شرح عمدة الأحكام [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التيمم:

عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك).

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا. ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه)].

هذا باب التيمم، والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف، وسمي تيمماً للأمر به كما في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا [المائدة:6]، فلما سماه الله تيمماً أخذوا اسمه من هذه الكلمة.

وسبب نزول الآيات في مشروعية التيمم، أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات، ولما كانوا ذات ليلة في مكان سقط عقد لـعائشة في الليل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم، فباتوا وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله في تلك الليلة آية التيمم، وفيها يقول أسيد بن حضير لـعائشة : (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجاً، وجعل الله للمسلمين فيه خيراً).

وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة، يعني: أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

قوله: (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)، التطهير بهذا التراب تطهير معنوي، وذلك أن المسلم يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب فيمسح به وجهه وكفيه، فهو يقصد ذلك امتثالاً لأمر الله.

التيمم يرفع الحدثين

ويرتفع بالتيمم الحدث الذي على البدن، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الحدث الأصغر بقوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] فالحدث الأصغر هو الذي يرتفع بالوضوء، وذكر الحدث الأكبر بقوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، وهو الذي يوجب الغسل، لكن عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله فكلا الحدثين يرتفع بالتيمم. قوله: (فَتَيَمَّمُوا) يعني: فاقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.

فجعل الله هذا التيمم رافعاً للحدث، وجعله طهوراً معنوياً يحصل به نفع ويحصل به استباحة الصلاة، وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة، ولكنه تطهير معنوي جعله الله تعالى توسعة؛ لأنه لما فرض الوضوء والغسل فهو يعلم أن الماء قد ينعدم في بعض الأحيان أو يتعذر استعماله، فجعل له بدلاً وهو التراب، وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء، وقد ذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] ولهذا ذكر العلماء من شروط العدول إلى التيمم: أن يكون قد بحث عن الماء في رحله وفيما كان قريباً منه ولم يجده، أو وجده وكان قليلاً وهو بحاجة إليه للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، ففيه رخصة وفيه توسعة.

والتيمم يحصل من الحدثين الأصغر والأكبر، فالآية نزلت في الأصغر عندما كانوا مسافرين وانعدم الماء واحتاجوا إلى الوضوء، فأمرهم بأن يتيمموا، فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة، وذكر في الآية نفسها موجب الغسل في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] فإن الملامسة هي الجماع، والجماع موجب للغسل لا الوضوء، فتكون الآية اشتملت على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء، ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل.

والأحاديث التي عندنا تتعلق بالغسل، فإن حديث عمران في الغسل، وذلك أن بعض الصحابة تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر، فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين؟!

فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا بالرجل معتزلاً جالساً، فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة، فسأله لماذا تركت الصلاة؟ فاعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدثاً أكبر، وأنه أصابته جنابة من آثار احتلام أو نحوه، وليس معه ماء يكفيه للاغتسال، فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، والصعيد هو المذكور في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6].

تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم

وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد، والصحيح أنه وجه الأرض المستوية الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه، وسمي بذلك لصعوده على وجه الأرض، أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد، أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه، وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوية، كما في قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40]، يعني: مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار، فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض، فإذاً التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض.

اشترط بعض العلماء أن يكون له غبار، وأخذ هذا الشرط من قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] قالوا: إن كلمة: (منه) تدل على التبعيض، وأنه يعلق منه غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف، فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه.

والصحيح أنه لا يشترط ذلك وإنما يكفي ضرب الأرض إذا كانت مستوية وفيها تراب ونحوه.

ويكثر السؤال عن الأماكن التي قد يعوز فيها التراب، يعني: المساجد المبلطة أو المفروشة مثلاً، والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب، والصحيح أنه يجوز ضرب وجه مثل هذه الأرض؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد، ولكن لا بد أن يكون طاهراً حيث اشترط الله الطيب بقوله: (صَعِيدًا طَيِّبًا)، فإذا كانت نجسة لم تجز التيمم منها، فلو ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك، فإنه لا يصح التيمم به. وإذا كان المكان فيه فراش أو نحوه وفيه شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض حتى يتطاير منه الغبار، وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكاناً يتيمم منه فإنه يأتي بتراب ليتيمم منه.

وإذا لم يستطع إحضار التراب صلى ولو بدون تيمم، وذلك كالمرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء فهم معذورون، وقد ذكر الله تعالى المرض من جملة الأعذار كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [المائدة:6]، خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء، وذكر المسافر لأنه غالباً يفقد الماء.

فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء، وقد لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه، وقد لا يستطيع أيضاً غسل أعضائه من شدة المرض؛ فله أن يتيمم، فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار، فيمكن إحضار تراب له في طست أو في إناء ليضرب عليه، فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه، فإنه إن استطاع أن يضرب الفراش ولو بدون غبار فعل، وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب.

والحاصل أن التيمم لا يكون إلا من الصعيد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)، وكما في الآية: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [المائدة:6]، فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.

بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار

وفي الحديث الثاني أيضاً الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر، فإن عمار بن ياسر لما احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء، وقد عرف أن الوضوء يقوم بدله مسح الوجه واليدين بالتراب، فاعتقد أن الغسل لا يقوم بدله إلا مسح البدن كله بالتراب، فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ في التراب.

وهذا ظن منه أنه لا يقوم مقام الغسل إلا التمرغ الكامل في التراب، وهذا من باب القياس، ولكن بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين، مع ذكر الحدث الأكبر في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه [المائدة:6]، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صفة التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه.

عدد ضربات التيمم

وقد اختلف في عدد الضربات، وحديث عمار ليس فيه إلا ضربة واحدة، وهو أصح من غيره.

لكن ورد أحاديث فيها مقال منها قوله: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين)، فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته، ومسح كفيه بأصابعه، وخلل أصابعه وأدخل بعضها في بعض حتى يكون قد عمم.

فالغبار الذي على الراحتين يمسح به وجهه، والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع، وإن ضرب ضربتين فلا بأس، ضربة يمسح بها وجهه، وضربة ليديه.

حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم

وأما حد اليدين، فالآية فيها إطلاق: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]، ولم يقل: إلى الكوع، ولم يقل: إلى المرفق، ولم يقل: إلى المنكب.

فجاء في بعض الروايات: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين)، فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وهو الذي يغسل إليه في الوضوء، ولكن في حديث عمار أنه اقتصر على مسح الكفين، والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل، وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع، والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع، وقد يقال: إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام، والكرسوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر، وهذا هو الراجح.

في حديث عمار أنه مسح كفيه واقتصر عليهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد.

اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم

وبكل حال لا بد من النية كما تقدم، ولا بد أن يكون هناك مسح.

ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح فألقت في وجهه تراباً لم يكفه ذلك ولو مسح به؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض، والله يقول: (فَتَيَمَّمُوا) أي: فاقصدوا، ويقول: (فَامْسَحُوا).

فلا بد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به، ويكون المسح مرة واحدة، فلا يطلب فيه التكرار كما ورد في الوضوء، بل يقتصر على مرة واحدة؛ وذلك لأن القصد منه التعبد، والطهارة به طهارة معنوية وليست طهارة حسية كالطهارة بالماء، إنما هي طهارة معنوية، ولذلك كان لا بد من النية حتى يتم الامتثال.

ويرتفع بالتيمم الحدث الذي على البدن، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الحدث الأصغر بقوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] فالحدث الأصغر هو الذي يرتفع بالوضوء، وذكر الحدث الأكبر بقوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، وهو الذي يوجب الغسل، لكن عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله فكلا الحدثين يرتفع بالتيمم. قوله: (فَتَيَمَّمُوا) يعني: فاقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.

فجعل الله هذا التيمم رافعاً للحدث، وجعله طهوراً معنوياً يحصل به نفع ويحصل به استباحة الصلاة، وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة، ولكنه تطهير معنوي جعله الله تعالى توسعة؛ لأنه لما فرض الوضوء والغسل فهو يعلم أن الماء قد ينعدم في بعض الأحيان أو يتعذر استعماله، فجعل له بدلاً وهو التراب، وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء، وقد ذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] ولهذا ذكر العلماء من شروط العدول إلى التيمم: أن يكون قد بحث عن الماء في رحله وفيما كان قريباً منه ولم يجده، أو وجده وكان قليلاً وهو بحاجة إليه للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، ففيه رخصة وفيه توسعة.

والتيمم يحصل من الحدثين الأصغر والأكبر، فالآية نزلت في الأصغر عندما كانوا مسافرين وانعدم الماء واحتاجوا إلى الوضوء، فأمرهم بأن يتيمموا، فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة، وذكر في الآية نفسها موجب الغسل في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] فإن الملامسة هي الجماع، والجماع موجب للغسل لا الوضوء، فتكون الآية اشتملت على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء، ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل.

والأحاديث التي عندنا تتعلق بالغسل، فإن حديث عمران في الغسل، وذلك أن بعض الصحابة تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر، فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين؟!

فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا بالرجل معتزلاً جالساً، فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة، فسأله لماذا تركت الصلاة؟ فاعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدثاً أكبر، وأنه أصابته جنابة من آثار احتلام أو نحوه، وليس معه ماء يكفيه للاغتسال، فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، والصعيد هو المذكور في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6].

وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد، والصحيح أنه وجه الأرض المستوية الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه، وسمي بذلك لصعوده على وجه الأرض، أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد، أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه، وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوية، كما في قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40]، يعني: مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار، فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض، فإذاً التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض.

اشترط بعض العلماء أن يكون له غبار، وأخذ هذا الشرط من قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] قالوا: إن كلمة: (منه) تدل على التبعيض، وأنه يعلق منه غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف، فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه.

والصحيح أنه لا يشترط ذلك وإنما يكفي ضرب الأرض إذا كانت مستوية وفيها تراب ونحوه.

ويكثر السؤال عن الأماكن التي قد يعوز فيها التراب، يعني: المساجد المبلطة أو المفروشة مثلاً، والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب، والصحيح أنه يجوز ضرب وجه مثل هذه الأرض؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد، ولكن لا بد أن يكون طاهراً حيث اشترط الله الطيب بقوله: (صَعِيدًا طَيِّبًا)، فإذا كانت نجسة لم تجز التيمم منها، فلو ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك، فإنه لا يصح التيمم به. وإذا كان المكان فيه فراش أو نحوه وفيه شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض حتى يتطاير منه الغبار، وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكاناً يتيمم منه فإنه يأتي بتراب ليتيمم منه.

وإذا لم يستطع إحضار التراب صلى ولو بدون تيمم، وذلك كالمرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء فهم معذورون، وقد ذكر الله تعالى المرض من جملة الأعذار كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [المائدة:6]، خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء، وذكر المسافر لأنه غالباً يفقد الماء.

فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء، وقد لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه، وقد لا يستطيع أيضاً غسل أعضائه من شدة المرض؛ فله أن يتيمم، فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار، فيمكن إحضار تراب له في طست أو في إناء ليضرب عليه، فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه، فإنه إن استطاع أن يضرب الفراش ولو بدون غبار فعل، وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب.

والحاصل أن التيمم لا يكون إلا من الصعيد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)، وكما في الآية: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [المائدة:6]، فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2578 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2576 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2511 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2497 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2435 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2366 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2352 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2330 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2327 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2324 استماع