شرح عمدة الأحكام [63]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب العدة.

عن سبيعة الأسلمية : (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك متجملة! لعلك تريدين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي)، قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.

وعن زينب بنت أم سلمة قالت: (توفي حميم لـأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها، وقالت: إنما أصنع هذا؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج)، الحميم: القرابة].

هذا الباب يتعلق بالعدة أي: عدة المطلقة أو المفارقة أو المتوفى عنها، وقد أخبر الله تعالى بأن المطلقة لها عدة قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] والتربص هو الانتظار، أي: لا تتزوج حتى يمر بها ثلاثة قروء، وفسرت القروء بأنها الحيض أي: حتى تحيض ثلاث حيض، وفسرت أيضاً بأنها الأطهار، أي: حتى تطهر ثلاثة أطهار أي: طهر ثم حيضة ثم طهر ثان ثم طهر ثالث.

المرأة التي يأتيها الحيض منتظماً أو التي لم تزل في سن تحيض فيه أمثالها، عدتها ثلاثة قروء. وإذا أراد أن يطلقها فقد تقدم أنه ينتظر حتى تطهر من حيضها ثم يطلقها بعدما تطهر قبل أن يجامعها؛ وذلك لقول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] طلقوهن لعدتهن أي: في ابتداء العدة، وأحصوا العدة أي: احفظوا العدة حتى لا تزيدوا عليها في العدة ولا تظلموها.

فهذا يبين أن المرأة المطلقة لها عدة لابد أن تتربصها، هذا إذا كانت ذات أقراء، أما إذا انقطع حيضها للكبر أو كانت لم تحض بعد كالصغيرة فبين الله عدتها في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فالكبيرة التي لا تحيض إذا طلقت تربصت ثلاثة أشهر، والصغيرة التي لم تحض إذا طلقت عدتها ثلاثة أشهر أيضاً.

وذكر الله عدة الحامل في قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وذكر عدة المتوفى عنها في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فبين الآيتين عموم وخصوص، فقيل: إن آية سورة البقرة أعم، يعني: أن كل متوفى عنها لابد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً بعد موت زوجها، فإن كانت حاملاً ووضعت حملها انتظرت بعد وضع الحمل حتى تتم أربعة أشهر وعشراً، وإن لم تكن حاملاً أتمتها. وهذا قول روي عن بعض السلف، قالوا: وإن أتمت الأربعة أشهر وحملها باقٍ فإنها تنتظر حتى تضع حملها ولو بقي بعد موت زوجها تسعة أشهر، فلا تنقضي عدتها حتى تضع؛ لقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

ولكن قصة سبيعة التي ذكرت في هذا الحديث تبين أن الحامل تنقضي عدتها ولو وضعت حملها قبل أن يوارى زوجها أو قبل أن يجهز؛ لعموم الآية: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

وفي هذه القصة: أن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر من قريش، فمات عنها في حجة الوداع في السنة العاشرة، وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد موته بأيام قليلة، فلما وضعت حملها اعتقدت أنها قد حلّت، فلما انتهت من نفاسها أو تعلت من نفاسها تجملت للخطّاب.

وفي هذا الحديث: أن أبا السنابل بن بعكك دخل عليها، وأخبرها بأنها لا تزال في العدة حتى تكمل الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه ما مضى على موت زوجها إلا أيام قليلة، فأنكرت ذلك وقالت: إن الله يقول: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فكيف تبقى في العدة بعد أن وضعت الحمل؟

فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها على ما فهمت، وأجرى آية سورة الطلاق على عمومها، وأن كل حامل متى وضعت حملها انقضت به عدتها، سواء وضعته بعد ستة أشهر أو بعد ستة أيام، أو أقل أو أكثر، فلو وضعت حملها بعد موت زوجها بدقائق انقضت عدتها، ولو وضعت حملها بعد موته بتسعة أشهر؛ بأن مات وقد علقت منه لم تنقض عدتها إلا بعد أن تضعه، ولو تعدد الحمل بأن كان في بطنها اثنان أو أكثر، لم تنقض عدتها إلا بوضع آخر ما في بطنها؛ لعموم الآية: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

وإذا أرادت أن تتزوج بعد وضع الحمل فلها ذلك، ولو كانت في دمها، حتى ولو بعد وضع الحمل بدقائق، ولكن معلوم أنه لا يحل وطؤها للزوج الجديد إلا بعد أن تطهر من نفاسها، فهذه هي المتوفى عنها.

أما إذا لم يكن بها حمل فإنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام كما في الآية، وقد كان الجاهليون تمكث الزوجة بعد زوجها سنة كاملة، ونزل في ذلك آية هي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240] ثم نسخ الحول، واقتصر على أنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام.

الحكمة من العدة

الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره)، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها.

أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه.

وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة.

فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه.

وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به.

والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها.

ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهمـا مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره.

أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد.

واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره)، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها.

أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه.

وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة.

فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه.

وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به.

والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها.

ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهمـا مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره.

أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد.

واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع