العلم والدين علاقة ارتباط أم انفصام؟ !
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
قضايا ثقافية
العلم والدين علاقة ارتباط أم انفصام؟ !
محمود محمد دبش
ما زالت مقولة (العلم والدين) منظورة من قِبلَ بعض الباحثين عن
المتقابلات والثنائيات الحديثة في محيطنا الثقافي، من أمثلة (العقل والنقل)
و (التراث الحداثة) و (التخلف التطور) و (الإسلام الغرب) ، ولا تنتمي
هذه المتقابلات في تنوعها إلى حقل معرفي موحد، بل هي ربما تستمد سلطانها
المعرفي من أفق مختلف كل الاختلاف عن مقابلتها الحديثة.
ومن اللافت للنظر أن المقولة التي يمليها مدار بحثنا قد انطلقت وتناوشتها
العقول مع التماسِّ المباشر مع الغرب؛ فلذلك تراها انبثقت من تصادمية أخرى
وهي الإسلام باعتباره مفهوماً حضارياً ودينياً؛ والغرب من قبيل أنه مفهوم إقليمي
تتحدد سلطته المعرفية في انتمائه للدين النصراني - اليهودي.
وثنائية العلم - الدين نشطت في ظل هذا التماسِّ مع ما يكتنفه من خلفية
تصادمية سابقة على هذا التماس؛ مما ولَّد العديد من الفصائل الفرعية التي ربما لا
تكون حقيقية في واقع أمرها، بل جاءت من ظلال هذه الحالة التصادمية التي
عززت موقعها من بنات أفكار بعض الباحثين مستلهمين في ذلك الوازع
الأيديولوجي الذي يكون منطلقاً لباقي الأفكار والتصورات؛ وهذا مما أدى في حقيقة
الأمر إلى ارتباك في المفاهيم، وبناء المصطلحات على غير بنية علمية مؤكدة.
بل إن طرح المشكلة على شكل مواجهة حادة بين العلم على إطلاقه، وبين
الدين عموماً، ما هو إلا تنظير غربي محض من واقع تجربته المريرة مع الدين
ورجاله، والتي أفرزت هذه المواجهة الحادة التي لا نهاية لها في واقع الأمر.
وقد تم نقل هذه الثنائية على أيدي المفكرين العرب، من دون ردها إلى
حيثياتها الأساسية المسوغة للواقع التاريخي لهذا التصادم الحاد.
وقد ساد تصوير هذه العلاقة على هذا الشكل، وتحديدها ضمن هذه الأطر
والمفاهيم المستلة من ثقافة الغرب لكي تخدم الموقف الغربي في بسط تصوراته
وآليات تفكيره على المجتمعات الخاضعة لسيطرته؛ وفي ذلك تأبيد لهذه السيطرة
الاحتكارية للحقائق والمفاهيم، وهو الأمر الذي يسلم له موقفه من العلم والدين،
وهو مَفْصل الإشكال الذي يرد على هذه القضية من حيث الأساس، وما عدا ذلك إن
هو إلا حلقات في تعزيز المفهوم الأساسي الذي يستند إلى واقع منفصم عن الحقائق
والتصورات الصحيحة التي يستند إليها الدين والعلم معاً. وفي هذا المقال سوف نحلل هذا الارتباط المتعاكس بين العلم والدين، وتقرير حقيقة العلاقة التعاضدية التواصلية بينهما، ولا أقول علاقة توأمية كما يدعي بعضهم؛ بل هي حقيقة واحدة تبتدئ بالعلم وتنتهي بالدين، وهي خط بياني واحد متواصل مهما امتد شوط العلم في مساره تألقت له الحقيقة الدينية في ذروة شوطه بأجلى مظاهرها وأينع ثمارها، والعلم - مهما تفرع في بيداء المعرفة - سوف يقطف ثمار معرفته في كنف الحقيقة الدينية الربانية. وهذا مما يساعد على تبديد وهم الانفصام النكد الذي رسمه لنا الوهم الغربي عن العلم والدين معاً. العلم في منظوره الغربي: العلم كما صورته المصادر الغربية والموالية لها قد انحصرت يقينياته فيما يخضع لسيطرة الحواس الإنسانية وما عداه من اليقينيات فهي لا تخضع لمقولة هذا العلم أو توزن بموازينه، وهذا يشمل بطبيعة الحال المفاهيم الدينية ومرتكزاتها الغيبية.
وقد امتد هذا الرفض حتى شمل كل المفاهيم التجريدية غير التجريبية التي لا يصادق عليها الواقع أو مما يتيسر قياسه أو تجربته، وامتد سلطان التجريبية في شتى معاهد العلم الغربية، واستقرت الأخلاق والقيم على مبادئ وأسس جديدة بعيدة عن الدين وأحكامه وصارت المعايير الأخلاقية والقيمية تقاسي من حيث مدى نفعها على الذات الإنسانية بغض النظر عما تسببه للآخرين، وهو ما نشأت عليه الذرائعية على أنها فلسفة للحياة تتوافق مع المنهج التجريبي حين فرَّغت العلم من مفهومه الحقيقي، وصبته في قوالبها التجريبية البحتة. والذرائعية لا تملك مفهوماً محدداً في بيئتها المعرفية طالما كل الأفكار والقيم ممكن استخدامها في نظرهم ذرائعياً، وبذلك تكون القيم ومنها الدينية مجرد حامل للتوجهات والغايات التي ترتبط بالمراد النفسي للإنسان مهما كان باعثه عاطفياً أو عقلانياً! بهذا المدى وتحت تكييف هذه الشروط أصبح للعلم مفهوم مختلف لدى الغرب عما هو عليه في الحقيقة، وبات هذا المنظور هو السائد وهو ما يجب اعتناقه طوعاً أو كرهاً؛ وهو ما تحاول الجهات العلمية والسياسية بجميع اختصاصاتها أن تسوِّقه وتروِّج له في المحافل العلمية محاولةً إخضاع الشعوب وموروثاتهم الدينية والثقافية والقيمية لهذا المقياس الكمي، وهو التوجه الحالي للعولمة المعاصرة. الدين من المنظور الغربي: بالمقابل كان للدين في المفهوم الغربي في (المخيال الاجتماعي) سلطة كهنوتية لا تستمد من المفاهيم الدينية الموجودة أو الثابت علمياً ونطقت به وقائع الحياة، فعادوا بنتيجة مفادها أن هذا المسمى: (ديناً) ليس له من حقيقة الدين إلا الإشباع الغريزي لهذه العاطفة الإنسانية الكامنة؛ فهو غير مستند إلى دليل عقلي مقنع أو حجة نقلية صادقة، بل ما هو إلا أفكار بشرية صيغت بلبوس ديني لكي يتم القبول بها؛ فاللجوء إلى مقولات دينية هو الوجه الآخر لنفي صفة العلمية عنها والعكس بالعكس، ومن هنا تولد التضاد بين المسارين وما زال.
وهذا الشكل من التقنين للمسألة هو نتيجة منطقية لفساد المفهومين معاً في المنظور العلمي الغربي؛ حيث لا العلم الذي اعتنقوه تصوراً وتطبيقاً يحصر بذلك الذي فهموه منه كمّاً وقياساً وحساً فقط، ولا الدين في عمومه الذي صُوّر لهم بمفاهيم الكنيسة هو الدين الحق بدلائله الصادقة، والذي يمكن أن يركن إليه العلم ويصل إليه بوسائله العديدة، ويميز الحق من الباطل منه.