الإنصاف فيما جاء في البسملة من الاختلاف
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الإنصاف فيما جاء في البسملة من الاختلافهذه المسألة من أهم مسائل الخلاف بين القراء والمحدثين والفقهاء، وألّف فيها الكثير كتباً خاصة، فمن ذلك كتاب "الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" للإمام الكبير أبي عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي المتوفى سنة 463هـ، وهو جزء في 42 صفحة، وقد طبع في مصر سنة 1343هـ، وكتاب لأبي محمد عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، ذكره النووي في المجموع، وقال: إنه مجلد كبير، ولخص أهم ما فيه؛ وألف فيها أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والدار قطني والبيهقي والخطيب وقد جمع الحافظ الزيلعي في نصب الراية أكثر ما ورد فيها من الآثار والأقاويل في مقدار يصلح كتاباً مستقلاً (1: 168 – 191 من طبعة الهند، و1: 323 – 363 من طبعة المجلس العلمي سنة 1357هـ) وكذلك النووي في المجموع، كتب فيها مقداراً وافياً.
واستيعاب ما قالوه لا يسعه المقام هنا، لكني أقول فيها كلمة أرجو أن أوفق إلى أن تكون القول الفصل إن شاء الله:
اتفق المسلمون جميعاً على أن البسملة جزء من آية في سورة النمل، ثابتة ثبوت التواتر القطعي الموجب لليقين.
ثم اختلف الفقهاء وغيرهم بعد ذلك: هل هي آية من كل سورة من سور القرآن سوى براءة؟ أو هي جزء من آية؟ أو هي آية مستقلة نزلت مع كل سورة – سوى براءة لافتتاحها وللفصل بينها وبين غيرها؟ أو هي آية من الفاتحة فقط أو ليست آية أصلاً؛ لا في الفاتحة ولا في غيرها.
فنقل العلماء عن مالك والأوزاعي وابن جرير الطبري وداود أنهم ذهبوا إلى أنها ليست في أوائل السور كلها قرآناً، لا في الفاتحة ولا في غيرها.
وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أحمد، وقول لبعض أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني.
وقال أحمد: هي آية في أول الفاتحة وليست قرآناً في أوائل باقي السور؛ وهو قول إسحاق وأبي عبيد وأهل الكوفة وأهل مكة وأهل العراق، فيما نقله العلماء؛ وهو أيضاً رواية عن الشافعي.
وقال الشافعي وأصحابه: هي آية من كل سورة، سوى براءة.
وحكاه ابن عبدالبر عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاووس ومكحول.
وحكاه ابن كثير عن أبي هريرة وعلي وسعيد بن جبير والزهري، وهو رواية عن أحمد.
وادعى أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي في أحكام القرآن أن الشافعي لم يسبقه أحد إلى هذا القول.
وذهب أبو بكر الرازي الجصاص إلى أنها آية في كل موضع كتبت فيه في المصحف، وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها وللفصل بين كل سورتين – سوى ما بين الأنفال وبراءة وهو المختار عند الحنفية، قال محمد بن الحسن "ما بين دفتي المصحف قرآن" وهو قول ابن المبارك ورواية عن أحمد وداود؛ وقال الزيلعي في نصب الراية "وهذا قول المحققين من أهل العلم".
ونسبة هذا القول إلى الحنفية استنباط فقط، فقد قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن [8:1]:
"ثم اختلف في أنها من فاتحة الكتاب أم لا، فعدها قراء الكوفيين آية منها، ولم يعدها قراء البصريين، وليس عن أصحابنا رواية منصوصة في أنها آية منها، إلا أن شيخنا أبا الحسن الكرخي حكى مذهبهم في ترك الجهر بها وهذا يدل على أنها ليست منها عندهم، لأنها لو كانت آية منها عندهم لجهر بها كما جهر بسائر آي السور".
وقال شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي في المبسوط (ج 1 ص 16):
"وعن معلى قال: قلت لمحمد – يعني ابن الحسن البسملة آية من لقرآن أم لا؟ قال: ما بين الدفتين كله قرآن، قلت: فلم لم تجهر؟ فلم يجبني.
فهذا عن محمد بيان أنها آية أنزلت للفصل بين السور، لا من أوائل السور؛ ولهذا كتبت بخط على حدة وهو اختيار أبي بكر الرازي رحمه الله، حتى قال محمد رحمه الله: يكره للحائض والجنب قراءة البسملة على وجه قراءة القرآن، لأن من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب، وليس من ضرورة كونها قرآناً الجهر بها، كالفاتحة في الأخريين".
وقد استدل كل فريق لقوله بأحاديث منها الصحيح المقبول ومنها الضعيف المردود وأما أئمة القراءات فإنهم جميعاً اتفقوا على قراءة البسملة في ابتداء كل سورة، سواء الفاتحة أو غيرها من السور، سوى براءة.
ولم يرو عن واحد منهم أبداً إجازة ابتداء القراءة بدون البسملة.
وإنما اختلفوا في قراءتها بين السور أثناء التلاوة، أي في الوصل.
فابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر وقالون وابن محيصن والمطوعي وورش من طريق الأصبهاني: يفصلون بالبسملة بين كل سورتين إلا بين الأنفال وبراءة.
وحمزة يصل السورة بالسورة من غير بسملة، كذلك خلف؛ وجاء عنه أيضاً السكت قليلاً – أي بدون تنفس من غير بسملة.
وجاء عن كل من أبي عمرو وابن عامر ويعقوب وورش من طريق الأزرق: البسملة والوصل والسكت بين كل سورتين سوى الأنفال وبراءة.
وكل من روى عنه من القراء العشرة حذف البسملة روى عنه أيضاً إثباتها، ولم يرد عن أحد منهم حذفها رواية واحدة فقط.
وهؤلاء هم أهل الرواية المنقولة بالسماع والتلقي شيخاً عن شيخ في التلاوة والأداء وقد اتفقوا جميعاً على قراءتها أول الفاتحة وإن وصلت بغيرها.
المجلة
السنة
العدد
التاريخ
الهدي النبوي
الثانية
الثالث والعشرين
صفر سنة 1358 هـ