شرح كتاب التوحيد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله, رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]... الآية.

وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]... الآية.

وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]... الآيات.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أرد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]... إلى قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]... الآية.

تقدم لنا تعريف التوحيد في اللغة والاصطلاح, وذكرنا أن تعريفه في اللغة: أنه مصدر وحد يوحد توحيداً, وهو في اللغة يطلق على معان, منها: الانفراد، أو إفراد الشيء.

وأما في الاصطلاح فهو إفراد الله عز وجل بما يختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.

وذكرنا فيما تقدم أن التوحيد ينقسم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد الألوهية, وهو: إفراد الله عز وجل بالعبادة، وعليه يدور هذا الكتاب.

والقسم الثاني: توحيد الربوبية, وهو إفراد الله عز وجل بالملك والخلق والتدبير.

والقسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات, وهو: إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل... إلى آخره.

وتقدمت لنا الآية الأولى, قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ومناسبة هذه الآية أنها دالة على وجوب التوحيد, والتوحيد هو أول واجب؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن, فقال له: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله , وأن محمداً رسول الله ). هذا هو أول واجب.

وحديث ابن عمر في الصحيحين: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله ).

وكما ذكر المؤلف من الآيات.

ويقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]. هكذا دعوة الرسل.

فأول واجب هو التوحيد, يجب على الإنسان أن يوحد الله عز وجل دون القصد إلى النظر كما يقول أهل البدعة.

قال رحمه الله: (وقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]).

بَعَثْنَا [النحل:36] بمعنى: أرسلنا.

وقال: فِي كُلِّ أُمَّةٍ [النحل:36]. المقصود بالأمة هنا: الطائفة من الناس.

والأمة ترد على معان, منها: الزمن, كما قال الله عز وجل: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف:45]. يعني: بعد زمن.

المعنى الثاني: الطائفة من الناس, كما هنا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36].

المعنى الثالث: الإمام, إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]. يعني: كان إماماً.

قال: فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36]. الرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.

أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36]. يعني: إفراد الله عز وجل بالعبادة, وسبق أن عرفنا العبادة باعتبارين.

وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. الطاغوت: مشتق من الطغيان, وهو مجاوزة الحد, وهو كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

قوله: ما تجاوز به العبد حده من معبود.

يعني: وهو راض, فإذا عبد من دون الله عز وجل وهو راض فهو طاغوت.

(أو متبوع) المتبوع: إذا اتبع على ضلاله فهو من الطواغيت, والمطاع أيضاً إذا أطيع على ضلاله فهو من الطواغيت.

فهذه الآية دلت على أمرين:

الأمر الأول: وجوب التوحيد؛ لأن الله عز وجل إنما بعث الرسل بتوحيد الألوهية.

الأمر الثاني: فيه تفسير التوحيد, وأن التوحيد هو: إفراد الله عز وجل بالعبادة. أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. هذا هو التوحيد.

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] ].

قَضَى [الإسراء:23] بمعنى: أمر ووصى.

وقضاء الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: قضاء شرعي ديني, كما هو هنا.

والقسم الثاني: قضاء كوني قدري.

والمراد هنا بقضاء الله عز وجل: هو القضاء الشرعي الديني, فإن الله سبحانه وتعالى قضى يعني: أمر ووصى.

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23]. تقدم تعريف العبادة.

إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23]. هنا الحصر. يعني: تعبدون الله عز وجل ولا تعبدون غيره.

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]. يعني: قضى سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين، والإحسان إلى الوالدين هو برهما والقيام بحقهما, يعني: برهما قولاً وفعلاً والقيام بحقهما.

مناسبة هذه الآية لما ترجم به المؤلف رحمه الله مناسبتان:

المناسبة الأولى: أنها دالة على وجوب التوحيد, ووجه الدلالة الأمر, والأمر يقتضي الوجوب.

والمناسبة الثانية: أن فيها تفسير التوحيد, وأن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة, كما قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23]. حصر العبادة لله سبحانه وتعالى, إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23]. دون ما سواه سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: (وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]). تقدم تعريف العبادة.

والشرك في اللغة: النصيب.

وأما في الاصطلاح فقسمه العلماء رحمهم الله إلى أقسام باعتبارات, لكن الخلاصة في ذلك: أن الشرك ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: شرك أكبر.

والقسم الثاني: شرك أصغر.

الشرك الأكبر: هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. هذا الشرك الأكبر.

ويدل لذلك: قول الله عز وجل: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1], يعني: يسوون به غيره، وقال الله عز وجل عن الكفار يوم القيامة: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:98-99]. فتسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، سواء كان من خصائص الألوهية كصرف عبادة لغير الله، فساويته بالله سبحانه وتعالى -نقول بأن هذا شرك أكبر.

أو بشيء من خصائص الربوبية من خصائص الملك، الخلق، التدبير, أو غير ذلك- صرفتها لغير الله عز وجل فنقول بأن هذا شرك أكبر.

أو من خصائص الأسماء والصفات, فهناك أسماء اختص الله عز وجل بها, وهناك أسماء مشتركة, وهناك صفات اختص الله عز وجل بها, وهناك صفات مشتركة, فمثلاً: من الأسماء التي اختص الله عز وجل بها اسم: الله، الرحمن... إلى آخره, فإذا صرفتها لغير الله عز وجل فأنت سويت غير الله بالله.

فتعريف الشرك الأكبر كما تقدم: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله, سواء كان ذلك من خصائص الربوبية, أو كان من خصائص الألوهية, أو كان من خصائص الأسماء والصفات.

وأما الشرك الأصغر: هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله في ضابط الشرك الأصغر, كما أن الشرك الأكبر موضع خلاف, لكن ما ذكرنا هو الأقرب, لكن الشرك الأصغر موضع خلاف, والأقرب في ذلك أن الشرك الأصغر: هو ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر وجاء في النص تسميته شركاً.

كل ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر من الأقوال والأفعال والاعتقادات وجاء تسميته في النص شركاً نقول بأنه هو الشرك الأصغر.

قال رحمه الله: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]).

قوله: شَيْئًا [النساء:36]. هذه نكرة في سياق النهي, فتفيد العموم, وأن الشرك محرم سواء كان قليلاً أو كثيراً.

والمناسبة في هذا مناسبتان كما تقدم, حيث إن الآية دلت على أمرين:

الأمر الأول: وجوب التوحيد؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر به, وأيضاً تحريم الشرك.

والمناسبة الثانية: تفسير التوحيد, وأن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة دون ما سواه؛ ولهذا أمر الله بعبادته، ونهى عن الإشراك به.

قال رحمه الله وتعالى: (وقوله: قُلْ تَعَالَوْا [الأنعام:151] ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

تَعَالَوْا بمعنى: هلموا وأقبلوا.

أَتْلُ . يعني: أخبركم.

مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]. يعني: ما منعه عليكم.

والمحرم عند الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعلق على المكلفين بطلب الكف على وجه اللزوم.

مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]. في هذه الآية فيه تحريم الشرك, ومقابل ذلك وجوب التوحيد, فإذا كان الشرك محرماً دل ذلك على أن التوحيد واجب.

قال رحمه الله: (قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ً [الأنعام:151]).

الوصية هي: الأمر بالشيء المؤكد.

وقوله: (خاتمه): الخاتم: هي حلقه. ذات فص من غيرها.

وقوله: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه. يعني: توقيعه, توقيع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخاتم يستخدم للتوقيع، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أوصى, وما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صدقة، لكن مراد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أوصى بشيء فإنه سيوصي بما جاء في كتاب الله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151].. إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام:153].

وهذه الآية: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]. دليل على وجوب التوحيد؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الشرك, فما دام أنه سبحانه وتعالى حرم الشرك, دل ذلك على وجوب التوحيد.

والشرك تقدم أن ذكرنا تعريفه, وأن الشرك شركان: شرك أصغر وشرك أكبر... إلى آخره. وسيأتينا إن شاء الله في باب الخوف من الشرك الفرق بين الشرك الأكبر وكذلك الشرك الأصغر فيما يتعلق بالأحكام الدنيوية والأخروية.

والله أعلم.

وصلى وسلم على سيدنا محمد.