أرشيف المقالات

فلتمط عنها الأذى ولتأكلها!

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
فلتُمِطْ عنها الأذى ولتأكلها!

روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان[1]" .
 
هذا التوجيه النبوي الشريف يُشيرُ إلى مدخلٍ خفيٍّ من مداخل الشيطان، يأتي الشيطانُ أحدَنا؛ فيزهده في الخير والفضل لما في ظاهره من الشرِّ، يريد أن يَطعم طعامك، يريد أن يحرمك من الخير، يريد أن يحرمك من الأجر، فيجيء في صورة الناصح الشفيق: لا تفعل كذا! أما ترى ما به من الأذى؟ لا تتناول اللقمة الساقطة أما ترى ما علق بها من الوسخ؟ لا تذهب إليه أما ترى ما في نفسه من الكِبْر؟ أتريد أن يُقال عنك ضعيفٌ خضوعٌ لكلٍ مؤثر؟ دعه حتى يتربى!! لا تقبل منه دعوة أيظن نفسه أعلم أهل الأرض..
لا تعمل بما يظنه نصحًا ألا ترى أسلوبه الوقح؟ لو كان في نصحه خيرٌ لما كان بهذه البذاءة! لو كان في كلامه نفعٌ لانتفع هو به! انفض يدك منه.
 
والآن تدبَّر وتأمل! كم من هذه الوسوسات خطرت لك؟ كم منها تقافز متماجنًا إذ أساءَ الناصح الطريقة وإن لم يُسئ في المضمون الذي جاء به؟
 
دعنا نعترف: الأسلوب عليه التعويلُ في استجابة المنصوح للناصح لذلك لا تغفله، وقد قيل لسفيان بن عيينة: أيسرك أن يهدى، إليك عيبُك؟ قال: أما من صديق فنعم، وأما من موبخ، أو شامت فلا!
 
قِفْ معي قليلًا نتأملْ هذا الأثر البديع عن عبدالله بن مسعود - رضى الله عنه -، يقول: "مَن جاءك بالحقِّ فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومَنْ جاءك بالباطل فاردد عليه وإ نكان حبيبًا قريبًا".
 
إذا جاءك من يتكلم بما تعرف أنه فيك فلا تُكابر بحجة أنَّ أسلوبه كذا وكذا.
عمومًا؛ أنت لا تنتفعُ كثيرًا بالأوراق المزخرفة التي أحاط بها البائع السلعة إذ سرعان ما ينصبُّ اهتمامك على السلعة نفسها، وما هي إلا هنيهات ثم ترى أوراق الغلاف مبعثرة في أرض الغرفة تمهيدًا لكنسها إلى سلَّة القمامة فالمحرقة.
 
نعم؛ هذه الأوراق المزخرفة ربما تكون هي التي جلبتك إلى السلعة، بل ربَّما كشفتَ بعدُ عن سلعة ليست على الدرجة التي أمَّلْتَها أول ما رأيت الزخارف، ورغم ذلك ربَّما تعاود شراء سلعة أخرى من نفس المكان تحت تأثير وسائل الجذب المبهرجة.
هذا يحدث كثيرًا.
ولكن ألا ترى معي أن كلَّ ذلك ينكشف زيفه في لحظة تأمل إذ ترى السلعة العتيقة التي اشتريتها بلا (عبوة) ما زالت تؤدي الغرض على أتم وجهٍ وأحسنه في الوقت الذي أمست فيه السلعة المزخرفة ماضيًا؟
 
مَن منَّا لم يزل يتذكر (صفعةَ) معلِّمه، أو (تورُّم) كفه الذي لازمه عدة أيام بعد أن ضُرب بالعصا لخطأ أخطأه وهو تُلَيْمِيذٌ يحبو على أوَّل درجات سُلُّمِه التعليميّ؟ كلُّنا هذا الرجل بلا شكٍّ...
ورغم اقتناعنا كلّ الاقتناع بأنه تلك الحال الموصوفة ليست من التربية النبوية في شيءٍ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ضرب بيده خادمًا ولا امرأة ولا شيئًا قطّ؛ رغم اقتناعنا بهذا كله؛ إلا أنَّ بعضنا تجاوزت به هذه العصا أو تلك الصفعة الحدَّ الفاصل بين الفشل والنجاح فنقلته من صحراء اللامبالاة إلى واحةِ المسئولية، ومِن صفة السبهللة إلى صفحة المغسلة فلم يبق من درنه إلا كما يبقى على الصفا بعد السيل من غبار.
 
فمن الحكمة قبول ما ينتفع به من النصيحة المشوبة بمضرة الناس، مع الحذر من صاحبها، والنظر إلى الناصح المتقرب إليك، فإنه إن دخل إليك من أشياء من جنس العدل والصلاح، فاقبلها، واستشعره[2].
 
يقول ابن رجب: ولم ينكر ذلك [يعني ردُّ الأقوال الضعيفة وإن جاءت من إمامٍ] أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعنًا على من رد عليه قوله ولا ذمًّا ولا نقصًا اللهم إلا أن يكون المصنف ممن يفحش في الكلام ويُسيء الأدب في العبارة فينكر عليه فحاشته وإساءته دون أصل رده ومخالفته إقامة للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة [3].
 
وقيل: خير الإخوان أشدُّهم مبالغةُ في النصيحة، كما أن خير الأعمال أحمدُها عاقبةً وأحسنها إخلاصًا، وضرب الناصح خير من تحية الشانئ.
 
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - قال: "لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالًا في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام النفس، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشهورة بعد، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي"[4].

[1] رواه مسلم.

[2] انظر: بدائع السلك في طبائع الملك (205).

[3] الفرق بين لانصيحة والتعيير (3/465).

[4] نهج البلاغة (ص335).

شارك الخبر

المرئيات-١