنها حرام وألحقوها بالحمر، وذهب الجمهور إلى أنها حلال، واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث، مثل حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (حرم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل).

واختلفوا في أكل الفيل هل من هو الدواب المباحة أم لا؟ والجمهور على أنه حرام لأنه ذو ناب..

واختلفوا في أكل الزرافة، وأكثرهم على أنها حلال لأنها أشبه ببهيمة الأنعام.

واختلفوا في أكل الضب، والجمهور على أنه حلال، وإن وردت فيه بعض الأدلة التي تدل على كراهته.

واختلفوا في أكل الجراد، والجمهور على أنه حلال؛ لأن العرب تستطيبه، ولما ورد من الأحاديث في إباحة أكله.

واختلفوا في أكل الدلدل ويسمى النيص وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه، وأن النفس تميل إلى النفرة منه؛ فإن الإنسان يترك الشيء المشتبة.

أما الضبع فهو ملحق بما يأكل الجيف، وله ناب، ويفترس، فلأجل ذلك قال الجمهور: هو حرام، وجعلها بعضهم من المستثنى، وأباحها لأجل ما ورد فيها من الأحاديث، ولكن الورع ترك المشتبهات.

وأما الأرنب ففيها هذا الحديث الذي في الصحيحين، يقول أنس : أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، يعني: تعبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها فقبله، فدل على أنها من المباح؛ لأنهم سعوا في أثرها، فدل على أنها مباحة الأكل، وقال بعضهم: إنها تحيض؛ ولأجل ذلك لا تباح، ولكن لا دليل على كراهتها.

وعلى كل حال فالإنسان إذا اطمأنت نفسه إلى شيء فإنه من المباح، وإذا نفرت نفسه من هذا الشيء فيتركه حتى يقوم عنده دليل على حرمته أو على إباحته بناء على الأصل.

وأما المعاملات فقد تقدم أن الكثير من المكاسب قد يكون فيه اشتباه على الإنسان، يشتبه عليه هذا المكسب، أو هذه المعاملة هل هي من المباح أم لا؟ فيشتبه عليه هذا المال الذي جاءه من هذه الجهة هل هو حلال أو حرام؟ فيدخل في قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وإذا اشتبه عليك هذا الأمر، وتقززت نفسك منه، فإن الأولى الصبر عنه؛ ولأجل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، وقال قبل ذلك: (استفت قلبك) يعني: انظر إلى هذا الشيء؛ هل تجد أن نفسك ترتاح لهذه المعاملة أم تجد أن نفسك تكرهها وتتوقف فيها؟ هذا من جهة، ولكن قد يكون بعض الناس معهم شيء من التساهل، فيتوسعون في المكاسب ويأخذون أموالاً بغير حق باسم أجرة أو باسم جعالة؛ وإن كانت لم تطب بها نفس الذي بذلها، أو أنه لا يستحقها لسبب من الأسباب، فإذا لم يكن لها جهة شرعية فما أحسن التورع، والبعد عنها، والسلامة من مآثمها؛ حتى يطيب مأكل الإنسان؛ لأن الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً، وسلم من العذاب، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً، وفي بعض الأحاديث: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).

فعلى المسلم أن يكون متنزهاً عن الآثام، وأن يكون متحرياً للصواب، وأن يكون ورعاً عما ليس بحلال واضح الحلية، وهذا معنى قوله: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، فالشبهات هي هذه الأمور المشتبهة التي تأتيك، يأتيك هذا المال باسم مساعدة، وقد يكون قصد صاحبه أن يعطيك لأجل أن تشفع له، أو لأجل أن تقربه، أو لأجل أن تزيد له في سعر، أو أن تنقص له في ثمن، أو ما أشبه ذلك، ولا تطيب به نفس صاحبه، فيكون حراماً أو يكون مشتبهاً، فإذا توقيت هذه الأمور المشتبهة واقتصرت على ما هو حلال نجوت إن شاء الله من الحرام، واستبرأت لدينك، واستبرأت لعرضك، وأما من توسع في هذه المشتبهات فإنه يجره ذلك إلى الوقوع في الحرام؛ ولأجل ذلك قال: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام)؛ لأنها مع كثرتها لابد أن يكون فيها شيء حرام ولو كان قليلاً، ولو درهم من ربا أو شبيه بربا، أو شبيه برشوة، أو شبيه بغرر، أو شبيه بمال لم تطب نفس صاحبه، ولكن بذله قهرياً أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه والحال هذه يعتبر من المشتبه أو من الحرام.

وإذا وقع في كثير من المشتبهات وقع في الحرام ولا بد، ومثل له النبي عليه السلام بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، الحمى هي الأرض التي يحميها ملك من الملوك أو نحوه، فإذا جاء راعٍ بغنمه ورعى حولها فقد يغفل عنها فتدخل غنمه في ذلك الحمى، فيمسكه الحماة الذين يحمونها، ويعذبونه ويعاقبونه على دخوله، فهكذا الذي يقرب من الحرام لا يأمن أن يقع في الحرام.

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه)، وفي رواية: (ونحن بالمدينة).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل)، ولـمسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي).

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً)].

هذه الأحاديث تتعلق بالحلال والحرام من بهيمة الأنعام ومن الدواب ونحوها، وقد عرف أن الأصل في بهيمة الأنعام الحلّ وجواز الأكل، إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه وتحريم أكله، فلا خلاف في أكل الإبل والبقر والغنم ضأناً أو معزاً؛ لأن الله سماها حلالاً، وسماها بهيمة الأنعام في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، ويراد بها البهائم التي ذللت وسخرت للإنسان، وقال الله تعالى عن الإبل: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] ، وذكر الله تعالى الغنم والبقر في قوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، وقال: وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:144]، وبقي هناك دواب سخرها الله تعالى أيضاً للإنسان كالخيل ذكرها في قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8] ، وذكرها من الزينة في قوله قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران:14]، وذكرها في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] ونحو ذلك.

فهذه الخيل مما سخرها الله تعالى للإنسان؛ ليركبها، وليحمل عليها، وليقاتل عليها، وللسباق ولغير ذلك، وفيها أيضاً زينة، وإذا كانت كذلك فإنها مباحة حلال الأكل؛ لأنها من جملة ما يسره الله وسخره للإنسان، فلا مانع من إباحة أكل لحمها بعد ذبحها وتذكيتها؛ لأنها من الطيبات، وتتغذى بالطيبات، والناس يتفاخرون بها ويحبونها، حتى مدحوها بقصائد كثيرة، يقول بعضهم:

أحبوا الخيل واصطبروا عليها فإن العز فيها والجمال

إذا ما الخيل ضيعها أناس ربطناها فأشركت العيال

نقاسمها المعيشة كل يوم وتكسبنا المهابة والجمال

وكانوا يفتخرون باقتنائها، فهي من الزينة التي سخرها الله وجعلها من زينة الدنيا؛ فلأجل ذلك رخص في أكلها، ففي حديث أسماء قالت: (نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه)، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك وأقره؛ لأن أسماء هي بنت أبي بكر ، وهي أخت عائشة ، وزوجها هو الزبير الذي هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له خيل، فتلك الفرس يغلب على الظن أنها من خيل الزبير ، ولابد أنه أطعم منها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أسماء أطعمت عائشة ، وعائشة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أنه أقر أكلها، وأنه أباحه، فهي من جملة الطيبات التي أباحها الله بقوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقوله: كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51].

وقد ذهب بعض العلماء كالحنفية إلى تحريم أكلها، وألحقوها بالحمر، وقالوا: إن الله ما ذكر فيها إلا أنها زينة في قوله: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، فدل على أنها غير مأكولة، ولو كانت مما يؤكل لذكر النعمة بالأكل كما ذكرها في الإبل بقوله: فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، ولو كانت مما يؤكل لشرعت في الهدي، وجاز أن تذبح في الأضاحي، وفي جبران المناسك ونحو ذلك، ولم يعملوا بهذا الحديث مع أنه في الصحيح، ومع كونها من الطيبات، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أكل لحمها، فهذه التعليلات لا تنفي الأكل؛ وذلك لأن الآية إنما ذكرت الأغلب، فالأغلب أن الناس يقتنونها للزينة وللفخر وللقتال عليها؛ ولأجل ذلك يرفعون في أثمانها، ويحبونها، ويغالون في اقتنائها، وفي اقتناء نسلها ونحو ذلك، وإذا كانت حلالاً فجميع ما ينتج منها حلال، فلبنها حلال يشرب إذا كان فيها لبن كما يشرب لبن البقر والغنم ونحوها، ولحمها حلال، وكذلك ينتفع بجلودها كما ينتفع بجلود غيرها من بهيمة الأنعام، وما أشبه ذلك.

تحريم أكل الحمر والبغال

الحمر والبغال كانت حلالاً في أول الإسلام، ثم حرمت في سنة سبع، واستقر الأمر على تحريم هذا الحمار الأهلي، والمراد بالحمر الأهلية الحمر التي تركب وينتفع بها في الركوب وفي الحمل عليها ونحو ذلك، والحمار الأهلي ينتفع به في الركوب، وذلك لأنه يصبر على الركوب، وقد يكون سيره أسرع من سير الإبل أو قريباً منها، وإن كان لا يحمل عليه الأثقال الكبار، ولا يركب إلى البلاد البعيدة؛ لكونه لا يحمل شيئاً كثيراً غير الراكب ونحوه، ولكن هو مما سخره الله للركوب كما في قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]،

ولكن ورد ذم صوته: إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] وفي هذا ذم له من هذا الوجه، وورد أيضاً ذمه في آية أخرى في قوله: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] فالحمار معروف أنه لا يستفيد من حمل الأسفار يعني: من حمل الكتب، فجعله مثلاً للذين حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا [الجمعة:5] وهذا يفهم منه أنه مذموم؛ فلأجل هذا ورد تحريم أكل الحمر الأهلية، وذلك أنهم لما كانوا في غزوة خيبر في أول سنة سبع من الهجرة، وحاصروا خيبر، كأنه أصاب بعضهم جوع، فلم يجدوا أقرب من هذه الحمر فذبحوها، سواء كانت ملكاً لهم أو غنيمة مما غنموه من دواب أهل خيبر، فذبحوها ونصبوا القدور في ليلة مظلمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذه القدور؟ أو قال: على أي شيء توقد هذه القدور؟ قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: أهريقوها واكسروها -من باب الغضب- قالوا: أونهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك)، ومشى هو وبعض صحابته، وأخذوا يهرقون تلك اللحوم التي في القدور، وأخذ يدوسها في التراب ويتربها ونادى في تلك الليال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس)، وفي رواية: (ركس)، وتكاثرت الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم نهى في تلك الليالي عن لحوم الحمر الأهلية، ولو كانت من بهيمة الأنعام، ولو كانت مما يركب ويعلف، لكن لم يذكر العلة، ولعله قذارتها، فإنها قد تتغذى بالنجاسات، فقد تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها، وإن كان ذلك ليس أغلبياً؛ لأنها في الأصل تأكل من النباتات ونحوها.

فبكل حال جاءت هذه الأحاديث صريحة بالنهي عنها، وعمل بها جمهور الأمة، وقالوا: إنها محرمة الأكل لهذه الأحاديث، فلا تؤكل وإنما ينتفع بها، واتفقوا على طهارة عرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار الأهلي، ويردف عليه، وكان يركبه بدون وقاية، ولا شك أنه قد يعرق وهو عليه، ولم يكن يغسل ثيابه من عرق الحمار، فدل على طهارة عرقه، وكذلك طهارة سؤره، فإذا شرب من ماء فلا بأس أن يشرب منه أو يتوضأ من سؤره إذا عرف أنه لم يأكل نجاسة، فهو من الطاهرات إلا أنه سمى لحمه رجساً في قوله: (فإنها رجس)، والرجس هو النجس الذي وصف الله به بعض المحرمات كقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فكذلك جعل لحوم الحمر الأهلية رجساً فعمل بذلك أغلب الأئمة، وذهب بعض الصحابة -كما روي عن ابن عباس - وبعض الأئمة -وهو رواية عن الشافعي - أنه يباح أكلها كبهيمة الأنعام، وجعلوا النهي عنها خاصاً، وقالوا: إنما نهى عنها في خيبر؛ لأنها كانت حمولة الناس، وخاف أنهم إذا ذبحوها لم يبق لهم ما يحملون عليه أو ما يركبونه، ولكن هذا لا يوافق ما ذكر من قوله: (فإنها رجس)، وعلى هذا؛ فالقول المعتمد لأئمة المسلمين أنها محرمة الأكل، وأنه لا ينتفع بلحمها لا أكلاً ولا انتفاعاً، وأن لبنها أيضاً نجس، حيث إنها نجسة -يعني: لحمها- فكذلك لبنها، وشحمها، وما يؤخذ منها بعد موتها، كل ذلك منهي عنه بموجب هذه الأحاديث.

الحمر والبغال كانت حلالاً في أول الإسلام، ثم حرمت في سنة سبع، واستقر الأمر على تحريم هذا الحمار الأهلي، والمراد بالحمر الأهلية الحمر التي تركب وينتفع بها في الركوب وفي الحمل عليها ونحو ذلك، والحمار الأهلي ينتفع به في الركوب، وذلك لأنه يصبر على الركوب، وقد يكون سيره أسرع من سير الإبل أو قريباً منها، وإن كان لا يحمل عليه الأثقال الكبار، ولا يركب إلى البلاد البعيدة؛ لكونه لا يحمل شيئاً كثيراً غير الراكب ونحوه، ولكن هو مما سخره الله للركوب كما في قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]،

ولكن ورد ذم صوته: إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] وفي هذا ذم له من هذا الوجه، وورد أيضاً ذمه في آية أخرى في قوله: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] فالحمار معروف أنه لا يستفيد من حمل الأسفار يعني: من حمل الكتب، فجعله مثلاً للذين حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا [الجمعة:5] وهذا يفهم منه أنه مذموم؛ فلأجل هذا ورد تحريم أكل الحمر الأهلية، وذلك أنهم لما كانوا في غزوة خيبر في أول سنة سبع من الهجرة، وحاصروا خيبر، كأنه أصاب بعضهم جوع، فلم يجدوا أقرب من هذه الحمر فذبحوها، سواء كانت ملكاً لهم أو غنيمة مما غنموه من دواب أهل خيبر، فذبحوها ونصبوا القدور في ليلة مظلمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذه القدور؟ أو قال: على أي شيء توقد هذه القدور؟ قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: أهريقوها واكسروها -من باب الغضب- قالوا: أونهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك)، ومشى هو وبعض صحابته، وأخذوا يهرقون تلك اللحوم التي في القدور، وأخذ يدوسها في التراب ويتربها ونادى في تلك الليال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس)، وفي رواية: (ركس)، وتكاثرت الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم نهى في تلك الليالي عن لحوم الحمر الأهلية، ولو كانت من بهيمة الأنعام، ولو كانت مما يركب ويعلف، لكن لم يذكر العلة، ولعله قذارتها، فإنها قد تتغذى بالنجاسات، فقد تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها، وإن كان ذلك ليس أغلبياً؛ لأنها في الأصل تأكل من النباتات ونحوها.

فبكل حال جاءت هذه الأحاديث صريحة بالنهي عنها، وعمل بها جمهور الأمة، وقالوا: إنها محرمة الأكل لهذه الأحاديث، فلا تؤكل وإنما ينتفع بها، واتفقوا على طهارة عرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار الأهلي، ويردف عليه، وكان يركبه بدون وقاية، ولا شك أنه قد يعرق وهو عليه، ولم يكن يغسل ثيابه من عرق الحمار، فدل على طهارة عرقه، وكذلك طهارة سؤره، فإذا شرب من ماء فلا بأس أن يشرب منه أو يتوضأ من سؤره إذا عرف أنه لم يأكل نجاسة، فهو من الطاهرات إلا أنه سمى لحمه رجساً في قوله: (فإنها رجس)، والرجس هو النجس الذي وصف الله به بعض المحرمات كقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فكذلك جعل لحوم الحمر الأهلية رجساً فعمل بذلك أغلب الأئمة، وذهب بعض الصحابة -كما روي عن ابن عباس - وبعض الأئمة -وهو رواية عن الشافعي - أنه يباح أكلها كبهيمة الأنعام، وجعلوا النهي عنها خاصاً، وقالوا: إنما نهى عنها في خيبر؛ لأنها كانت حمولة الناس، وخاف أنهم إذا ذبحوها لم يبق لهم ما يحملون عليه أو ما يركبونه، ولكن هذا لا يوافق ما ذكر من قوله: (فإنها رجس)، وعلى هذا؛ فالقول المعتمد لأئمة المسلمين أنها محرمة الأكل، وأنه لا ينتفع بلحمها لا أكلاً ولا انتفاعاً، وأن لبنها أيضاً نجس، حيث إنها نجسة -يعني: لحمها- فكذلك لبنها، وشحمها، وما يؤخذ منها بعد موتها، كل ذلك منهي عنه بموجب هذه الأحاديث.

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (دخلت مع خالد بن الوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة ، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقلت: تأكله هو ضب؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد : فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) قال رضي الله عنه: المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة.

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد).

وعن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدة عليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فلتأكل، فتلكأ، فقال له: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه].

هذه الأحاديث تتعلق ببعض الأطعمة، وسياقها يدل على أنها في اللحوم التي قد يشك فيها، فالحديث الأول في حكم أكل الضب، وهو حيوان معروف، وصورته كصورة الوزغ أو السحلية أو سام أبرص أو الورل، ولكن استثني فأبيح، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، ومنها ما يدل على كراهته، ومنها ما يدل على إباحته، فمنها هذا الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة وهي إحدى أمهات المؤمنين، ودخل معه خالد بن الوليد وهي خالته، فقدم إليه هذا اللحم، وإذا هو لحم ضب محنوذ، يعني: مشوي على الرضف، وهي حجارة محماة، فأهوى بيده ليأكل، فأخبروه بما يريد أن يأكل حتى يعرف حكم ذلك الطعام الذي يأكله هل هو مباح أم مكروه أم حرام؟ ولم يكن عندهم علم بحكم هذا الحيوان الذي هو الضب، فلما أخبروه بأنه الضب تورع عنه ورفع يده، فسألوه: أحرم هو؟ فقال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)، وكأنه تورع عنه لأنه لم يتعود أكله في أول عمره، وكأنه في ذلك الوقت لم يكن كثيراً حول مكة، وإن كان يوجد بكثرة حول المدينة وحول القرى الأخرى، ولكن لأنه لم يعتاده في أول عمره كرهته نفسه فتورع عنه، فهذا هو السبب في كونه لم يأكله.

ولكن اجتذبه خالد بن الوليد فأكله والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، واستدلوا بإقراره على أنه مباح، فإنه لا يقر على ما هو مكروه أو ما هو حرام، ودل على أن تركه له إنما هو لأن نفسه تقززت وتوقفت عن أكل شيء لم يكن اعتاده ولا تعودت نفسه على استساغته.

وبكل حال فهو دليل على إباحة لحم الضب، فهو من الطيبات؛ وذلك لأنه يأكل من الأعشاب التي تنبت في البراري، فهو من جملة الدواب التي تأكل منها كالظباء والوعول وما أشبهها التي هي من الطيبات، وهو لا يأكل الجيف، ولا يأكل الأقذار ونحوها.

وورد في بعض الروايات أنه قال: (لا أحله ولا أحرمه) يعني: لا آكله ولا تستطيبه نفسي، ولكن لا أحرمه، والصحيح الرواية التي فيها: (لا آكله ولا أحرمه) يعني: لا تقبله نفسي، ولا أنهى غيري، ومع كثرة الأحاديث التي فيه؛ فإن الذين لم يألفوه ولم يعرفوه في بلادهم ينكرون أكله، وتنفر منه نفوسهم، فكثير من أهل البلاد النائية ما عرفوه، وإذا رأوه فإن نفوسهم تتوقف عن أكله، وتكرهه، وقد كرهه بعضهم لوجود رائحة فيمن أكله، فإنه يؤثر رائحة فيمن أكله، ولكن ليست تلك الرائحة رائحة كريهة، وإنما هي رائحة واضحة تبين أنه أكل شيئاً من لحم الضب، وهذا لا يبرر كراهيته، فهو من المباحات.

قوله: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد)، الجراد معروف، وهو هذه الحشرات الصغيرة التي تطير، وتوجد بكثرة في بعض الأوقات، وهي شبيهة ببعض الأشياء المحرمة كالزنابير والدبر وغيره، ولكن لها خاصية في أنها تأكل الأعشاب ونحوها وتتغذى بالنبات وما أشبهه، فلا إثم في أكلها، وأيضاً فهي مما يسلطها الله على بعض الناس، فتكثر فتأكل الثمار وتتسلط على الزروع وعلى البساتين، وإذا سلطها الله تعالى على قوم تكون من جملة العذاب الذي يرسله الله، وقد ذكر الله تعالى أنها من جملة ما أرسل على آل فرعون، فقال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133] يعني: سلط الله عليهم هذه الأشياء، فسلط عليهم الجراد فأكل ثمارهم، وأكل أشجارهم، عذاب من الله لا يقدرون على رده؛ وذلك لكثرته وعدم استطاعة مقاومته إذا سلط، وما يؤخذ منه أو يصاد لا ينقصه، فالناس يصطادون منه شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك إذا أصبحوا وذهب إلى البلاد الأخرى وجدوه كأنه لم ينقص، فيصيدون منه، ثم في الصباح يطير ويذهب إلى قرية أخرى، فيجدونه كأنه لم ينقص، وهكذا ليس له نهاية إلا إذا سلط الله عليه ما شاء.

إذاً: هذا الجراد من جملة ما يسلطه الله على عباده، ولما كان من جملة الطيبات، وأكله من الأشجار ونحوها؛ أبيح أكله، وجعل من الدواب التي لا تحتاج إلى تذكية، ففي الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال)، فتباح ميتته، وإذا وجد ميتاً أبيح طبخه أو شيه، وكذلك إن صيد وهو حي فإنه لا يحتاج إلى ذبح، بل يشوى أو يطبخ وهو حي، ويحل أكله بعد ذلك، وما ذاك إلا لأنه ليس فيه دم إذا ذبح، وما يسيل منه لا يسمى دماً، وإنما يسيل منه شيء وهو حي شبه لعابه، فلا يسمى دماً، والميتة حرمت لأنها إذا ماتت تحجر الدم في عروقها وأفسد لحمها، بخلاف الجراد فإنه ليس فيه دم، فلذلك يباح أكله بعد ما يطبخ ولو لم يذبح.

المصنف ذكر هذا الحديث لأن فيه خلافاً، وكثير من أهل البلاد الإسلامية ينكرون أكله؛ وذلك لأنهم لم يتعودوه، ولم يألفوه، لأنه غريب في بلادهم، أو أنه يأتيهم أحياناً، ولم يتعودوا اصطياده وطبخه، فلذلك يكون من جملة المكروه نفسياً، ولكن لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، ولما ثبت أنه أباحه وإن لم يذك، وثبت أن الصحابة أكلوه؛ دل ذلك على أنه من جملة المباحات ومن جملة الطيبات، فهو غذاء يغني عن الطعام ويغني عن اللحوم، وقد يتلذذ بأكله، ويتفكه به، فلا كراهة فيه، ولكن لا يلزم كل أحد أن يأكله، إنما يأكله من اشتهاه، ولكن لا يعيبه أحد ولا يحرمه.