أرشيف المقالات

مع الكتاب ومحاضن التربية الأخرى (2)

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
تجارب وأفكار
مع الكتاب ومحاضن التربية الأخرى (2)

أدركتني الحضانة أو أدركتُها، وعشت في ظلِّها سنةً كاملةً قبل دخول الدِّراسة الأزهريَّة النظاميَّة، كانت تجربةً جديدةً على قريتنا الريفيَّة الصغيرة، ما زلت أذكر المدرِّس، والكتاب، والسبورة، والكراسة، والقلم، تحتفر هذه الأشياء مكانها في ذاكرتي احتفارًا، لكن ليس بمقدار القصَّة التي كان يحكيها لنا ذلك الأستاذ الفاضل والمعلِّم المربِّي، يا لجمال اختياره القَصص، ويا لَروعة إلقائه لها على مسامعنا! ويا لَبهاء ما تركت في قلوبنا وأعضائنا إلى اليوم من أثر!
 
وإذا كان التعليم في الصِّغر كالنقش على الحجر؛ كما يقول المثل العربيُّ المتداول؛ فإن التعليم بالقصة خاصَّةً له تأثيرٌ عظيم يفوق ما عداه؛ إنه يأسر القلب والأعضاء كما يفعل السِّحر، فيقود الطفل إلى فعل الخيرات بحب داخليٍّ، وينفِّره عن اقتراف المعاصي بحرصٍ ذاتيٍّ، فتجد الطالب قد صوَّر لكلِّ شخصيَّة من الشخصيات التي يسمع خبرها صورةً في نفسه، ويتمثَّل كلماتها كالرايات في ذهنه، فكلَّما مرَّ به موقف مشابهٌ لما سمعه، تذكَّر عظته في أمره ونهيه، فاستجاب لداعي قلبه في عمل المعروف واجتناب المنكر، وهذا كلُّه تأثير القصَّة.
 
هل أقول لكم: إنِّي ما زلت أذكر أيام الطفولة هذه، وأجعل أحلاها وأجملها أيام الكُتَّاب والحضانة؟
وهل أقول لكم: إنني مدين في كثير من توجُّهات حياتي لهذه المرحلة الكريمة التي، حظيت خلالها باهتمام المعلِّمين، وإرشاد المربِّين؟
وهل أقول - أيضًا -: إنني أعود إلى هذه الأيام أتذكَّر عظاتِها الجميلةَ حين تتضاءل نفسي فترفعها، وحين تنهزم أمام ضغوط الواقع فتنصُرها، وحين تضيق عليَّ الدنيا فأراها بعد الذكرى رحبةً فسيحةً؟
 
كان التعليم - قبل أن نعرف الحضانة أو روضة الأطفال على اختلاف مسمياتها - يبدأ بالنسبة للطفل من سنِّ ست سنوات، فلو لم يكن استغلال هذه السنين - وهي سنون ذهبيَّة - في الكتَّاب، ضاعت على الطفل في غير شيء.
فلما أُدخلت هذه المرحلة في التعليم، أضافت سنتين جديدتين لعمرِ الطالب في التعليم، وتحصَّل له بذلك صفاءُ ذهنٍ ونقاؤه، وزيادة وعيٍ ورسوخُه.
 
وقد عاصرت تجربةً جديدةً أقامها بعض الإخوة وفَّقهم الله تعالى؛ كان ذلك منذ عشر سنين مضت، وآتت ثمارًا طيبةً يانعةً، تلك التجربة تعتمد على ضمِّ الطفل إلى التعليم من سنِّ سنتين فقط، وقد لمست كثيرًا من آثار هذه التجربة الجيِّدة أيام إدارتي لمعهد الأرقم بن أبي الأرقم الأزهري في المنطقة التي تقع هذه التجربة في محيطها، وتبينت الفروق بين هذه التجربة وبين غيرها من التجارب التي تقبل الطفل من سن أربع سنوات - على ما هو شائع ومشهور - فوجدتها فروقًا كبيرةً، لها آثار حميدة، ومنافعُ وفوائد عديدة.
 
وهذه التجربة تحتاج إلى تسجيل ورصد وتعريف، ولعلِّي أشير على بعض القائمين عليها القيام بذلك، وقد كانت تلك التجربة تعتمد طريقةَ التلقين لمدة ستة أشهر تقريبًا، ثم تبدأ بعدها العمليَّة التعليمية العادية جدًّا.
وبهذا تكون العملية التعليميَّة قد زادت سنتين إضافيتين، وحُذفت سنتان من السنوات الأربع الضائعة على الطالب في طفولته.
 
وما زلت أفكِّر في استغلال هاتين السنتين أيضًا؛ إن الله تعالى يقول عن خلق الإنسان في آيات القرآن الكريم: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]؛ فأخبر تعالى عن خلقه السمع أولًا.
 
وهكذا نجد هذا الأمر مطردًا في القرآن الكريم كلِّه، يذكر الله تعالى السمع قبل بقية الحواسِّ، حتى في اسميه الكريمينِ: السميعِ البصير، يذكر السميع قبل البصير.
فلا شك أن ذلك لحكمةٍ.
 
وأيضًا فإننا نقرأ قوله تعالى بشأن أصحاب الكهف: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ [الكهف: 11].
فالسمع يتلقَّى المعارف دائمًا لا يغلق دونها، وهو أسبق الحواس إلى هذا التلقِّي!
حتى أغرى هذا البيانُ بعضَ الباحثين بالتنقيب عن الجنين في بطن أمِّه هل يسمع، هل يتلقَّى المعرفة، هل يمكنه الاستفادة منها فعلًا، هل تدوم معه إلى ما بعد خروجه من بطن أمِّه؟
هذا عن السمع، ثم إن الطفل يبصر ويعقل أيضًا.
 
فكيف يصح إذًا أن تغلق الفائدة دون الطفل طَوالَ هاتين السنتين، ولا نستغلهما فيما يشبه المنهج المسموع المرئي؟
يمكننا التفكير في منهجٍ يشتمل على بعض المسموعات وبعض المرئيات الخفيفة الطريفة، يتعرَّف الطفل من خلاله إلى الأسماء والأشياء من حوله، فهل نفكِّر في هذا جدِّيًّا؟ هذا ما آمله حقًّا، وعسى أن يكون قريبًا.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢