شرح عمدة الأحكام [60]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[كتاب النكاح:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم: البتول.].

تتعلق هذه الأحاديث بالترغيب في النكاح وبأفضليته، وسبب ذلك معروف:

أولاً: الله سبحانه وتعالى جعل في البشر شهوة وميلاً إلى هذا النكاح، وجعل ذلك سبباً لبقاء النوع البشري والجنس الإنساني، فجعل في الرجل شهوة تدفعه إلى المرأة، وجعل في المرأة أيضاً شهوة تدفعها إلى الرجل، وجعل بين الزوجين مودةً ورحمة، كما أخبر بذلك في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

وكثيراً ما يخبر الله تعالى بأنه خلق الأزواج لنسكن إليها، فأول ما خلق الله حواء لآدم قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، خلق الله زوج آدم من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها، فلما وجد منها الأولاد بعد ذلك صاروا يتوالدون فيما بينهم، ثم بعد أن حصلت منهم هذه الولادة حرم نكاح الأخ لأخته بعد أولاد آدم، وأصبح النكاح فيما بينهم مشروعاً، فهذه سنة الله تعالى.

ولا شك -أيضاً- أن الزواج قد يكون ضرورياً وواجباً، وذكر العلماء أن الزواج قد تتعلق به أكثر الأحكام، فيجب تارةً، ويسن تارةً، ويكره تارة، ويحرم تارة، فيقولون: إذا كان الإنسان قوي الشهوة يخشى على نفسه أن يقع في الفاحشة ويقدر على مئونة النكاح فإنه يجب عليه، فإذا لم يفعل فإنه يأثم، وذلك لأنه ترك واجباً، ولأنه إذا لم يفعل فلا بد أن يقع منه الحرام الذي هو الزنا أو مقدمات الزنا، والشيء الذي يوقع في الحرام يجب أن يبتعد عنه.

فمن خاف على نفسه الزنا وكان قادراً قلنا: واجب عليك أن تتزوج، أما من لم يخف على نفسه ولكن عنده قوة وشهوة، وهو مع ذلك يملك نفسه ويقدر على إقناعها فهذا مستحب في حقه، ولكن لا يصل إلى حد الوجوب.

فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام؛ فإنه له وجاء).

فالنداء هنا للشباب، وخصهم لأنهم غالباً أقوى شهوة، ولأن غريزة الشهوة الجنسية فيهم تدفعهم إلى فعل الفاحشة أو إلى مقدماتها، ولأنهم أقل تجربة أو أقل معرفة أو أقل تأثراً، فلأجل ذلك يؤكد على الشباب يؤكد عليهم في الزواج المبكر ويرغبهم فيه.

والشباب يكون ما بين العاشرة إلى الثلاثين سنة، أما ما قبل العاشرة فإنه صبي أو غلام، فإذا بلغ العاشرة سمي شاباً حتى سن الثلاثين، ثم من بعدها يصير كهلاً إلى الستين، ثم يبدأ بالشيخوخة بعد الستين.

ومعلوم أن هذه السن التي بين البلوغ وبين الثلاثين سنة أن الشاب فيها عنده قوة الشهوة وقوة الغلمة والشبق الذي يكون غالباً يدفعه ويندفع به، فلأجل ذلك يؤكد عليه أن يتزوج في هذه السن حتى يحفظ نفسه.

والباءة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي مئونة النكاح، وليست الباءة الشهوة؛ لأنه لو لم يكن له شهوة لم يحتج إلى ما يهونها أو يخففها، بل الباءة هي مئونة النكاح، يعني: من استطاع منكم مئونة النكاح كالمهر والنفقة والسكنى والحاجات التي يتطلبها إذا كان متزوجاً وما أشبه ذلك. فهذه تسمى (باءة) من المباءة التي هي التبوء، يقال: تبوء منزلاً مباءة. وباء بكذا بمعنى: حصل عليه.

بمعنى أن من قدر منكم على المهر وعلى التكلفة وعلى النفقة وعلى التأثيث وعلى السكنى فإن عليه أن لا يتأخر عن الزواج، سواء أكانت قدرته من نفسه أم من ولي أمره الذي يتولى أمره كأبيه أو وصيه أو نحو ذلك، فليبادر بالزواج.

فوائد النكاح

ثم ذكر فائدتين للنكاح:

الأولى: غض البصر.

والثانية: تحصين الفرج.

وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة).

وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم:

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته.

ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم:

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].

وقد قال بعضهم:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك.

فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر.

الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام.

التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12] يعني: حفظته. ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن.

فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك.

وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه.

فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم. ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.

ثم ذكر فائدتين للنكاح:

الأولى: غض البصر.

والثانية: تحصين الفرج.

وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة).

وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم:

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته.

ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم:

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].

وقد قال بعضهم:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك.

فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر.

الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام.

التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12] يعني: حفظته. ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن.

فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك.

وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه.

فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم. ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.

في هذه الأزمنة يكثر تعلل كثير من الشباب إذا عذلهم عاذل عن التأخر في الزواج، فمنهم من يعتذر بالحاجة وبالفقر، وأنه لا يجد مئونة، وهو معذور بقوله: (من استطاع منكم الباءة)، ولكن نقول له: ابذل السبب وتزوج، والله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] أي: لا تردوه وتقولوا: هذا فقير. أو: ابن فقير أو ليس له وظيفة. أو: ليس له عمل. أو: ليس عنده تجارة أو نحو ذلك. بل ثقوا بأن الله تعالى سيرزقه وسيوسع عليه كما وعد بذلك، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.

وقد شاهدنا كثيراً كانوا فقراء، ولما تزوجوا ورزقوا أولاداً جاءهم الرزق من كل جهة، يسر الله لهم أسبابه، وحصل لهم الرزق الذي يقوم بكفايتهم، وقد نهى الله تعالى عن قتل الأولاد خشية الفقر، فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، فتكفل برزق الأولاد وبرزق الآباء، وهو لا يخلف ما وعده سبحانه، ولكن على الإنسان أن يبذل السبب.

وكذلك الذين يؤخرون الزواج بسبب الحصول على مؤهل كما يقولون، ويقولون: إن الزواج قد يمنع من مواصلة الدراسة أو نحو ذلك فالجواب أن هذا ليس بصحيح، بل في إمكانه أن يدرس ويواصل الدراسة ولو كان متزوجاً، وإذا احتاج مثلاً فله أن يعمل، فإن ذلك أيضاً يخفف عنه مئونة النكاح ونحوه.

وكذلك أيضاً لو تزوج وليس له وظيفة، فالله تعالى ييسر له أسباب الرزق، وهذا بالنسبة إلى الشباب والأزواج.

أما بالنسبة إلى أولياء النساء فلا شك أن كثيراً من النساء الشابات تمتنع من الزواج بسبب الدراسة كما تزعم، وتدعي أنها إذا تزوجت حرمت من مواصلة الدراسة، وتعد ذلك فضيلة لها وشرفاً، فتترك الزواج من الأكفياء الكرام الذين يتقدمون لها ولا تقبلهم، وتقبل على دراستها، وبعد ما تنتهي من الدراسة لا يتقدم لها من هو كفء كريم، وقد تطعن في السن فتبقى محبوسة في دارها لا يأتيها من ترغب فيه ونحو ذلك.

فنقول: لا شك أن هذا خطأ، وأن الأولى بالولي أن يزوج موليته، وأن يمنعها من الدراسة التي تكون سبباً في عنوستها وتأخر زواجها التأخر الكثير.

كذلك أيضاً قد يكون الذي يمنع من النكاح للرجل أو للولي هو المهر؛ لأن كثيراً من الآباء يشترطون مهوراً زائدة، ويكلفون الأزواج شيئاً قد لا يطيقونه، وهذا أيضاً خطأ، فعلى الأولياء أن لا يكلفوا الأزواج ما لا يطيقونه، وأن يقتصروا على ما يسر الله، وأن يقنعوا بالشيء الذي يكون مسمى في النكاح كما سيأتي، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء أيسرهن مئونة) يعني: أيسرهن تكلفه.

فرغب في أن لا يتكلف الإنسان في النكاح، وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وقد تزوج فطلب منه الإعانة فقال: (على كم تزوجت؟ فقال: باثني عشر أوقية. فأنكر عليه وقال: كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل! ليس عندي ما أعينك به) واثنا عشر أوقية شيء قليل، قد تساوي -مثلاً- خمسمائة درهم أو نحوها، فهذا شيء يسير.

وثبت أيضاً أن امرأة تزوجت على نعلين، دفع لها زوجها نعلين فرضيت بذلك، وقيل لها: رضيت من نفسكِ بنعلين؟ فقالت: نعم. وثبت أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل لما خطب امرأة: (التمس ولو خاتماً من حديد) يعني: لو وجده لجعله مهراً لتلك المرأة. ولما لم يكن عنده شيء قال: هذا إزاري. لم يكن عنده إلا إزار قد شد به على عورته، وأراد أن تجعله مهراً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك منه وقال: (ما تصنع بإزارك إن لبسته أنت لم يكن عليها شيء، وإن لبسته هي لم يكن منه عليك شيء)، وأمره بأن يعلمها آيات من القرآن ليكون ذلك صداقاً لها.

أليس ذلك كله حثاً على أن الإنسان يخفف المهر حتى لا يكلف غيره ولا يقتدي به غيره، وأن الأولياء عليهم أن يخففوا ذلك حتى ييسروا على الشباب، وييسروا على الشابات ولا يصيروا سبباً في حبس بعضهم عن بعض، ويكونوا سبباً في وقوع ما يحصل من المفاسد.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) حث صلى الله عليه وسلم على ما يخفف الشهوة، فأمره بأن يصوم حتى يكون الصوم مخففاً للشهوة، والوجاء في الأصل: هو قطع عروق الخصيتين حتى تخف الشهوة. فكانوا إذا أرادوا أن يخففوا من الكبش حتى لا ينزو على الضأن ونحوها قطعوا عروق خصيتيه حتى تبرد شهوته أو تقل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصوم كأنه وجاء وخصاء، وهو قطع عروق الخصيتين من الكبش أو التيس ونحوه، أي أن الصوم يخفف الشهوة كما أن الوجاء يخفف الشهوة.

وقد ذكر لنا كثير من الشباب أنهم يكثرون الصوم ومع ذلك لم يجدوا خفة في الشهوة، بل الشهوة لا تزال عندهم قوية، والغلمة والشبق دافع قوي، ويقول أحدهم: إنه يضطر إلى الاستمناء -وهو عمل العادة السرية- حتى لا تدفعه الشهوة إلى فعل جريمة الزنا أو نحوها، ويقول: ما وجدت للصيام أثراً لتخفيف الشهوة.

نقول: سبب ذلك أولاً: قوة الشهوة في بعض الشباب، حيث تكون الشهوة عندهم قوية جداً.

ثانياً: أن هناك مقويات لها، فلا شك أن كثرة المآكل وتنوع الأطعمة وكثرة اللحوم وأكل الفواكه وما أشبهها مما يقوي الشهوة، وكان الصوم في القديم مختلفاً عن وقتنا، كان الصائم إنما يجد العلقة من الطعام، فيأكل في وقت السحر لقيمات أو تمرات قليلة، ثم هو في وسط النهار يشتغل إما في حرفته أو مع غنمه أو نحو ذلك، ثم إذا جاء الإفطار لم يجد إلا تمرات أو ماءً أو نحو ذلك، وعند العشاء إنما يأكل رغيفاً أو نصف رغيف فيكون هذا الجوع هو الذي يكسر حدة الشهوة.

فنقول: الذي يريد أن تنكسر حدة الشهوة عليه أن يقلل من الأكل عند الإفطار وفي السحور وفي الليل، وأن يتجنب المشتهيات وكثرة الفواكه واللحوم المتنوعة وأنواع المأكولات الشهية، فإنها لاشك تقوي هذه الشهوة وتمكنها، فلا يخففها الصيام الذي لا يحصل معه هذا الجوع ولا هذا التعب ولا هذه المشقه.

وعلى كل حال فهو إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يخفف الشهوة، إلى أن يتمكن الإنسان من النكاح الذي يعف به نفسه، فعلينا أن نحرص على أن نعف شبابنا وفتياتنا، وأن نجمع بينهم بالأسباب التي تكون ميسرة، وأن نحرص على ذلك حتى لا تحصل هذه الجريمة التي هي فاحشة الزنا، وحتى يجد الشباب ما يعفون به أنفسهم ويسلمون من العادة السرية أو نحوها، وحتى يحصل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) أي: من أجل تكثير النسل في الأمة التي هي أمة المسلمين، الذين يباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة.

[عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولوا أذن له لاختصينا).

حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات

هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله. فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال.

التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً.

وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها.

ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها.

وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده.

فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله.

وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه. وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] وقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ [المائدة:5] وقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري.

هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.

مآل التشديد على النفس بالعبادة

وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها. وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم. فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله : شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود. يقول عبد الله : فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه.

كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه.

وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل

أما قصة عثمان بن مظعون فـعثمان رضي الله عنه توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين ومن العباد ومن الزهاد، فهو لما هاجر شدد على نفسه وكلفها، واعتزل امرأته وكانت له امرأة جميلة، فبقيت معه مدة طويلة لا يسأل عنها ولا يشتغل إلا بالعبادة، فلما رآها النساء وهي متبذلة غير متجملة لباسها خشن وشعرها شعث سألنها فأخبرتهم بأن زوجها لا حاجة له في النساء، وأنه يريد أن يتبتل، أي: ينقطع إلى العبادة ويترك الشهوات ويترك النساء والتلذذ بهن، وعزم على ذلك.

لما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك ورده عليه، وقال: (لا يحل لك؛ فإن امرأتك لها حق عليك، ونفسك لها حق عليك)، فليس لك أن تحرم نفسك شهوتها ولذتها، ولا أن تحرم نفسك ما ينتج عن هذا النكاح من إعفاف امرأتك، وكذلك من ذرية صالحة يكونون بعدك يذكرونك بذكر حسن ونحو ذلك.

فعند ذلك رجع إلى امرأته، ولما رجع إليها رجعت إلى جمالها وإلى زينتها، وقد كان بعض من الصحابة أرادوا أن يتبتلوا كما تبتل عثمان، ولو أذن النبي عليه الصلاة والسلام لـعثمان بن مظعون بالتبتل لكثر المتبتلون من الصحابة، فعلموا -أيضاً- أنهم لا يمكن أن يتركوا الشهوة الجنسية التي هي غريزة في الإنسان إلا إذا قطعوا الجهاز التناسلي الذي هو السبب في هذه الشهوة، وهو معنى قوله: (ولو أذن له لاختصينا) أي: لتبتلنا. ولا يكون التبتل إلا بالاختصاء، أي: قطع الخصيتين أو قطع عروقهما، وهو الوجاء كما تقدم.

وقد روي أيضاً أن جملة من الصحابة منهم: عثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود وغيرهم أرادوا أن يتبتلوا وأن ينقطعوا عن الدنيا، وهموا بالاختصاء، وهموا بأن يحرموا طيبات الدنيا وملذاتها وشهواتها على أنفسهم، وأن ينقطعوا للعبادة وأن يعزموا عليها، فنزل فيهم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87] فعند ذلك رجعوا إلى ما أحل الله لهم، وتمتعوا بالطيبات، ولم تشغلهم تلك الطيبات وتلك المباحات عن العبادة، بل جمعوا بين اللذات المباحة وجمعوا بين العبادة وقاموا بها خير قيام.

وهكذا حال أتباعهم إلى هذا الزمان، يستطيع المسلم أن يجمع بين العبادة التي كلف بها سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ويتناول أيضاً ما أبيح له من الشهوات المباحة ومتع هذه الحياة.

هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله. فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال.

التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً.

وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها.

ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها.

وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده.

فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله.

وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه. وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] وقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ [المائدة:5] وقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري.

هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.

وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها. وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم. فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله : شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود. يقول عبد الله : فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه.

كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه.

وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.

أما قصة عثمان بن مظعون فـعثمان رضي الله عنه توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين ومن العباد ومن الزهاد، فهو لما هاجر شدد على نفسه وكلفها، واعتزل امرأته وكانت له امرأة جميلة، فبقيت معه مدة طويلة لا يسأل عنها ولا يشتغل إلا بالعبادة، فلما رآها النساء وهي متبذلة غير متجملة لباسها خشن وشعرها شعث سألنها فأخبرتهم بأن زوجها لا حاجة له في النساء، وأنه يريد أن يتبتل، أي: ينقطع إلى العبادة ويترك الشهوات ويترك النساء والتلذذ بهن، وعزم على ذلك.

لما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك ورده عليه، وقال: (لا يحل لك؛ فإن امرأتك لها حق عليك، ونفسك لها حق عليك)، فليس لك أن تحرم نفسك شهوتها ولذتها، ولا أن تحرم نفسك ما ينتج عن هذا النكاح من إعفاف امرأتك، وكذلك من ذرية صالحة يكونون بعدك يذكرونك بذكر حسن ونحو ذلك.

فعند ذلك رجع إلى امرأته، ولما رجع إليها رجعت إلى جمالها وإلى زينتها، وقد كان بعض من الصحابة أرادوا أن يتبتلوا كما تبتل عثمان، ولو أذن النبي عليه الصلاة والسلام لـعثمان بن مظعون بالتبتل لكثر المتبتلون من الصحابة، فعلموا -أيضاً- أنهم لا يمكن أن يتركوا الشهوة الجنسية التي هي غريزة في الإنسان إلا إذا قطعوا الجهاز التناسلي الذي هو السبب في هذه الشهوة، وهو معنى قوله: (ولو أذن له لاختصينا) أي: لتبتلنا. ولا يكون التبتل إلا بالاختصاء، أي: قطع الخصيتين أو قطع عروقهما، وهو الوجاء كما تقدم.

وقد روي أيضاً أن جملة من الصحابة منهم: عثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود وغيرهم أرادوا أن يتبتلوا وأن ينقطعوا عن الدنيا، وهموا بالاختصاء، وهموا بأن يحرموا طيبات الدنيا وملذاتها وشهواتها على أنفسهم، وأن ينقطعوا للعبادة وأن يعزموا عليها، فنزل فيهم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87] فعند ذلك رجعوا إلى ما أحل الله لهم، وتمتعوا بالطيبات، ولم تشغلهم تلك الطيبات وتلك المباحات عن العبادة، بل جمعوا بين اللذات المباحة وجمعوا بين العبادة وقاموا بها خير قيام.

وهكذا حال أتباعهم إلى هذا الزمان، يستطيع المسلم أن يجمع بين العبادة التي كلف بها سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ويتناول أيضاً ما أبيح له من الشهوات المباحة ومتع هذه الحياة.

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه.

[عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان. فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم. لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة ؟! قلت: نعم. قال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن).

قال عروة: (وثويبة مولاة أبي لهب ، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم خيراً، غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة). الحيبة -بكسر الحاء المهملة-: الحال.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)].

أم حبيبة هي إحدى أمهات المؤمنين بنت أبي سفيان أخت معاوية ، كانت من المسلمين الأولين، هاجرت مع المهاجرين إلى الحبشة، وتوفي زوجها هناك وبقيت في الحبشة، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها حتى تكون من أمهات المؤمنين، مع أن أباها كان في ذلك الوقت من المحاربين للإسلام، ولكن أراد تثبيتها، وأراد تسليتها فتزوجها، فأرسل من يخطبها له، أرسل عمرو بن أمية الضمري ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وأصدقها عنه النجاشي ملك الحبشة أربعمائة دينار، وجاء بها عمرو بن أمية من الحبشة إلى المدينة، حيث لم يكن لها محرم بعد موت زوجها في ذلك الوقت؛ لأن أهلها لم يسلموا ولم يهتموا بأمرها، فاضطر إلى أن يرسل إليها من يأتي بها، فأصبحت من أمهات المؤمنين.

ولما كان الصلح بين المسلمين وبين أهل مكة، ونقض أهل مكة الصلح بقتالهم مع بني بكر لخزاعة، وخافوا أن يكون ذلك نقضاً للعهد والصلح في الحديبية جاء أبو سفيان إلى المدينة، وأراد أن يجدد الصلح ويزيد في المدة، فدخل على ابنته التي هي أم حبيبة ، ولما دخل عليها طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسته على الأرض، فقال: يا بنية هل رغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ أي: هل أنتِ قد نزهتيني عن هذا الفراش؛ لأنه لا يناسب، أو نزهتيه عني؟ فقالت: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك، فلا أجلسك عليه) فقال: لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ولكن هداه الله بعد ذلك وأسلم في سنة الفتح، ولما أسلم كان لها أخت أيضاً لم تتزوج.

ففي هذا الحديث أنها عرضت عليه أختها وقالت: ألا تتزوج أختي؟ أي: تتزوجها معي. فسألها: لماذا ترغبين أن أتزوج أختكِ؟ فقالت: (إني لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي) تقول: أنا لم أكن وحدي معك، بل معي شريكات، فهناك زوجاتك قد شاركنني فيك، ويمكن أن يوجد أيضاً زوجات أخرى يشاركنني، فلست بمنفردة بك ولست بمخلية لك، ولست بمخلىً لي، بل لابد من شركاء، فإذا كان لابد هناك من يشاركني فأحب من يشاركني في هذا الخير هي أختي. هكذا اعتذرت، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحل، كما أن الله حرم الجمع بين الأختين على المؤمنين، فكذلك حرمه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في آية المحرمات: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].

فلما ذكرت أختها وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له الجمع بين الأختين كما لا يحل لغيره ذكرت أمراً أعجب، وقالت: (فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. وأبو سلمة هو من المهاجرين أيضاً، هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى المدينة وتوفي بالمدينة، ولما توفي كان له أطفال، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمهم أم سلمة ، وبنته زينب بنت أبي سلمة وأولاد غيرها تربت معهم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيهم، فـزينب بنت أبي سلمة ربيبة للنبي صلى الله عليه وسلم بنت زوجته وربيبته وفي حجره، فتقول أم حبيبة: (إنك تريد أن تنكحها) فتعجب من ذلك، وأخبر بأنه لا يحل له، حتى ولو لم تكن ربيبة له ولو لم تكن في حجره ولو لم تكن بنت زوجته، فإن هناك مانعاً آخر وهو الرضاعة، يقول: (إنها ابنة أخي من الرضاعة). فـأبو سلمة كان قد أرضعته ثويبة وهي جارية لـأبي لهب يقول: (أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ).

فإذا كانت قد أرضعت أبا سلمة وأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحا أخوين؛ لأنهما رضعا من امرأة واحدة، وإن لم تكن والدة أحدهما بل امرأة أخرى، فأفاد أن الاثنين إذا ارتضعا من لبن امرأة أجنبية صارا أخوين وصارت المرضعة أماً لهما من الرضاعة، فهذه ثويبة كانت مملوكة لـأبي لهب ، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت وبشرته بأنه ولد لأخيك ولد، فأعتقها بهذه البشارة، ولما أعتقها صارت حاضنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصارت مربية له، وأرضعته في سن الرضاعة، وأرضعت معه أيضاً أبا سلمة ، وهي من الجواري اللاتي أسلمن في أول الأمر.

وفي هذه القصة أن أبا لهب لما مات رآه بعض أهله بعد موته رأوه في شر حِيبة، أي: في شر حالة، فسألوه، فقال: لم ألق بعدكم خيراً، إلا أني سقيت من هذه بعتاقي لـثويبة ) وأشار إلى النقرة التي بين الأصبعين فقال: (سقيت من هذه بعتاقي لـثويبة؛ لأن الله تعالى ذكر أنه من أهل النار بقوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3].

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال لـأم حبيبة : (لا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن)؛ فإنهن لا يحل له نكاحهن، فلا تعرضي يا أم حبيبة أختكِ عليّ لكون الجمع بين الأختين محرماً، ولا تعرضي يا أم سلمة ابنتك -مع أن أم سلمة لم تعرض ذلك- فإنها لا تحل لي لكونها ربيبتي وبنت أخي -أيضاً- من الرضاعة، وبهذا يعرف أن المحرمات علينا محرمات على النبي صلى الله عليه وسلم، والمباح لأمته مباح له، ولأجل ذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. [الأحزاب:50] ، ثم ذكر منهن فقال: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [الأحزاب:50]، فهؤلاء يحل نكاحهن له وكذا لغيره، يحل لك نكاح بنت عمك وبنت عمتك، وبنت خالك وبنت خالتك، فكذلك تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، كما تحل لك زوجة أخيك بعد طلاقه وزوجة عمك وزوجة خالك بعد طلاقه لها.

وفي حديث أم حبيبة دليل على أن الرضاع يصير سبباً في التحريم، وأن الجمع بين الأختين لا يجوز.

في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)، فأفاد بأنه لا يجوز أن يجمع الرجل بينهما، الله تعالى نهى عن الجمع بين الأختين، والنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ذلك النهي عن الجمع بين المحارم، بحيث لو كانت إحداهما تحته لم يحل له نكاح الثانية، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أخيها، إذا كانت عندك امرأة لا يحل لك أن تنكح عمتها، ولا أن تنكح خالتها حتى تطلق زوجتك، ولا أن تنكح بنت أخيها، ولا بنت أختها، ما دامت زوجتك عندك يحرم عليك هؤلاء الأربع.

أما اللاتي يحرمن عليك من أقاربها ويصرن محرماً لك فهن بنتها وأمها، إذا تزوجت امرأة فإن أمها تصير محرماً لك دائماً، وبنتها بالدخول تصير محرماً لك دائماً، وأختها محرمة عليك ما دمت متزوجاً لأختها، وعمتها كذلك محرمة عليك ما دامت بنت أخيها في عصمتك، وخالتها محرمة عليك ما دامت بنت أختها في عصمتك، وكذلك بنت أخيها وبنت أختها، فهؤلاء قريبات زوجتك سبع: أمها حرام عليك أبداً وبنتها كذلك بعد الدخول، أما عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها فهؤلاء يحل لك نكاحهن بعد فراق زوجتك، وأما معها فلا، وأختها نص الله عليها، وعمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها نص عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح قريبات زوجتك الخمس تحريمهن تحريماً مؤقتاً، أما بنتها وأمها فتحريمهما مؤبد.

الحكمة من تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها

الحكمة في ذلك ما ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، وسبب ذلك معلوم أن الضرتين يصير بينهما منافسة، إذا كان للرجل زوجتان فالغالب أنه يقع بينهما منافسة، كل واحدة قد تحسد الثانية، وقد تضارها، وقد تفتخر عليها ونحو ذلك حتى تسوءها، وذلك لأنها شريكتها في هذا الرجل، فلأجل ذلك سميتا ضرتين.

فإذا كانت الأختان تحت رجل واحد فلابد أن يقع بينهما شيء من هذه المنافسة وشيء من هذا الحسد، فتحصل بذلك قطيعة الرحم، والله تعالى قد رتب على قطيعة الرحم وعيداً شديداً حيث قال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

فلأجل ذلك نقول: إن الحكمة في النهي عن الجمع بين هذه المحارم كونه سبباً لقطيعة الرحم، فالأم والبنت تحريمهما مؤبد، ومعلوم أنه لا يتصور الجمع بين المرأة وأمها أو بنتها، والأخت تحريمها مؤقت منصوص عليه في القرآن، ومعلوم أيضاً أنه سبب للتقاطع بين الأختين، وكذلك إذا تزوج امرأة وعمتها فإنه سيحصل بينها وبين عمتها منافسة، كذلك إذا تزوج امرأة ثم تزوج عليها بنت أخيها، حصل أيضاً بينهما منافسة؛ لأن هذه تقول: هذه بنت أخي، وهذه تقول: هذه عمتي. فكيف يحصل الوئام والوداد وهما ضرتان تحت رجل واحد؟ لاشك أن هذا سبب للمنافسة وسبب لقطيعة الرحم.

وكذلك إذا تزوج عليها خالتها أو بنت أختها فإنه سيحصل بينهما أيضاً هذه الإثم الذي هو التقاطع، والإسلام جاء بالمودة، وجاء بالمحبة، وجاء بالصلة، ونهى عن كل شيء فيه تقاطع، فهذا هو السبب، فهذا الحكم يختص بالمحارم.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2583 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2518 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2501 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2441 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2369 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2355 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2340 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2330 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2330 استماع