المؤمن لأخيه مرآة ناصحة
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
المؤمنُ لأخيه مرآةٌ ناصحةللمرآة في نفس رائيها مشاعر متداخلة؛ يودُّ أن تُريه أحسنَ ما فيه؛ من نضارة وجهٍ، وجمال مُحَيَّا، وحُسْن هيئة، وأناقة هندام، فإن أظهرت له عكس ما يرجو، تبرَّم وسَخِط منها ونفر، وادَّعى أنها لا تُبْدِي الحقائق، وأنها ليست صَقِيلة ولا مَجْلُوَّة، وأنَّ بها من العيوب ما يجعلها تبدي هذه الصورة الشنيعة التي برزَت له، وينسى تمامًا أنَّ تلك صورته الحقيقية شاء أم أبى، وأن العيبَ يكمُن فيه، وعليه أن يكاشف نفسَه ويُخبرها بصحة ما رأى، فإن لم يَرضَ، حوَّل تلك الصادقة النصوح إلى شظايا؛ إرضاءً لنفسه التي بهَرتها بعض الأسطح غير الصقيلة بمرأى كاذب خادع، غير ناصحٍ ولا أمين، وبقِي هو على هيئته السيئة واثقًا بحُسن مظهره.
أما إن أيقَن بصحة ما رأى، وأن المِرْآةَ قد صَدَقَتْهُ صُورَتَه، وَكَزَتِ النفسُ صَاحبَها واتَّهمته بالتقصير، فيُبادر إلى إصلاح مظهره، وإبراز أفضل ما فيه.
هذا في المرآة والأمور الحسية التي نتعرف عليها من خلال حواسنا؛ لكن في النفس عيوب أخرى لا تُرَى بالعينِ المجردة، ولا تُدْرَك بالحواس الخمس، ويحتاج المرء إلى من يَصْدُقُهُ النَّصِيحة ولا يكون ذلك إلا في أخ مؤمن قد تجرَّد من الأنانية والنرجسية، ونادى أخاه بـ"يا أنا"؛ فيرى من خلاله كلَّ عُيُوبِهِ التي يستدل عليها تارةً بتلميح وإشارة وتعريضٍ، وتارة أخرى بإفصاح وتصريح.
لكن في زمننا الحالي ندَر النصح بيننا، وصار عزيزًا كالكبريت الأحمر، فصِرنا نعجِز عن التعرف على عيوبنا إلا من عدو حاقدٍ، أو مجنون مضطربٍ، أو غضوب جاهل.
فما النصيحة في الإسلام؟ وما الذي جعل النصيحة - التي هي لبُّ الدين وجوهره، فالدين النصيحة - نادرةً، وتكاد تنعدم بيننا؟! وكيف نعيد لذلك الخُلُق المحمود مكانتَه؟
فالنصيحة: من فعل نصح ينصح نصيحة؛ أي: دَعْوَةٌ سَدِيدَةٌ وَإِرْشَادٌ وَوَعْظٌ إِلَى صَلاَحٍ، وَنَهْيٌ عَنْ فَسَادٍ، وهي ما يُميز الإخوة الإيمانية؛ وقد أولاها الإسلام بالغَ اهتمامه، وحثَّ عليها؛ فعن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا لِمَنْ؟ قال: ((لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))؛ رواه مسلم.
أي: من هنا نجد أن الدين هو النصيحة، ويدل هذا على عِظم شأنها في الإسلام؛ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: ((بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ))؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليُمط عنه))؛ رواه الترمذي وضعَّفه، وفي رواية له ولأبي داود: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عنه ضيعته، ويَحوطه مِن ورائه)).
وقد قيل: الصديق مَن صَدَقَك لا مَن صدَّقك؛ فصدقُ الأخوة يكمُن فيمن يَصدُقك النصيحة والقول، ويكون عونًا لك على طاعة الله والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا من يُصَدِّقك مجاملة وتَملقًا ومداراةً؛ خوفًا من فِقدان صُحبتك، وما أكثرهم في زمننا هذا! وما أندر النَّوع الأوَّل!
وحتى تؤتي النصيحة ثمارَها، وتكون فائدتها مرجوة، وجب أن تتقيَّد ببعض الشروط؛ حتى لا تُترَك سائبةً، ولا يُلقى بالنصح على عواهنه دون تفكير بالعواقب، ومن بين الشروط:
• أن يكون دافع النصيحة محبة المسلمين، منطلقًا بـ"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فكل ما يُحبه ويرضاه لنفسه يُحبه لغيره ويرضاه لهم.
• أن يكون مخلصًا يبتغي فيها وجهَ الله تعالى.
• أن يريد بها الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فيكون غرضها التوجيه والإرشاد إلى ما فيه خير المنصوح وهدايته، ويبتعد عن التعيير.
• أن يكون الناصح لينًا شفيقًا ما دفَعه للنصح إلا محبته للمنصوح ورؤيته في حال أفضل، ولا يكون ذلك إلا بالحكمة والقول اللَّين الذي يجذب إليه سامعَه، ويستدرجه لتقبُّل النصح.
• أن تكون سرًّا، فلا يجهر بها أمام الناس.
لله درُّ الشافعي حين قال:
تعمَّدْني بنُصحِك بانفرادٍ
وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعَهْ
فإن النصحَ بين الناس نوعٌ
مِن التوبيخ لا أرضى استماعَهْ
وقيل: النصيحة بين الملأ فضيحة، لذا وجب على الناصح أن يتحرَّى السرية لدى نُصحه، إلا إذا كان العلن أوجب في حالات خاصة.
• يمكن أن تكون النصيحة تعريضًا وتلميحًا لا تصريحًا، وذلك مراعاة لمشاعر المنصوح؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بال أقوام))، لكن إن علِم أن مقصود التلميح قد لا يُفْهَم معناه، كان التصريح أولى وأنفع.
• اختيار الوقت المناسب للنصيحة.
• على الناصح الصبر على ما يلقاه من أذى من جهة المنصوح.
هذه بعض شروط وآداب النصيحة التي يجب على الناصح أن يتحلى بها، ويبقى قبولها والعمل بها من طرف المنصوح.
ومنه نجد أن نفورنا من النصيحة قولًا واستماعًا وتقبلًا، ناجمٌ عن ضَعف معنى الأخوة بيننا؛ وحتى نعيد لها مكانتها السابقة علينا أولًا أن نتحلى برُوح الأخوَّة، وأن نستشعر مدى أهميتها، وستأتي النصيحة تباعًا لها؛ إذ "لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه"؛ رواه البخاري ومسلم.