شرح عمدة الأحكام [66]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب القصاص: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء).

وعن سهل بن أبي حثمة قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً، فدفنه ثم قدم المدينة، ثم انطلق عبد الرحمن بن سهل وحويصة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم؛ فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده)

وفي حديث حماد بن زيد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟)

وفي حديث ابن عبيد : (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة)]

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وصفه بأنه مسلم، وأنه يشهد الشهادتين، فإذا أسلم لله تعالى، واستسلم لأمره، وأقر بالشهادتين؛ عصم دمه، وعصم ماله، وحرم قتله وإراقة دمه، وحرم قطع طرفه، وحرم شجه أو جرحه، وحرم الاعتداء عليه؛ لأنه عصم دمه بهذه العقيدة، وبهذا الدين، إلا بثلاثة أشياء:

الأول: إذا زنى وهو محصن، والإحصان: هو كونه قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم بعد ذلك زنى، فهذا ثيب، فيقتل إن زنى بأن يرجم حتى يموت، فهذا سبب أباح دمه، وهو زناه مع الإحصان.

الثاني: إذا قتل بريئاً قتل به، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] فمن قتل شخصاً مكافئاً له قتل به، فمن قتل رجلاً مسلماً قُتل به، وكذا لو قتل امرأة مسلمة قتل بها.

الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا يباح قتله، ويسمى مرتداً، أو مبتدعاً بدعة مكفرة تلحقه بالردة، فهذا يقتل ولو أقر بالشهادة؛ لأنه أتى بما يبطلها، فمن ترك دينه بعبادة القبور حل قتله، وكذلك من ترك الصلاة وأصر على تركها قتل، وكذلك من منع الزكاة، وكذلك من استحل شيئاً من الحرام، من استحل الزنا وجعله مباحاً، أو استحل الربا، أو استحل الخمر، أو نحو ذلك؛ أُبيح قتله؛ لأنه أتى بمبرر وهو ترك دينه.

وكذا إذا فارق جماعة المسلمين وإمامهم وسوادهم الأعظم، فارقهم وأصبح شاذاً، فإنه يقاتل إلى أن يرجع إلى معتقد المسلمين، وجماعة المسلمين هم الذين على عقيدة السلف ولو كانوا أقل من غيرهم.

الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يوم القيامة يكون فيه الحساب، فتوزن أعمال العباد السيئات والحسنات، وتقابل هذه بهذه، ويحاسب العبد على أعماله التي تخصه، فيحاسب على صلاته، ما نقص وما أتم فيها، ويحاسب على زكواته، وعلى أذكاره، وعبادته، وجميع حسناته وسيئاته، ثم إذا انتهى من الحساب الذي بينه وبين ربه، عند ذلك ينظر فيما بينه وبين الناس من المظالم، فلا بد أن يحاسب عليها، وأن ينظر فيها، مظلمة في مال، مظلمة في عرض، مظلمة في حرمة، مظلمة في سباب، أو قذف مظلمة في إراقة دم، في إزهاق نفس، وفي قطع طرف، وفي شجة أو نحو ذلك، هذه كلها مظالم بين العباد، أول ما يُنظر في الحقوق التي بين العباد الدماء، يعني: القتل أو ما يقرب من القتل، فإذا كان بين الناس مظالم بدئ بالقتل ونحوه قبل المظلمة في المال، وإذا كان هذا الإنسان قد قتل وسرق وانتهك حرمة، فيؤخذ حق المقتول منه قبل كل شيء، قبل أن يؤخذ منه حقوق المال ونحوها، وهذا دليل على عظم شأن القتل؛ لأنه اعتداء على روح مسلم بغير حق، وإراقة لدمه بغير مبرر، فقدم على غيره.

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلا شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـأبي شاه ، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر)].

هذا الحديث يتعلق بالقصاص، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في سنة ثمان بعد أن قواه الله تعالى ونصره، وآمن معه من آمن، فاجتمع معه عشرة آلاف، وتوجه بهم إلى مكة بسبب نقضهم العهد الذي تعاهدوا عليه في سنة ست في الحديبية، ولما غزاهم ودخل مكة، أحل الله له القتال فيها، فقاتلوا فيها من أول النهار إلى قرب العصر، ثم بعد ذلك استسلم أهل مكة وأمنهم، واستتب الأمن ولم يعد يقاتلهم.

ولما أسلم أهل مكة واطمأنوا، ودخل الناس في مكة، واجتمع بعضهم مع بعض، كان هناك بعض من الجاهليين الذين معهم شيء من حمية الجاهلية، ومن العادات القديمة التي منها الأخذ بالثأر، فكانت قبيلة خزاعة قد قُتل منهم قتيل في الجاهلية، قتلته هذيل، وقيل: إن هذيلاً هي التي كان لها قتيل، فقتلت خزاعة هذلياً، أو قتلت هذيل خزاعياً، وقالوا: ما دام أن مكة زالت حرمتها؛ فلماذا لا نأخذ بالثأر؟ واعتقدوا أن حرمة مكة إنما هي في الجاهلية، وأنها ليست بلدة محرمة، وأنه يجوز أخذ الثأر فيها، ويجوز القتال فيها، فقتلوا القتيل فأخطئوا خطأين:

الخطأ الأول: الأخذ بالثأر الجاهلي.

الخطأ الثاني: استحلال القتال في البلد الحرام.

فلما فعلوا ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب هذه الخطبة في المسجد الحرام، فأخبر بأن هذا البلد حرام حرمه الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وأنه لا يزال على حرمته، قال الله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57] ( حرماً آمناً يجبى إليه ) أي: يجلب إليه الثمرات من كل البلاد، وقال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91] البلدة هي مكة، أن أعبد الله حيث إنه حرم هذه البلدة، فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هذا البلد الذي هو مكة له أهميته، وله منزلته، وأنه باق على حرمته.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء الذين قتلوا في مكة، وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة بليغة في حجة الوداع في عرفة، وكان من جملة ما ذكره أنه قال: (إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم بني هاشم) أي: رجل من بني هاشم قتلته هذيل، فوضع دماء الجاهلية، ونعرات الجاهلية، والعادات الجاهلية، فعرف بذلك أن القتل في المسجد الحرام، والقتال فيه؛ لا يجوز، وإذا قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبيح له القتال فيها؟

فالجواب: أن الله أباحه لنبيه، وأذن له ولم يأذن لغيره كما في هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين) لما جاء أصحاب الفيل ليستبيحوا حرمة هذا البلد؛ حبسهم الله وردهم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:3-4]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سلطه عليهم لما أصروا على الكفر، واستمروا عليه، واستباحوا البلد الحرام بأن جعلوه بلاد كفر وشرك، وردوا الرسالة النبوية، فأمره أن يقاتلهم، وأحل له القتال في هذا البلد هذا اليوم، ثم بعد ذلك عادت حرمة هذا البلد كما كانت، فأخبر أنه عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، وأخبر أنه يحرم فيه سفك الدماء والقتال؛ وذلك لحرمة المكان، والذي يقتل فيه يعتبر قد فعل جرمين:

الأول: أنه سفك دماً حراماً بغير حق، ولو كان مظلوماً.

الثاني: أنه تهاون بحرمة البيت الحرام وبحرمة البلد الحرام، فاستحل ما حرم الله.

حكم القصاص في الحرم

أجاز العلماء القصاص في الحرم، فإذا قتل إنسان في المسجد الحرام، واستهان بحرمته فإنه يقتل النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] فجزاء قتله أن يقتل، وكذلك أجازوا أن تقام فيه الحدود، بل ويشدد فيها، فمن زنى داخل البلد الحرام جلد الحد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، فيقام عليه الحد؛ لأنه امتهن حرمة البيت، وهكذا يقطع من سرق فيه، ويُجلد من شرب فيه خمراً، وهكذا من ارتد فيه يستحق القتل لردته، وما ذاك إلا أنه تهاون بهذا البلد الحرام، تهاون بحرمته، ولم يعرف قدره، فكان جزاؤه أن يشدد عليه في العقوبة، فيعاقب بعقوبتين، عقوبة جنايته، وعقوبة انتهاكه للبلد الحرام.

حرمة قطع شجر الحرم وتنفير صيده

يحرم في مكة قطع الشجر، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعضد شجرها، والمراد الشجر الذي أنبته الله، أما الذي ينبته ويغرسه الآدمي فإن له أن يقطع منه ما يريده، فإذا قدر أنه قطع منه شجرة محرمة فإن عليه فدية، إن كانت كبيرة ففيها بدنة، وإن كانت صغيرة ففيها شاة، وإن كان قطع منها أغصاناً فعليه بقدر ما نقص منها.

وكذلك لا يختلى خلاها، والخلا هو العشب الذي ينبت منبسطاً على الأرض، وترعاه الدواب، يجوز أن تترك الدواب ترعى فيه سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، وأما أن يختلى بمعنى: يُحش؛ فلا يجوز، ومن حشه فإن عليه فديته بقدر ما أخذ منه أو بقيمته يتصدق بها على مساكين الحرم.

كذلك لا ينفّر صيدها لعموم قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، ولعموم قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] أي: قتل الصيد، وهو كل ما يقتنص ويصاد، فلا يجوز أن ينفر، ولا يجوز أن يُصاد. ويدخل في الصيد الطيور، ويدخل فيه الدواب المتوحشة التي تقتنص وتصاد، فإذا صاد فإن عليه جزاء.

وقد بين العلماء مقدار جزاء الصيد في الكتب الفقهية والحديثية ونحوها، وإذا كان لا يجوز أن ينفر الصيد حتى يطير ولو عصفوراً أو حمامة أو نحو ذلك؛ فبالطريق الأولى لا يجوز أن يُذبح، ويستثنى من ذلك الذي يملك ولا يقال له: الصيد، كالدجاج أو البط من الطيور، وكذلك بهيمة الأنعام من الإبل والبقر ونحوها.

واستثنى من ذلك الإذخر، وهو هذا النبات الذي يكون له أعواد دقيقة، وله رائحة طيبة، كانوا يقطعونه فيوقدون به، ويوقد به الحدادون، ويستعملونه عند سقف البيوت يسدون به الخلل، ويجعلونه بين اللبنات في القبور، فهم بحاجة إليه، فطلب العباس أن يرخص لهم في قطع وحش الإذخر، فرخص لهم في ذلك، وقال: (إلا الإذخر).

(من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)

قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل وإما أن يفدى) المعنى: أن الذي يُقتل ظلماً فإن أولياءه بالخيار، إما أن يأخذوا بالدية وإما أن يقتلوا القاتل، وليس لهم غير ذلك إلا إذا عفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون قصاص، وهذا أفضل لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] وقوله: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، فإذا عفوا فأجرهم على الله، وإذا طلبوا الحق فلهم الخيار بين أن يقتلوا ذلك القاتل وهو القصاص الذي قال الله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]؛ وإما أن يأخذوا الدية التي قدرت بأنها مائة من الإبل في ذلك الزمان، أو بقدرها من القيمة في هذا الزمان، وتقدر الآن بمائة ألف ريال؛ لأن كل بعير بألف ريال.

ليس لهم إلا ذلك، وليس لهم أن يقتلوا غير القاتل فإن هذا ظلم، فإذا هرب القاتل فلا يقتلوا أخاه، أو يقتلوا قريبه، فهذا ظلم، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فكون الجاني قريباً لهذا لا يلزم أن يكون جانياً، أو يكون مذنباً، بل الجناية تتعلق بالمعتدي، فهو الذي يؤخذ منه الحق دون غيره، وهذا هو حكم الله تعالى.

وقد شرع القصاص؛ لأجل الأمن، فتأمن البلاد ويأمن العباد؛ وذلك لأن من يريد أن يقتل إذا تذكر أنه سيقتص منه ارتدع عن القتل، ويقول: ما الفائدة من أن أقتل ما دمت سوف أقتل، ولو أنه سبني، ولو أنه قهرني؟

ما الفائدة من كوني أقتله وآخذ ماله، ثم سأُقتل بعد ذلك؟

فيحصل بذلك ارتداع عن القتل، وتخويف من هذه الفتنة الكبيرة، والذنب الكبير.

حكم طلب أحد الورثة للدية

الخيار يكون للأولياء، فالأولياء هم الذين يختارون إما القتل وإما العفو وإما الدية، وإذا تعددوا فلكل منهم أن يختار، فإذا كان أولاده ذكوراً وإناثاً، فطلب أحدهم الدية، أجبروا بأخذها كلهم ولو طلب أكثرهم القصاص، وما ذاك إلا لأن القصاص لا يتجزأ، ولا يمكن أن يعطى هذا نصيبه ويقتص لأجل نصيب الآخرين، ولو كان الذي طلب الدية زوجة له، ولو كانت ابنة له، ولو كانت قريبة للقاتل، ما دام أن لها حقاً في الدية فإن لها طلب الدية، وعند ذلك تُعطى نصيبها من الدية، ويجبر الباقون على أن يأخذوا الدية، ويتركوا القصاص الذي لا يتجزأ.

كذلك يجوز أن يعفو بعضهم عفواً مطلقاً، ويأخذ الباقون نصيبهم من الدية، فمن أسقط نصيبه من الدية وطلب الأجر فله أجره، والبقية الذين لم يسقطوا نصيبهم يأخذوه كاملاً أو يأخذوا ما طلبوه.

والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالاً كثيراً فإن لهم ذلك، وقد روي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات، وقالوا: له: نعطيك ديتين؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك ثلاث ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك أربع ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فلما أصر على ذلك مكنوه من القصاص وقال: لو أعطيتموني عشرين دية لما قبلت، وهذا يدل على أنه يجوز أن يزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحاً عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله.

أجاز العلماء القصاص في الحرم، فإذا قتل إنسان في المسجد الحرام، واستهان بحرمته فإنه يقتل النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] فجزاء قتله أن يقتل، وكذلك أجازوا أن تقام فيه الحدود، بل ويشدد فيها، فمن زنى داخل البلد الحرام جلد الحد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، فيقام عليه الحد؛ لأنه امتهن حرمة البيت، وهكذا يقطع من سرق فيه، ويُجلد من شرب فيه خمراً، وهكذا من ارتد فيه يستحق القتل لردته، وما ذاك إلا أنه تهاون بهذا البلد الحرام، تهاون بحرمته، ولم يعرف قدره، فكان جزاؤه أن يشدد عليه في العقوبة، فيعاقب بعقوبتين، عقوبة جنايته، وعقوبة انتهاكه للبلد الحرام.

يحرم في مكة قطع الشجر، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعضد شجرها، والمراد الشجر الذي أنبته الله، أما الذي ينبته ويغرسه الآدمي فإن له أن يقطع منه ما يريده، فإذا قدر أنه قطع منه شجرة محرمة فإن عليه فدية، إن كانت كبيرة ففيها بدنة، وإن كانت صغيرة ففيها شاة، وإن كان قطع منها أغصاناً فعليه بقدر ما نقص منها.

وكذلك لا يختلى خلاها، والخلا هو العشب الذي ينبت منبسطاً على الأرض، وترعاه الدواب، يجوز أن تترك الدواب ترعى فيه سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، وأما أن يختلى بمعنى: يُحش؛ فلا يجوز، ومن حشه فإن عليه فديته بقدر ما أخذ منه أو بقيمته يتصدق بها على مساكين الحرم.

كذلك لا ينفّر صيدها لعموم قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، ولعموم قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] أي: قتل الصيد، وهو كل ما يقتنص ويصاد، فلا يجوز أن ينفر، ولا يجوز أن يُصاد. ويدخل في الصيد الطيور، ويدخل فيه الدواب المتوحشة التي تقتنص وتصاد، فإذا صاد فإن عليه جزاء.

وقد بين العلماء مقدار جزاء الصيد في الكتب الفقهية والحديثية ونحوها، وإذا كان لا يجوز أن ينفر الصيد حتى يطير ولو عصفوراً أو حمامة أو نحو ذلك؛ فبالطريق الأولى لا يجوز أن يُذبح، ويستثنى من ذلك الذي يملك ولا يقال له: الصيد، كالدجاج أو البط من الطيور، وكذلك بهيمة الأنعام من الإبل والبقر ونحوها.

واستثنى من ذلك الإذخر، وهو هذا النبات الذي يكون له أعواد دقيقة، وله رائحة طيبة، كانوا يقطعونه فيوقدون به، ويوقد به الحدادون، ويستعملونه عند سقف البيوت يسدون به الخلل، ويجعلونه بين اللبنات في القبور، فهم بحاجة إليه، فطلب العباس أن يرخص لهم في قطع وحش الإذخر، فرخص لهم في ذلك، وقال: (إلا الإذخر).

قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل وإما أن يفدى) المعنى: أن الذي يُقتل ظلماً فإن أولياءه بالخيار، إما أن يأخذوا بالدية وإما أن يقتلوا القاتل، وليس لهم غير ذلك إلا إذا عفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون قصاص، وهذا أفضل لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] وقوله: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، فإذا عفوا فأجرهم على الله، وإذا طلبوا الحق فلهم الخيار بين أن يقتلوا ذلك القاتل وهو القصاص الذي قال الله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]؛ وإما أن يأخذوا الدية التي قدرت بأنها مائة من الإبل في ذلك الزمان، أو بقدرها من القيمة في هذا الزمان، وتقدر الآن بمائة ألف ريال؛ لأن كل بعير بألف ريال.

ليس لهم إلا ذلك، وليس لهم أن يقتلوا غير القاتل فإن هذا ظلم، فإذا هرب القاتل فلا يقتلوا أخاه، أو يقتلوا قريبه، فهذا ظلم، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فكون الجاني قريباً لهذا لا يلزم أن يكون جانياً، أو يكون مذنباً، بل الجناية تتعلق بالمعتدي، فهو الذي يؤخذ منه الحق دون غيره، وهذا هو حكم الله تعالى.

وقد شرع القصاص؛ لأجل الأمن، فتأمن البلاد ويأمن العباد؛ وذلك لأن من يريد أن يقتل إذا تذكر أنه سيقتص منه ارتدع عن القتل، ويقول: ما الفائدة من أن أقتل ما دمت سوف أقتل، ولو أنه سبني، ولو أنه قهرني؟

ما الفائدة من كوني أقتله وآخذ ماله، ثم سأُقتل بعد ذلك؟

فيحصل بذلك ارتداع عن القتل، وتخويف من هذه الفتنة الكبيرة، والذنب الكبير.

الخيار يكون للأولياء، فالأولياء هم الذين يختارون إما القتل وإما العفو وإما الدية، وإذا تعددوا فلكل منهم أن يختار، فإذا كان أولاده ذكوراً وإناثاً، فطلب أحدهم الدية، أجبروا بأخذها كلهم ولو طلب أكثرهم القصاص، وما ذاك إلا لأن القصاص لا يتجزأ، ولا يمكن أن يعطى هذا نصيبه ويقتص لأجل نصيب الآخرين، ولو كان الذي طلب الدية زوجة له، ولو كانت ابنة له، ولو كانت قريبة للقاتل، ما دام أن لها حقاً في الدية فإن لها طلب الدية، وعند ذلك تُعطى نصيبها من الدية، ويجبر الباقون على أن يأخذوا الدية، ويتركوا القصاص الذي لا يتجزأ.

كذلك يجوز أن يعفو بعضهم عفواً مطلقاً، ويأخذ الباقون نصيبهم من الدية، فمن أسقط نصيبه من الدية وطلب الأجر فله أجره، والبقية الذين لم يسقطوا نصيبهم يأخذوه كاملاً أو يأخذوا ما طلبوه.

والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالاً كثيراً فإن لهم ذلك، وقد روي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات، وقالوا: له: نعطيك ديتين؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك ثلاث ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك أربع ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فلما أصر على ذلك مكنوه من القصاص وقال: لو أعطيتموني عشرين دية لما قبلت، وهذا يدل على أنه يجوز أن يزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحاً عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع