خطب ومحاضرات
شرح عمدة الأحكام [79]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:
[كتاب الجهاد:
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في بعض أيامه التي لقي فيها العدو- انتظر حتى إذا زالت الشمس قام فيهم فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم).
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)].
تعريف الجهاد
سبب شرعية الجهاد
بعض المعاصرين ظنوا أن القتال لا يكون إلا دفاعاً، وأن المسلمين لا يقاتلون الكفار إلا لدفع شرهم، وهذا ظن خاطئ، بل الكفار يقاتلون لكفرهم، فما داموا كفاراً فإنا نقاتلهم إلا أن يبذلوا الجزية أو يسلموا، لقول الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، وقوله تعالى: جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، والآيات كثيرة، وفيها أن الله أمر بقتال المشركين عموماً لشركهم ولكفرهم، وسمى كفرهم فتنة فقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] هذا هو سبب شرعية القتال؛ إذ لم يكن قتال الكفار لأجل الولاية، ولا لأجل السيطرة، ولا لأجل الانتقام منهم، ولا لأجل التولي على أموالهم، ولا على نسائهم وأولادهم استعباداً واسترقاقاً، ولكن قتالهم لأجل أن يدخلوا في الإسلام، ولأجل أن يذل الكفر وأهله، وأن ينتصر الإسلام وأهله، هذا هو السبب في قتالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فهكذا كان المسلمون من عهد الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، ولأجل إذلال الكفر وكلمته، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
فإذا وجد هذا القتال فإنه قتال في سبيل الله، أما القتال لأجل الولاية والسلطة والسيطرة، ولأجل التغلب على من اعتدى عليه، فإن مثل هؤلاء لا يبالون بمن قاتلوا، ولذا فهم يقاتلون المسلمين، ويقاتلون الكفار، ويقاتلون النصارى، وليس لهم رغبة في نصر الإسلام، وإنما رغبتهم أن يكون لهم سلطة، وأن يكون لهم ولاية، وأن تعم ولايتهم وتكبر دولتهم، وهذا ليس قتالاً في سبيل الله، ولا يُشجع أهله، بل يقال لهم: أخلصوا نيتكم، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تقاتلوا من آمن بالله، إنما قاتلوا الكفار لأجل كفرهم أياً كان نوع الكفر.
هذه الأحاديث تتعلق بالجهاد، والجهاد: مشتق من الجهد الذي هو بذل الوسع، وهو أقصى ما عند الإنسان، والمراد به: قتال الكفار، وقتالهم يكون لأجل كفرهم ولأجل عنادهم، وقد شرع على مراحل، إلى أن أنزل الله الآية التي تُسمى آية السيف في سورة التوبة وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] ونحوها من الآيات.
النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته الجهاد والقتال، وكان يقاتل كل من بلغته الدعوة، ولكنه لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم، وكان يأمر من بعثه للقتال أن يبدأ بالدعوة، ففي حديث بريدة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لكل أمير: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)، يخيرهم بين هذه الثلاث: إما أن تسلموا، وإما أن تبذلوا الجزية، وإما أن تستعدوا للقتال، ولا يبدأ بالقتال أولاً إلا إذا عرف أن الدعوة قد بلغتهم، وأنهم أصروا وعاندوا، فحينئذٍ يقاتلهم.
بعض المعاصرين ظنوا أن القتال لا يكون إلا دفاعاً، وأن المسلمين لا يقاتلون الكفار إلا لدفع شرهم، وهذا ظن خاطئ، بل الكفار يقاتلون لكفرهم، فما داموا كفاراً فإنا نقاتلهم إلا أن يبذلوا الجزية أو يسلموا، لقول الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، وقوله تعالى: جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، والآيات كثيرة، وفيها أن الله أمر بقتال المشركين عموماً لشركهم ولكفرهم، وسمى كفرهم فتنة فقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] هذا هو سبب شرعية القتال؛ إذ لم يكن قتال الكفار لأجل الولاية، ولا لأجل السيطرة، ولا لأجل الانتقام منهم، ولا لأجل التولي على أموالهم، ولا على نسائهم وأولادهم استعباداً واسترقاقاً، ولكن قتالهم لأجل أن يدخلوا في الإسلام، ولأجل أن يذل الكفر وأهله، وأن ينتصر الإسلام وأهله، هذا هو السبب في قتالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فهكذا كان المسلمون من عهد الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، ولأجل إذلال الكفر وكلمته، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
فإذا وجد هذا القتال فإنه قتال في سبيل الله، أما القتال لأجل الولاية والسلطة والسيطرة، ولأجل التغلب على من اعتدى عليه، فإن مثل هؤلاء لا يبالون بمن قاتلوا، ولذا فهم يقاتلون المسلمين، ويقاتلون الكفار، ويقاتلون النصارى، وليس لهم رغبة في نصر الإسلام، وإنما رغبتهم أن يكون لهم سلطة، وأن يكون لهم ولاية، وأن تعم ولايتهم وتكبر دولتهم، وهذا ليس قتالاً في سبيل الله، ولا يُشجع أهله، بل يقال لهم: أخلصوا نيتكم، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تقاتلوا من آمن بالله، إنما قاتلوا الكفار لأجل كفرهم أياً كان نوع الكفر.
حديث عبد الله بن أبي أوفى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى زالت الشمس. في هذه الفقرة الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون القتال في آخر النهار؛ وذلك إذا هبت الرياح، وخفت الحرارة، ونزل النصر، هكذا كان يحب أن يكون ابتداء القتال بعد زوال الشمس، وفي هذا الحديث أنه أخر القتال حتى زالت الشمس، وقبل أن تزول أو قرب زوالها خطب أصحابه بهذه الخطبة، وذكر فيها هذه الجمل:
أولها قوله: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ وذلك لأنكم لا تثقون من أنفسكم بالقوة، ولا بالصلابة، فقد تتمنون لقاء العدو فتفشلون، وتذهب ريحكم وتتنازعون، ويحصل بينكم خلل، فينتصر العدو عليكم، فلا تتمنوا لقاء العدو؛ وذلك لأنه فتنة وضرر، هذه هي الجملة الأولى.
أما الجملة الثانية فهي قوله: (فإذا لقيتموه فاصبروا)، هذه وصية بالصبر، وقد أوصى الله تعالى به، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45] (فئة) يعني: طائفة من المشركين (فاثبتوا) أي: اصبروا، ومن الصبر الاستعداد، والتأهب، وأخذ الحذر، ومقابلة العدو بقوة وبشجاعة، والاستعداد للقتال يكون بكل ما أوتي الإنسان من قوة، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46] كل هذا توجيه من الله لمقابلة العدو، وذلك بالثبات، وهو الصبر لقوله: (فَاثْبُتُوا)، ولقوله: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، وفي هذا الحديث قال: (إذا لقيتموهم فاصبروا).
أما الجملة الثالثة فهي قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، قال ذلك ترغيباً لهم في الصبر تحت أشعة السيوف، وكان القتال في ذلك الزمان غالباً بالسيف، فكانوا إذا تقابلوا فإنهم يسلون سيوفهم، ثم يتقاتلون مع عدوهم، قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] فضرب الرقاب يعني: بالسيوف.
وكانوا حين يسلون السيوف يكون لها شعاع، ويكون لها أيضاً ظلال، والذين يقاتلون هذا في ظل سيف هذا وهذا في ظل سيف هذا، فكأنه يقول: ما دمتم في حومة الوغى، وما دمتم في هذه المعركة، وما دمتم مقابلين لهؤلاء الأعداء، فإنكم تمثلون أنفسكم أنكم قد تبوأتم منزلاً من الجنة، فالجنة تحت أقدامكم، وأنتم في ظلها، فقوله: (الجنة تحت ظلال السيوف) هذا للترغيب لهم في الصبر والثبات على القتال.
أما دعاؤه في هذا الحديث فإنه دعاء بالنصر والثبات، فتوسل إلى الله تعالى بهذه الصفات، ثم سأله ما قصده، فتوسل بقوله: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)، وكان إذا دعا بهذا الدعاء رجي قبوله، ورؤي أثره، فيسن أيضاً لمن تقابل في القتال ووقف في الجبهات أن يبدأ بهذا الدعاء: (الله منزل الكتاب)، يعني: جنس الكتب، وآخر ما نزل هو هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن).
(ومجري السحاب) يعني: مسير هذا السحاب، فإنه آية من آيات الله، فهو الذي خلق هذا السحاب، وهو الذي يجريه ويسيره كما يشاء، وهو من آياته العجيبة في خلقه.
(وهازم الأحزاب) الأحزاب هم: المتحزبون ضد الإسلام الذين كانوا يتحزبون ويجتمعون ليقاتلوا المسلمين، فالله تعالى هو الذي يهزمهم كما هزم الأحزاب وزلزلهم في وقعة الأحزاب كما في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9].
والحاصل: أن هذا فيه الأمر بالصبر، وفيه شرعية وسنية الدعاء في مقابلة العدو، فإذا دعا المسلم بمثل هذا وهو صادق رجي بذلك أن يستجيب الله دعوته، وأن يُهزم العدو، وأن يُمكن المسلمين من رقابهم، وأن يسير المسلمون في آثارهم حتى يتمكنوا من الاستيلاء عليهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، قد تكاثرت الآيات والأحاديث في فضل الرباط، منها ما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، وفي هذا الحديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، وفسر الرباط بأنه ملازمة السبل المخوفة التي يأتي منها العدو، وكان المرابطون عادة يقفون في الثغر الذي يُخاف أن الأعداء يأتون منه، فيبيتون المسلمين على غرة وغفلة، فهؤلاء الذين يلزمون هذا الثغر كأنهم فدائيون؛ لأنهم متعرضون للقتل؛ ومتعرضون لأن يفجأهم العدو فيحصل بينهم قتال وهم أعداد قلة، فقد يكونون أربعين أو مائة أو نحو ذلك، والعدو يأتيهم بغتة بقوات عديدة، وبجيوش متكاثرة، فيحصل أنه يتغلب عليهم، ولكن هؤلاء المرابطون كأنهم إذا أحسوا بالعدو وبحركته، وعلموا أنه قد أقبل بجيوشه أرسلوا من ينبه جيوش المسلمين التي في بقية الأمكنة بأن العدو قد جاءكم فاستعدوا له، واذهبوا وقابلوه قبل أن يقابلكم، وقبل أن يدخل في بلادكم ويتمكن، فهذه فائدة هؤلاء المرابطين.
وقد فسر الرباط الذي في هذه الآية: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200] بأنه ربط النفس على طاعة الله تعالى، ومن ذلك المرابطة على أداء الصلوات، والمحافظة عليها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، هكذا عد هذه الخصال من الرباط، وعدها مما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا، وإذا قلت: كيف كانت هذه رباطاً؟
فنقول: لأن هذا المسلم قد ربط نفسه على طاعة الله وأوثقها، والتزم بأن يحافظ على الصلوات، ويتردد إلى المساجد، ويكثر الخطوات نحوها، ويسبغ الوضوء على شدته، وينتظر الصلوات، فكلما صلى صلاة انتظر ما بعدها، فأصبح من المرابطين، فيحظى بهذا الأجر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله) وإن كان الحديث جاء في فضل المرابطة التي هي ملازمة الثغور.
ولا شك أيضاً أن من انتظم في سلك الجهاد، وغزا في سبيل الله، وتقابل مع الأعداء، وثبت في الصفوف، وصبر عند المجابهة والمقابلة، وعرَّض نفسه لقذائف الأعداء ولسهامهم وللقتل؛ أنه يُعد من المرابطين، وأي خصلة أكبر من كونه عرض نفسه أمام سهام الأعداء، وأمام قذائفهم، وخاطر بها، ولكنه يرجو ما عند الله تعالى.
والثواب الذي رتب على هذا هو قوله: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)، وقد ورد أيضاً في حديث آخر أن تمام الرباط أربعون يوماً، يعني: أن الذي يرابط في الثغر إذا أتم أربعين يوماً فقد أدى ما عليه، فعلى أمير الجيش أن يبدله بغيره؛ لأنه قد أدى جزئاً كبيراً من الصبر والمصابرة.
وفي هذا الحديث يرغب صلى الله عليه وسلم في الأعمال الخيرية، فيقول: (موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)، فمن حصل له من الجنة موضع السوط فذلك الموضع خير من الدنيا وما فيها، والسوط هو: العود الذي كانوا يضربون به، العصا التي يضرب بها، والسوط موضعه قدر ذراع أو ذراعين.
ثم يقول: (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، الغدوة هي: المسير أول النهار، والروحة هي: المسير آخر النهار، فكأنه يقول: الغازي إذا سار في سبيل الله من أول النهار إلى وسط النهار فالمسيرة هذه أجره فيها أكبر من أن تحصل له الدنيا وما عليها، وكذلك لو سار من وسط النهار إلى آخر النهار روحة فهي خير له من الدنيا وما عليها، فتبين بذلك فضيلة هذه الأعمال، فبمثل هذا الحديث ونحوه يرغب المسلم في أن ينتظم في الجهاد، وأن يجاهد في سبيل الله، ومعلوم أنه ما دام أن هناك عدواً كافراً، وما دام أن هناك من يقاتل المسلمين، وهناك من يفتك بالإسلام وبأهله؛ فإن الإسلام يحث الأفراد على أن يغزوا في سبيل الله؛ فيقاتلوا من كفر بالله؛ حتى يذل الكفر وأهله، وينتصر الإسلام والمسلمون.
شرح حديث: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي .. .)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون: لون الدم، والريح: ريح المسك)].
هذه الأحاديث في فضل الجهاد في سبيل الله، وقد ذكرنا أن الجهاد هو قتال الكفار، وأنه يستدعى غالباً خروجاً من البلاد، وسفراً طويلاً أو قصيراً، ويستدعي تزوداً بالمال، ثم يستدعي مقابلة الكفار، والتصدي لهم، ويستدعي الاستعداد للموت وللقتل؛ حيث إن المقاتل ينصب نفسه أمام العدو فإما أن يَقتل وإما أن يُقتل، فهو قادم على ذلك، وكأنه قد فدى نفسه، وكأنه قد عزم على أن يخوض هذه المعركة ليحصل ما حصل، وأغلى شيء عنده نفسه وقد بذلها لله تعالى، فلا جرم أن كان أجره كبيراً كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [التوبة:111] فلذلك حاز المجاهد في سبيل الله على هذا الفضل.
قوله في هذا الحديث: (انتدب الله) وفي رواية: (تضمن الله) وفي رواية: (توكل الله) أي: أنه وعد وعداً صادقاً، وهو لا يخلف وعده، فمن خرج في سبيل الله للجهاد في سبيله فإنه لا يعدم إحدى الحسنيين: إما الجنة إذا قتل شهيداً، وإما أن يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة، فالأجر يحصل له مقابل ما حصل عليه من التعب والنصب. وقد ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها)، والغدوة هي: السير أول النهار، والروحة هي: السير آخر النهار، أي: من سار نصف نهار غازياً، فإن مسيره هذا خير له من أن تحصل له الدنيا بحذافيرها، وكذلك من راح، يعني: من سار آخر النهار، وهذا دليل على أنه يحصل على أجر.
وورد في حديث آخر: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) أو كما في الحديث، ولما سمع جمع من المجاهدين هذا الحديث نزلوا عن رواحلهم، وساروا على أقدامهم يريدون أن تغبر أقدامهم؛ حيث إنهم قصدوا بذلك الغزو في سبيل الله حتى لا تمسهم النار، وهذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله.
وقوله: (تضمن الله لمن خرج في سبيله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة)، لا شك أنه إذا توفي وهو خارج في هذا السبيل أن أجره كبير؛ وذلك لأنه خرج للجهاد في سبيل الله، فيكون على أجر، فإن سار كتب له مسيره، وإن قال كتب له مقيله، وإن بات كتب له مبيته، وكذلك مقابلته للأعداء ونحو ذلك تكتب له حسنات، وكذلك أيضاً قد ورد أنه يكتب له أجر على كل أوقاته التي عملها، لكن يقول في هذا الحديث: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) يعني: ليس كل من خرج يصير مجاهداً، فقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فالذي يقاتل حمية لقبيلة على قبيلة، أو يقاتل عصبية لدولة على دولة، أو لفئة على فئة ولا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار، وإنما يقاتلهم ليتغلب عليهم، أو ليستولي على بلادهم، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ومن آثاره، أو يقاتلهم ليُرى مكانه أو نحو ذلك؛ فهذا ليس من المجاهدين في سبيل الله، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام، ونصر دين الله تعالى، ويستحضر قوله تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقوله: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] فالنصر نصر لله ولرسوله ولدينه، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله، لذلك قال: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله).
وبكل حال ضمن الله له أنه إذا مات أن يدخله الجنة، بل قد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
يقول في هذا الحديث: (إن توفاه أن يدخله الجنة)، وقد ورد في القرآن أن الذين قتلوا في سبيل الله أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، وتبقى هكذا حتى ترد إلى أجسادها، فهذا صفة الحياة التي ذكر الله تعالى عنهم: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:169-170].
ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله يتعرضون للموت، ويتعرضون للجراح، وقد يتعرضون للإذلال أو الاستيلاء أو الأسر، أو العذاب من المشركين، ولكن تحملهم كل ذلك لإظهار الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله تعالى؛ فلأجل ذلك عظم أجرهم، وكثر ثوابهم على هذا القصد، وكانوا يعرضون أنفسهم لذلك.
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من جملة الذين يغزون في سبيل الله، وكان هناك علماء بمكة يتعبدون ويتقربون بأنواع العبادة، فأرسل ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض أبياتاً يخبره فيها بعمل المجاهدين، يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فوصف فيه حالتهم، وكأنه يقول: أيها العباد! إنكم تتعبدون في الحرمين، وإنكم تتطيبون بأنواع الطيب، وأنواع العبير، وأما نحن فنتطيب بالغبار الذي ينالنا في سبيل الله، وإن هذا الغبار سبب مما نتطلبه، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يجتمع غبار خيل الله ودخان نار في جوف امرئ)، فهذا ما نطلبه، وهذا ونحوه من جملة ما يرغبهم في الجهاد في سبيل الله.
معنى قوله: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى .. .)
فإذا قطعت يده، أو فقئت عينه، أو قطعت إصبع من أصابع يديه أو رجليه، أو نحو ذلك فإن أجره يكون أكثر، وإذا كان هذا في فقد عضو أو جرح أو نحو ذلك فأعظم من ذلك أن يفقد نفسه، يعني: أن يُستشهد في سبيل الله، فإنه والحال هذه أعظم أجراً وأكثر ثواباً.
ويدخل في ذلك أيضاً نفقته، أي: ما ينفقه الرجل في سبيل الله، ويجهز به الغزاة في سبيل الله، فإنه ورد في الحديث: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)، فأصبح هذا الغزو الذي هو جهاد في سبيل الله يكون جهاداً بالنفس، وجهاداً بالمال، وتجهيزاً للغزاة، وخلفاً لهم في أهليهم بخير، وكل ذلك دليل على سعة فضل الله تعالى، وكثرة جوده على عباده.
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله -ولـ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون: لون الدم، والريح: ريح المسك)].
هذه الأحاديث في فضل الجهاد في سبيل الله، وقد ذكرنا أن الجهاد هو قتال الكفار، وأنه يستدعى غالباً خروجاً من البلاد، وسفراً طويلاً أو قصيراً، ويستدعي تزوداً بالمال، ثم يستدعي مقابلة الكفار، والتصدي لهم، ويستدعي الاستعداد للموت وللقتل؛ حيث إن المقاتل ينصب نفسه أمام العدو فإما أن يَقتل وإما أن يُقتل، فهو قادم على ذلك، وكأنه قد فدى نفسه، وكأنه قد عزم على أن يخوض هذه المعركة ليحصل ما حصل، وأغلى شيء عنده نفسه وقد بذلها لله تعالى، فلا جرم أن كان أجره كبيراً كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [التوبة:111] فلذلك حاز المجاهد في سبيل الله على هذا الفضل.
قوله في هذا الحديث: (انتدب الله) وفي رواية: (تضمن الله) وفي رواية: (توكل الله) أي: أنه وعد وعداً صادقاً، وهو لا يخلف وعده، فمن خرج في سبيل الله للجهاد في سبيله فإنه لا يعدم إحدى الحسنيين: إما الجنة إذا قتل شهيداً، وإما أن يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة، فالأجر يحصل له مقابل ما حصل عليه من التعب والنصب. وقد ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها)، والغدوة هي: السير أول النهار، والروحة هي: السير آخر النهار، أي: من سار نصف نهار غازياً، فإن مسيره هذا خير له من أن تحصل له الدنيا بحذافيرها، وكذلك من راح، يعني: من سار آخر النهار، وهذا دليل على أنه يحصل على أجر.
وورد في حديث آخر: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) أو كما في الحديث، ولما سمع جمع من المجاهدين هذا الحديث نزلوا عن رواحلهم، وساروا على أقدامهم يريدون أن تغبر أقدامهم؛ حيث إنهم قصدوا بذلك الغزو في سبيل الله حتى لا تمسهم النار، وهذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله.
وقوله: (تضمن الله لمن خرج في سبيله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة)، لا شك أنه إذا توفي وهو خارج في هذا السبيل أن أجره كبير؛ وذلك لأنه خرج للجهاد في سبيل الله، فيكون على أجر، فإن سار كتب له مسيره، وإن قال كتب له مقيله، وإن بات كتب له مبيته، وكذلك مقابلته للأعداء ونحو ذلك تكتب له حسنات، وكذلك أيضاً قد ورد أنه يكتب له أجر على كل أوقاته التي عملها، لكن يقول في هذا الحديث: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) يعني: ليس كل من خرج يصير مجاهداً، فقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فالذي يقاتل حمية لقبيلة على قبيلة، أو يقاتل عصبية لدولة على دولة، أو لفئة على فئة ولا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار، وإنما يقاتلهم ليتغلب عليهم، أو ليستولي على بلادهم، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ومن آثاره، أو يقاتلهم ليُرى مكانه أو نحو ذلك؛ فهذا ليس من المجاهدين في سبيل الله، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام، ونصر دين الله تعالى، ويستحضر قوله تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقوله: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] فالنصر نصر لله ولرسوله ولدينه، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله، لذلك قال: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله).
وبكل حال ضمن الله له أنه إذا مات أن يدخله الجنة، بل قد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
يقول في هذا الحديث: (إن توفاه أن يدخله الجنة)، وقد ورد في القرآن أن الذين قتلوا في سبيل الله أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، وتبقى هكذا حتى ترد إلى أجسادها، فهذا صفة الحياة التي ذكر الله تعالى عنهم: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:169-170].
ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله يتعرضون للموت، ويتعرضون للجراح، وقد يتعرضون للإذلال أو الاستيلاء أو الأسر، أو العذاب من المشركين، ولكن تحملهم كل ذلك لإظهار الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله تعالى؛ فلأجل ذلك عظم أجرهم، وكثر ثوابهم على هذا القصد، وكانوا يعرضون أنفسهم لذلك.
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من جملة الذين يغزون في سبيل الله، وكان هناك علماء بمكة يتعبدون ويتقربون بأنواع العبادة، فأرسل ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض أبياتاً يخبره فيها بعمل المجاهدين، يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فوصف فيه حالتهم، وكأنه يقول: أيها العباد! إنكم تتعبدون في الحرمين، وإنكم تتطيبون بأنواع الطيب، وأنواع العبير، وأما نحن فنتطيب بالغبار الذي ينالنا في سبيل الله، وإن هذا الغبار سبب مما نتطلبه، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يجتمع غبار خيل الله ودخان نار في جوف امرئ)، فهذا ما نطلبه، وهذا ونحوه من جملة ما يرغبهم في الجهاد في سبيل الله.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح المسك) الكلم هو: الجرح، والكلوم هي الجروح، يعني: أن المجاهد في سبيل الله إذا أصابه جرح، أو أصابته شجة، وخرج منه دم فإن ذلك الدم ولو التأم، وذلك الجرح ولو برئ في الدنيا، ولو سلم من آثاره؛ فإنه يوم القيامة يرى أثره عليه مثل لون الدم، ولكن ريحه ريح المسك، فيُعرف أن هذا ممن جرح في سبيل الله، ولا يحصل له ألم، فإذا كان الجرح -مثلاً- في ذراعه يُرى يثعب منه هذا اللون الذي لونه لون دم، ولكن لا يؤلمه، ولا يحس به، بل يجد رائحته رائحة عبقة طيبة، ويجدها أيضاً غيره، وهذه ميزة وعلامة له، وكذلك لو كانت الشجة في رأسه أو في وجهه، أو في موضع من مواضع جسده، وكذلك لو كثرت هذه الشجاج أو هذه الجروح فإنها كلها تأتي ولونها لون دم تثعب، بمعنى: أنها يخرج منها هذا السائل دون أن يكون له ألم، هذا من فضل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان هذا في الجرح الواحد فكيف بمن جرح جروحاً كثيرة؟! وإذا كان هذا في جرح فكيف بمن قطع أحد أطرافه؟!
فإذا قطعت يده، أو فقئت عينه، أو قطعت إصبع من أصابع يديه أو رجليه، أو نحو ذلك فإن أجره يكون أكثر، وإذا كان هذا في فقد عضو أو جرح أو نحو ذلك فأعظم من ذلك أن يفقد نفسه، يعني: أن يُستشهد في سبيل الله، فإنه والحال هذه أعظم أجراً وأكثر ثواباً.
ويدخل في ذلك أيضاً نفقته، أي: ما ينفقه الرجل في سبيل الله، ويجهز به الغزاة في سبيل الله، فإنه ورد في الحديث: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)، فأصبح هذا الغزو الذي هو جهاد في سبيل الله يكون جهاداً بالنفس، وجهاداً بالمال، وتجهيزاً للغزاة، وخلفاً لهم في أهليهم بخير، وكل ذلك دليل على سعة فضل الله تعالى، وكثرة جوده على عباده.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) أخرجه مسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله ليعه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) أخرجه البخاري.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين -وذكر قصة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قالها ثلاثاً).
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين -وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته، فنفلني سلبه)، وفي رواية فقال: (من قتل الرجل؟ فقالوا
في هذه الأحاديث فضل الخروج في سبيل الله للجهاد، وفيها بعض أحكام الجهاد التي لها صلة بالقتال في سبيل الله، فالحديث الأول: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس)، وفي الحديث الثاني: (غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، والمعنى واحد، والغدوة: المسير من أول النهار يعني: من طلوع الشمس إلى نصف النهار، هذا يُسمى: غدواً، كما في قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، فالغدو هو: المسير أول النهار، والروحة: المسير آخر النهار، أي: من زوال الشمس إلى غروب الشمس، هذا يُسمى رواحاً، ويُسمى المسير فيه روحة، وقد كانوا يسافرون للقتال في سبيل الله، فكانوا يقطعون ليالي وأياماً في السير على أقدامهم، أو على خيولهم، أو على إبلهم؛ لأجل الغزو، ولأجل الإتيان إلى المشركين حتى يقاتلوهم في عقر دارهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم إذا سرتم نصف يوم في سبيل الله فأجره خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا بحذافيرها، ومن أن يحصل لكم ما تطلع عليه الشمس أو تغرب؛ وما ذاك إلا أن هذا ولو كان مسيراً وسفراً عادياً، ولكنكم سافرتموه لأجل القتال في سبيل الله، ولأجل نصرة دين الله، ولأجل قتال من كفر بالله، ولو لم تبدءوا بالقتال، ولو كنتم تسيرون من بلادكم، متوجهين إلى بلادهم، فكل يوم أو نصف يوم تسيرونه ثوابه خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا وما فيها، ولا شك أن هذا دليل على أهمية السير في سبيل الله الذي هو الغزو.
وقد كانوا يسيرون شهراً متوجهين إلى البلاد التي فيها الكفار، فإذا ساروا -مثلاً- من المدينة إلى الشام لا يقطعونها إلا في خمسة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، حتى يصلوا إلى بلاد المشركين، فكل نهار فيه غدوة وروحة خير لهم من الدنيا وما فيها.
ومعلوم أن القصد هو وصولهم إلى البلاد الكفرية، وصمودهم أمام المشركين، وقتالهم لهم، وتوجههم نحوهم، وبدؤهم بالقتال، وصبرهم أمام العدو، هذا هو المقصود؛ إذ ليس السير إلا وسيلة من الوسائل، فإذا كان السير الذي هو وسيلة من الوسائل فيه هذا الأجر وهذا الثواب فلا شك أن ما سواه -وهو الصمود للقتال، والبدء به، والصبر عليه، وتعريض النفس للقتل، وكذلك تعريض المال للسلب وللنهب- أكثر أجراً وأعظم ثواباً، وما ذاك إلا أنه هو المقصد، فالوسيلة هذا فضلها، والمقصد هذا فضله وأجره أكثر وأعظم.
قصة حديث أبي قتادة كانت في غزوة حنين، وهي التي كانت بعد فتح مكة؛ وذلك لأن هوازن وثقيفاً كانوا قبائل قوية، وكان لهم منعة، وكان عندهم بأس، وكانوا مناوئين للإسلام، فلما أسلم أهل مكة امتنعت الطائف وقبائل ثقيف وهوازن عن الإسلام، واجتمعوا في حنين، واستعدوا ليقاتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الذين جاءوا معه لفتح مكة وهم عشرة آلاف، ومعهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا بمكة، فصاروا اثني عشر ألفاً، فتقابلوا مع ثقيف وهوازن في حنين، ولما تقابلوا بدأت ثقيف القتال، وكانوا رماة، وكان معهم سهام كثيرة، وكان من آثارها أن انهزم بعض المسلمين لشدة الرمي، ولشدة إصابتهم بالسهام التي أشبهت الوابل، فلما انهزموا بقي منهم بقية، فرأى أبو قتادة رجلاً من المسلمين قد استولى عليه مشرك من المشركين، وأمسكه يرد أن يقتله، فجاء أبو قتادة إلى ذلك المشرك من خلفه فطعنه حتى أرداه قتيلاً، يقول: ولكنه قبل أن يموت ضمني ضمةً شديدةً حتى وجدت رائحة الموت ثم مات.
وفي هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم بعدما انهزم المشركون ورجع المسلمون وقتل من قتل من هؤلاء وهؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)، ويعني بالسلب: ما كان معه من سلاحه ولباسه وما كان يحمله، حتى ولو كانت نقوداً ثمينة أو نحوها، وأبو قتادة ما أخذ سلب ذلك الكافر الذي قتله، بل تركه، وأخذه أحد المسلمين، ولما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتادة : من يشهد لي؟ يعني: من يشهد لي بالقتيل الذي قتلته، ولم يشاركني في قتله أحد؟ فقال: (ما شأنك؟) قال: رجل قتلته وكان من أمره كذا وكذا، فقال أحد المسلمين: صدق وسلبه عندي، فمره يسمح لي به، فقال أبو بكر: لا يعمد إلى أَسَد من أُسْد الله يقاتل في سبيل الله فيعطيك سلبه، فأعطاه سلبه، فاشترى به مخرفاً، يعني: نخلاً، يقول: فإنه لأول مالٍ تأثلته في الإسلام.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الأحكام [4] | 2581 استماع |
شرح عمدة الأحكام [29] | 2579 استماع |
شرح عمدة الأحكام [47] | 2517 استماع |
شرح عمدة الأحكام [36] | 2499 استماع |
شرح عمدة الأحكام 6 | 2439 استماع |
شرح عمدة الأحكام 9 | 2368 استماع |
شرح عمدة الأحكام 53 | 2354 استماع |
شرح عمدة الأحكام [31] | 2338 استماع |
شرح عمدة الأحكام 7 | 2328 استماع |
شرح عمدة الأحكام 56 | 2328 استماع |