شرح عمدة الأحكام [23]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [باب الجمعة: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين، وفي رواية: فصلِّ ركعتين).

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رجالاً تمارَوا في منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أي عودٍ هو؟! فقال سهل : من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس! إنما صنعتُ هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي، وفي لفظ: فصلى وهو عليها، ثم كبر عليها، ثم رفع وهو عليها، ثم نزل القهقرى)].

باب الجمعة أي: باب صلاة الجمعة.

والجمعة: اليوم المعروف، يسمى يوم الجمعة للاجتماع لهذه الصلاة، ولاجتماع أهل القرية جميعاً لأداء هذه الصلاة،

فالصلاة تسمى: صلاة الجمعة، واليوم يسمى: يوم الجمعة.

ما يستحب يوم الجمعة

ليوم الجمعة فضائل وخصائص كثيرة يطول ذكرها، أوصلها ابن القيم في زاد المعاد إلى ثلاثة وثلاثين خصلة، من أرادها فليقرأها في زاد المعاد، وإنما نحن بحاجة هنا إلى معرفة الأحكام التي يعمل بها العباد.

فيوم الجمعة تؤدى فيه صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يكثر فيه العباد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أُمِروا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. فقالوا: يا رسول الله! كيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ -أي: قد بَلِيْتَ- فقال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).

كذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأن (يوم الجمعة فيه ساعة الإجابة، ساعةٌ يستجاب فيها دعاء العبد المسلم ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم).

فيكون الإنسان مشتغلاً بأداء الصلاة، وبالاجتهاد في الدعاء؛ رجاء موافقة تلك الساعة التي قد أخِّرت في ذلك اليوم، وقد شُرِع فيه صلاة الجمعة.

الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة

هذه الصلاة الخاصة فيها خطبتان، وفيها جهر بالقراءة، ولا يوجد في بقية الصلاة خطب، ولا في الصلاة النهارية جهر بالقراءة.

والحكمة أنه يجتمع في الجمعة خلق من أماكن متباينة متباعدة، فيناسب أن يستمعوا للتعليمات وللنصائح والعظات، فيخطب الإمام بهم خطبة يعلمهم فيها الأحكام، ويعلمهم الحلال والحرام، وينبههم على الأخطاء والخلل الذي قد يقعون فيه، ويرغِّبهم في الدار الآخرة وثوابها، ويزهِّدهم في الدنيا ومتاعها، ويحثهم على الأعمال الصالحة؛ لتؤهلهم لدخول الجنة وتحميهم وتنقذهم من النار، فيجتمع المصلون في هذه المساجد ويتلقون هذه الخطب.

الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة

والسنة أن يجتمع أهل القرية في مسجد واحد، ولهذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة في مسجده، يأتي إليها أهل العوالي، ويأتي إليها أهل المدينة من مسيرة ساعتين أو أكثر من ساعتين، ثم يصلون جميعاً، ولم يرخص لأحد أن يصلي في مسجد آخر مع حاجتهم، لا في مسجد قبا مع بعده، ولا مساجد أبعد منه.

مشروعية المنبر لخطيب الجمعة

سن في هذه الصلاة سنناً، فمنها:

أن يكون الإمام مرتفعاً على المأمومين عندما يخطب، فيخطبهم فوق مكان عالٍ، وهو ما يسمى بالمنبر الذي يلتصق بالمسجد.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة مغروسة في قبلة المسجد، يرقى عليها ويخطب، ثم صُنع له هذا المنبر من طرفاء الغابة.

والطرفاء هو: نوع من الأثل، صنعه نجار كان لبعض الصحابيات مملوكاً عندها، فجعله ثلاث درجات، يعني: أنه قطع من متين عروق الأثل ثلاث قطع، كل قطعة جعلها كدرجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على الدرجة الثالثة التي هي أرفعها.

وهكذا استمر يخطب على هذا المنبر، وأول ما قام عليه وابتدأ في الخطبة حنَّ عليه ذلك الجذع لِمَا فَقَدَ من ذكر الله، فنزل إليه وضمه حتى هدأ وقال: (لو تركتُه لحنَّ إلى يوم القيامة) ثم رجع وكمَّل خطبته، وبعدما أتم الخطبة وأقيمت الصلاة كبر وهو على الدرجة السفلى من ذلك المنبر، وقرأ وهو عليها، وركع وهو عليها، ثم عند السجود نزل القهقرى -أي: رجع خلفه- حتى نزل في الأرض، ثم سجد السجدتين وبينهما جلسة، ثم قام للركعة الثانية، وصعد على الدرجة الأولى، وصلى الركعة الثانية كالأولى.

والسبب في ذلك أن يكون الإمام ظاهراً حتى يراه المصلون ليقتدوا ويأتموا به، وحتى يسمعوا خطبته وقراءته وتكبيره، حيث لم يكن هناك مكبر، وكان المسجد مكتظاً وممتلئاً، فلأجل ذلك ارتفع فوق أعلى درجة.

هذا هو السبب في كونه صلى بهم وهو على هذه الدرجة من المنبر، وذكر أن السبب أن يأتموا به، ويقتدوا بصلاته، ويسمعوا صوته، وهذا دليل على جواز أن يكون الإمام أرفع من المأمومين شيئاً يسيراً لحاجة تبليغهم ولحاجة سماعهم لقراءته وتكبيراته.

غسل يوم الجمعة

من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل).

والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).

وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس.

وقيل: معناه: أخذ بالرخصة. أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت).

والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره.

وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها.

فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء.

ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً.

وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً.

كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين.

فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه

ليوم الجمعة فضائل وخصائص كثيرة يطول ذكرها، أوصلها ابن القيم في زاد المعاد إلى ثلاثة وثلاثين خصلة، من أرادها فليقرأها في زاد المعاد، وإنما نحن بحاجة هنا إلى معرفة الأحكام التي يعمل بها العباد.

فيوم الجمعة تؤدى فيه صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يكثر فيه العباد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أُمِروا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. فقالوا: يا رسول الله! كيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ -أي: قد بَلِيْتَ- فقال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).

كذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأن (يوم الجمعة فيه ساعة الإجابة، ساعةٌ يستجاب فيها دعاء العبد المسلم ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم).

فيكون الإنسان مشتغلاً بأداء الصلاة، وبالاجتهاد في الدعاء؛ رجاء موافقة تلك الساعة التي قد أخِّرت في ذلك اليوم، وقد شُرِع فيه صلاة الجمعة.

هذه الصلاة الخاصة فيها خطبتان، وفيها جهر بالقراءة، ولا يوجد في بقية الصلاة خطب، ولا في الصلاة النهارية جهر بالقراءة.

والحكمة أنه يجتمع في الجمعة خلق من أماكن متباينة متباعدة، فيناسب أن يستمعوا للتعليمات وللنصائح والعظات، فيخطب الإمام بهم خطبة يعلمهم فيها الأحكام، ويعلمهم الحلال والحرام، وينبههم على الأخطاء والخلل الذي قد يقعون فيه، ويرغِّبهم في الدار الآخرة وثوابها، ويزهِّدهم في الدنيا ومتاعها، ويحثهم على الأعمال الصالحة؛ لتؤهلهم لدخول الجنة وتحميهم وتنقذهم من النار، فيجتمع المصلون في هذه المساجد ويتلقون هذه الخطب.

والسنة أن يجتمع أهل القرية في مسجد واحد، ولهذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة في مسجده، يأتي إليها أهل العوالي، ويأتي إليها أهل المدينة من مسيرة ساعتين أو أكثر من ساعتين، ثم يصلون جميعاً، ولم يرخص لأحد أن يصلي في مسجد آخر مع حاجتهم، لا في مسجد قبا مع بعده، ولا مساجد أبعد منه.

سن في هذه الصلاة سنناً، فمنها:

أن يكون الإمام مرتفعاً على المأمومين عندما يخطب، فيخطبهم فوق مكان عالٍ، وهو ما يسمى بالمنبر الذي يلتصق بالمسجد.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة مغروسة في قبلة المسجد، يرقى عليها ويخطب، ثم صُنع له هذا المنبر من طرفاء الغابة.

والطرفاء هو: نوع من الأثل، صنعه نجار كان لبعض الصحابيات مملوكاً عندها، فجعله ثلاث درجات، يعني: أنه قطع من متين عروق الأثل ثلاث قطع، كل قطعة جعلها كدرجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على الدرجة الثالثة التي هي أرفعها.

وهكذا استمر يخطب على هذا المنبر، وأول ما قام عليه وابتدأ في الخطبة حنَّ عليه ذلك الجذع لِمَا فَقَدَ من ذكر الله، فنزل إليه وضمه حتى هدأ وقال: (لو تركتُه لحنَّ إلى يوم القيامة) ثم رجع وكمَّل خطبته، وبعدما أتم الخطبة وأقيمت الصلاة كبر وهو على الدرجة السفلى من ذلك المنبر، وقرأ وهو عليها، وركع وهو عليها، ثم عند السجود نزل القهقرى -أي: رجع خلفه- حتى نزل في الأرض، ثم سجد السجدتين وبينهما جلسة، ثم قام للركعة الثانية، وصعد على الدرجة الأولى، وصلى الركعة الثانية كالأولى.

والسبب في ذلك أن يكون الإمام ظاهراً حتى يراه المصلون ليقتدوا ويأتموا به، وحتى يسمعوا خطبته وقراءته وتكبيره، حيث لم يكن هناك مكبر، وكان المسجد مكتظاً وممتلئاً، فلأجل ذلك ارتفع فوق أعلى درجة.

هذا هو السبب في كونه صلى بهم وهو على هذه الدرجة من المنبر، وذكر أن السبب أن يأتموا به، ويقتدوا بصلاته، ويسمعوا صوته، وهذا دليل على جواز أن يكون الإمام أرفع من المأمومين شيئاً يسيراً لحاجة تبليغهم ولحاجة سماعهم لقراءته وتكبيراته.

من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل).

والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).

وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس.

وقيل: معناه: أخذ بالرخصة. أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت).

والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره.

وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها.

فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء.

ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً.

وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً.

كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين.

فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه

سن التنظُّف يومَ الجمعة والتطيُّبُ ولُبسُ أحسنِ الثياب والسواكُ وما أشبه ذلك، وكلُّ ذلك لأجل ألَّا يؤذي بعض المصلين بعضاً، وكله لأجل أن يحترموا ذلك اليوم وذلك المكان، فالمساجد لها أهميتها وحرمتها، وكذلك المصلون، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الملائكة (أنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم)، ولذلك نهاهم عن أكل الثوم والبصل قرب وقت الصلاة حتى لا يتأذى بهم الملائكة أو المصلون؛ لأن الثوم والبصل لهما رائحة مُسْتَنكَهة مُسْتَكرَهة في مَشامِّ الناس، والملائكة تتأذى وإن لم يكن هناك أحد من بني الإنسان، فكل ما فيه رائحة مستكرهة في مشام الناس كالوسخ والقذر والقذى ونحو ذلك فينبغي صيانة المساجد عنها.

وقد وردت الأحاديث في تنظيف المساجد والأمر بإزالة القذى عنها، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة كانت تقمُّ المسجد أي: تخرج قمامته وتنظفه-، فلما ماتت قال: (دلوني على قبرها، فصلى عليها).

وكذلك ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي حسنات أمتي وسيئاتها فرأيت في حسناتها القذاة يخرجها الرجل من المسجد ..)، يعني: أية قذاة حتى ولو عوداً أو خرقة أو نحو ذلك يدركها البصر، فمن الحسنات إخراجها من المسجد ليبقى المسجد نظيفاً.

يقول ( ورأيت في سيئات أمتي البصاق يكون في المسجد ولا يدفن) يعني: إذا كان المسجد -مثلاً- رملياً، وقد أنكر عليه الصلاة والسلام على الذين يبصقون في المسجد وأمام المصلين، ورأى مرة بصاقاً في حائط المسجد فساءه ذلك وغضِب حتى قال: (أيحب أحدكم أن يُستقبَل وجهُه فيُبصَق فيه؟!) وقال: (إن أحدكم إذا كان يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصُق قِبَل وجهه)، (ولما رأى ذلك البصاق حكَّه بعود ودعا بخلوق -يعني: بطيب- وطيب).

وكل ذلك لأجل أن يكون المسجد نظيفاً، ولأجل أن يكون المصلون قد نظفوا أبدانهم وثيابهم.

وكذلك أيضاً: حث على الطيب، وأخبر بأنه محبوب لديه، فيستحب للإنسان أن يكون متطيباً، طيب رائحة الثوب والبدن، ونحو ذلك، حتى يوجد منه رائحة طيبة تقوي القلب، وترغب في المسجد، وترغب المصلين في أداء الصلوات وما أشبه ذلك. وفي ذلك أيضاً: تعظيم لهذه العبادة واحترام لها، بأن يأتي وهو نظيف، قد أزال ما عليه من الوسخ والقذر ونحو ذلك، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال.