شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 295-297


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.

هنا ملاحظة وهي: أن بعض الدروس العلمية تصلح أن تنشر للعامة، فعلى سبيل المثال درسنا في هذه الليلة سوف يتناول موضوعاً يحتاج إليه كل مسلم، ألا وهو موضوع قراءة الفاتحة في الصلاة بالنسبة للمأموم، خاصة في الصلاة الجهرية، وهذه قضية من المعضلات، لا يوجد أو لا يكاد يوجد مسلم إلا ويحتاج إليها، وسيكون غالب الدرس حديثاً عنها، فما الذي يمنع أن ينشر هذا للعامة؛ ليستفيدوا منه, ويعرفوا حكم هذه المسألة على حسب الاجتهاد المطروح, وإن كانت المسألة كغيرها من المسائل الأخرى التي تطرح، مسألة خلافية، تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وهناك مسائل ودروس أخرى مشابهة، تصلح أن تكون عامة تنتشر وتتداول عند الناس؛ وذلك لأنه جاءتني عدد من الأسئلة مكتوبة، وبعضها مشافهة، يطلب فيها الإخوة أن أتناول مسائل علمية أو فقهية في دروس عامة.

فبعضهم مثلاً يقول: لماذا لا تتناول موضوع الصلاة في درس علمي عام؟

وبعضهم يطرح موضوع الفاتحة أيضاً بالذات في درس علمي عام؟

فأقول: لا جدوى من تناول هذا في درس علمي عام؛ لأن هذا له طابع علمي بحت، وطابع تحقيق ودراسة، فمن الممكن أن هذا الدرس أو ذاك مما يخصص لموضوع مناسب، كموضوع المساجد مثلاً، أو موضوع قراءة الفاتحة أو ما أشبهه أن يطرح للناس، فدرس عام يستفيدون منه عبر الشريط، إذا لم يكونوا ظفروا بالحضور والاستماع إلى الدرس مباشرة، ولذلك فإنني سأؤجل الاستماع إلى حفظ الإخوة في آخر الدرس إن بقي وقت، وسأبدأ بطرح الموضوع خاصة، وأن الموضوع يتعلق بأحاديث سابقة، سبق أن قرأها الإخوة، فإن الأحاديث التي قرئت في الدرس الماضي الذي انعقد قبل أكثر من شهر ثم حصل التوقف الأخير، هذه الأحاديث تتعلق كلها بقراءة الفاتحة في الصلاة.

أولها: (حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)، يعني: بالفاتحة.

والحديث متفق عليه.

والثاني: رواية ابن حبان والدارقطني: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب).

والرواية الثالثة: هي رواية أحمد وأبي داود والترمذي وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب, فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) ).

وهذا أيضاً حديث عبادة رضي الله عنه، ثم حديث أنس وما بعده.

فنبدأ على أي حال بالمسألة المطروحة, وأيضاً نعتذر عن المراجعة، اللهم سوف أجعل هناك مراجعة خفيفة جداً، عبارة عن فاصل فيما أتممناه، واتفقنا من قبل على أن يكون هناك نوع من الطرائف العلمية، تكون في وسط الدرس؛ لتزيل شيئاً من التعب الذي يكون في أذهان الإخوة.

الأقوال في حكم قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم

ففيما يتعلق بقراءة الفاتحة في الصلاة, هي مسألة مهمة جداً؛ لأن من أهل العلم من يذهب إلى أن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن لا تتم -بل لا تصح- الصلاة إلا به، ومثل هذا ينبغي للمسلم أن يعطيه عناية تليق به، وأن يعرف الأقوال الصحيحة فيه، والموضوع أولاً موضوع خلافي، فقد اختلف فيه الناس، وممن اختلف فيه الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإنهم اختلفوا على أقوال كثيرة، هي ما اختلف فيه الناس بعدها، ولا يكاد يوجد قول في المتأخرين، إلا ووجد في الصحابة رضي الله عنهم من يقول به من قبل، اللهم إلا القليل من ذلك، ولاشك أنني أحاول تبسيط هذه المسألة، يعني: تسهيلها لتكون في متناول ذهن المستمع، ولذلك فلا غرابة أن نتجاوز عن كثير من الجزئيات والتفاصيل, ونبدأ بلب المسألة.

فجوهر وأصل الخلاف في المسألة: مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة: أن العلماء انقسموا فيها إلى ثلاثة أقسام، أذكر مذاهبهم باختصار، ثم أختم بذكر القول الراجح منها:

القول الأول: عدم قراءة الفاتحة للمأموم في السرية والجهرية

فالقسم الأول من العلماء: الصحابة ومن بعدهم، من يرون ترك القراءة للمأموم، سواء صرحوا بذلك بأقوالهم، أو فعلوه بأنفسهم، وسواء في ذلك كانت الصلاة جهرية كالمغرب والعشاء والفجر، أو كانت الصلاة سرية كالظهر والعصر، وهذا القول الذي يذهب إلى ترك القراءة للمأموم في السرية والجهرية هو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما من الصحابة، وهو مروي أيضاً عن جماعة آخرين من الصحابة بأسانيد صحيحة، كـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فقد صح عنه أنه قال: [ من قرأ خلف الإمام في الصلاة فليس على الفطرة ]، وهذا الأثر عن علي رضي الله عنه، رواه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام , فـالبخاري له كتاب خاص في هذه المسألة، روى هذا الأثر، ورواه أيضاً البيهقي في سننه، ورواه البيهقي أيضاً في جزء القراءة خلف الإمام، وقال ابن التركماني في كتاب الجوهر النقي: إسناده حسن، وكذلك قال الشيخ الألباني: إسناده جيد، فـعلي رضي الله عنه قال: [من قرأ خلف الإمام في الصلاة فليس على الفطرة].

وهل مقصود علي رضي الله عنه في الجهرية أو في السرية؟

الظاهر أن مقصود علي رضي الله عنه في الجهرية لا في السرية؛ لوجود آثار تدل على أنه كان يقرأ في الصلاة السرية.

وكذلك نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، أنه قال: [ وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه -يعني: فمه-تراباً ]، وما ذلك إلا أن ابن مسعود رضي الله عنه لا يرى القراءة خلف الإمام، وأيضاً نقول: الظاهر من كلام ابن مسعود أنه يقصد في الصلاة الجهرية، لكن من العلماء من حمل كلام علي وكلام ابن مسعود على أنه في الجهرية وفي السرية أيضاً، وأثر ابن مسعود رواه ابن أبي شيبة، والطحاوي وسنده صحيح.

كما أن هذا القول الذي يقول: لا تقرأ خلف الإمام، أو لا يجب عليك القراءة خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية، منقول عن جماعة كبيرة من التابعين، منهم: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومنهم: ابن أبي ليلى والحسن بن حي، وجماعة من التابعين في العراق، وإبراهيم النخعي، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

وداخل هذا المذهب العام مذاهب جزئية, فمنهم من يقول مثلاً: يكره للمأموم أن يقرأ خلف الإمام.

ومنهم من يقول: يحرم على المأموم أن يقرأ خلف الإمام.

ومنهم من يقول: إن قراءة المأموم خلف الإمام تبطل صلاته، وهذا قول شاذ لبعض الحنفية, وهو قول منكر لا أسوقه إلا لبيان نكارته, أن من قرأ خلف الإمام في الصلاة ولو كانت سرية بطلت صلاته, فهو قول منكر لا يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نظر ولا أثر، وممن أنكره جماعة من المحققين من كبار الحنفية, كما فعل الإمام اللكنوي المحدث الشهير في كتابه: إتمام الكلام في القراءة خلف الإمام , فإنه تصدى لهذا القول, ورده من وجوه كثيرة، وإن كان منسوباً لبعض أصحابه من الحنفية.

على كل حال، المهم أن هذا القول الأول يقول: بأن المأموم لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية، ولهذا القول أدلة كثيرة جداً منها: قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، فإنهم يقولون: إن الآية فيها أمر بالاستماع وبالإنصات، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].

ويقول الحنفية: إن الأمر الذي ثبت بنص قطعي -يعني: آية أو حديث متواتر مثلاً- يسمى عندهم: فرضاً, فهو أرفع درجة عندهم من الواجب، وهذه الآية نص قطعي في وجوب الاستماع والإنصات لمن قرئ القرآن في حضرته، واستدلوا بذلك على وجوب الإنصات للمأموم, وأنه لا يسعه أن يقرأ إذا قرأ الإمام، وقالوا: إن المقصود بالقراءة التدبر والتفكر، وليس المقصود مجرد الاستماع، والجواب على الاستدلال بهذه الآية أن نقول: إن الآية لا شك أنها تدل على وجوب الاستماع لمن؟

يعني: لو واحد يقرأ القرآن سراً تستمع إليه؟ لا تستمع إليه، إنما تستمع إلى من يقرأ جهراً، فاعتبار أن الآية دليل على وجوب السكوت أو استحبابه، أو حتى جوازه في الجهرية والسرية ليس قوياً، على أي حال هذا من أدلتهم.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه أيضاً في قراءة الفاتحة في الصلاة، وهي رسالة مستقلة، قال: إنه قد استفاض عن السلف أن هذه الآية نزلت في الصلاة: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، وقال بعضهم: إنها نزلت في الخطبة، وذكر الإمام أحمد الإجماع على أنها نزلت في الصلاة، أن المصلي يجب عليه أن يستمع إلى القراءة وألا يتكلم، ونقل ابن تيمية عن الإمام أحمد إجماع أهل العلم على أنه لا تجب القراءة في الصلاة للمأموم حال الجهر، يعني: حال جهر الإمام، فيكفي قراءته، ولا يجب على المأموم أن يقرأ سورة الفاتحة.

الدليل الثاني من أدلة الحنفية على عدم القراءة للمأموم: قوله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، لما ذكر دعاء موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:88]، قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]؛ وذلك لأن موسى دعا وهارون أمّن على دعائه، فقال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، فاعتبر أن كلاً من موسى وهارون قد دعا، مع أن هارون لم يدع، وإنما أمّن على الدعاء. فذكر ابن كثير في تفسيره: أنه ربما يستدل بهذه الآية على مذهب الأحناف: أن من أمّن على قراءة الإمام لا تجب عليه قراءة الفاتحة.

وهذا أيضاً يصلح دليلاً في حال الصلاة الجهرية؛ لأن المأموم يؤمّن فيها، أما الصلاة السرية فهل يكون فيها تأمين؟ لا تأمين فيها، وهذا أيضاً يقدح في الاستدلال بهذه الآية.

من أدلتهم أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه وصححه، قال: هو عندي حديث صحيح، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه , وأخرجه أيضاً النسائي يعني: له شاهد عند النسائي عن أبي هريرة، وقد صححه مع مسلم كما أسلفت أحمد وابن خزيمة .. وغيرهم من أهل العلم، ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا أيضاً يصلح دليلاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن في السرية ما فيها قراءة للإمام حتى ينصت لها.

الدليل الرابع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم، فلما انصرف قال لأصحابه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! )، وهي صلاة قد جهر فيها في القراءة، ( فقالوا: نعم يا رسول الله! )، وهو غير حديث عبادة الذي سبق, حديث آخر حديث أبي هريرة قال: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! إنا لنقرأ، قال: فإني أقول: ما لي أنازع القرآن؟! ونهى عن القراءة، قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة )، وهذا أيضاً دليل على عدم القراءة في الصلاة الجهرية, وليس فيه ذكر للصلاة السرية، وهذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه مالك في موطئه، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي في شرح معاني الآثار وأحمد وابن حبان وصححه جماعة من أهل العلم، منهم: أبو حاتم الرازي الإمام الشهير، ومنهم الإمام ابن القيم، وقد حسنه الترمذي في سننه، وله شاهد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، رواه البيهقي في جزء القراءة، فهذا الحديث يدل أيضاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن لا دليل فيه على ترك القراءة في الصلاة السرية.

أقوى أدلة الحنفية، الذي هو يعتبر كاملاً في ظاهر لفظه للجهرية والسرية هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، وهذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وذكر جماعة من أهل العلم أنه يصح مرسلاً عن بعض التابعين، وقد صحح هذا الحديث أو حسنه أيضاً طائفة من أهل العلم، فممن صححه أو صحح بعض طرقه الإمام البوصيري صاحب مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه، وكذلك قواه الإمام الفحل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما ذكر في رسالته في القراءة, وكما نقله ابن مفلح في الفروع : أن ابن تيمية قوى هذا الحديث، وممن حسنه من المعاصرين: الشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي صحيح الجامع.

ولا شك أن المتأمل المنصف إذا اطلع على طرق هذا الحديث، وإن كانت كلها أو جلها معلولة إلا أن فيها أسانيد ليست شديدة الضعف، فهي قابلة للانجبار, ومجموع هذه الطرق والأسانيد يدل على أن للحديث أصلاً: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، فهو يدل بظاهره على أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم، وهل نص الحديث على السرية أو الجهرية؟ ليس فيه نص على السرية ولا على الجهرية؛ ولذلك قلت: إنه من أقوى بل لعله أقوى أدلة الحنفية على ما ذهبوا إليه، من أنه لا تجب القراءة, الحنفية ومن وافقهم أو تقدمهم وسبقهم على أن القراءة لا تجب على المأموم، هذا هو القول الأول.

وخلاصته: أنه لا قراءة على المأموم في سرية ولا جهرية, لا سورة الفاتحة ولا غيرها.

القول الثاني: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية دون الجهرية

القول الثاني في المسألة: هو أنه يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه، ولا يقرأ معه فيما جهر فيه، أي: أنه يقرأ مع الإمام في الصلاة السرية، كالظهر والعصر، ولا يقرأ معه في الصلاة الجهرية، كالمغرب والعشاء والفجر، وهذا القول هو قول الإمام مالك وهو مشهور, وهو قول سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله من التابعين والزهري أيضاً، وقتادة، وعبد الله بن المبارك، والإمام أحمد في رواية عنه، وإسحاق من أئمة أهل الحديث، وداود الظاهري إمام أهل الظاهر، والإمام الطبري وهو أحد الأئمة أصحاب المذاهب المستقلة، وهو أيضاً أحد قولي الإمام الشافعي، كان يقول به حينما كان في العراق، وهؤلاء يقولون: يقرأ في الصلاة السرية خلف الإمام، ولا يقرأ في الصلاة الجهرية، كما أن هذا القول أيضاً كما أسلفت روي عن جماعة من الصحابة أيضاً، بل عن كثير من الصحابة، وممن روي عنه هذا القول من الصحابة أبي بن كعب رضي الله عنه، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو أيضاً رواية عن عمر بن الخطاب نفسه، وعن علي، وعن ابن مسعود رضي الله عنهم، كما أسلفت القول عن علي وعن ابن مسعود : أن قولهم السابق يحمل على الصلاة الجهرية، فهؤلاء يحمل قولهم على أنهم نهوا عن القراءة في الصلاة الجهرية، لا في الصلاة السرية، فهؤلاء يقولون: يقرأ المأموم خلف إمامه إذا كانت الصلاة سرية، كالظهر مثلاً، ولا يقرأ خلف إمامه، إذا كانت الصلاة جهرية، كالمغرب والعشاء والفجر.

طيب قولنا: كالمغرب والعشاء والفجر، التشبيه هنا له معنى، أم المسألة محصورة بالمغرب والعشاء والفجر؟

ليست محصورة، وإنما يدخل فيها مثلاً: الجمعة، العيد، التراويح، الاستسقاء، وسائر الصلوات التي يجهر فيها الإمام بالقراءة.

ما هي أدلة هؤلاء؟ هذا سؤال مطروح لكم، أدلتهم:

أولاً: هي نفس أدلة الحنفية، فمثلاً: استدلوا بقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، قالوا: لأن هذا أمر بالاستماع والإنصات لمن يقرأ القرآن، فإذا جهر الإمام في الصلاة، فواجب على المأموم أن يمتثل قول الله عز وجل، بأن يستمع إلى القرآن وينصت؛ رجاء أن تنزل عليه الرحمة، وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقالوا: من البعيد جداً، بل من العبث أن يأمر الله تعالى الإمام بأن يجهر بالقراءة، ويأمر المأموم بأن يتشاغل عن سماع القرآن بقراءة الفاتحة مثلاً، هذا بعيد جداً, فلذلك قالوا: إن الحكمة من الجهر في القراءة: هي أن يستمع المأمومون، وما نزل القرآن إلا ليتدبر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فالحكمة من الاستماع هي تأمل القرآن، وتدبر معانيه، والوقوف عند أحكامه وحلاله وحرامه، وعبره وآياته ومواعظه, وهذا لا يكون إلا بالإنصات، وما بالك بإنسان يكون خلف الإمام؟! فهو يريد أن يقرأ القرآن, ماذا يصنع؟ أليس همه أن ينهي قراءة الفاتحة بأي شكل، فهو يقرأ الفاتحة لا يتأمل فيها, فضلاً عن أن يخرج الحروف من مخارجها الطبيعية، ويقف عند آياتها وعبرها، بل هو يهذها هذاً, همه أن ينهي قراءة الفاتحة، قبل أن يبدأ الإمام بقراءة سورة مثلاً، أو في سكتة الإمام كما ظن بعضهم.. أو ما أشبه ذلك، فقالوا: إن المقصود من الجهر بالقراءة هو أن يستمع المأمومون، فحينئذ يجب على المأموم أن يستمع لقراءة إمامه وينصت, وألا يشتغل عنه في القراءة، هذا وجه استدلالهم بهذه الآية.

ومن أدلتهم أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا أيضاً دليل قوي، من جهة أن فيه أمراً بالإنصات، إذا قرأ الإمام..، فهو كالآية في قوله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، ومن جهة أخرى فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قرأ فأنصتوا )، جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما في صحيح مسلم .. وغيره، منهم: أبو موسى الأشعري، ومنهم: أنس بن مالك، ومنهم: عائشة رضي الله عنها، ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه.

وفي هذه الأحاديث كلها تفصيل لما يجب على المصلي -إماماً كان أو مأموماً- في صلاة الجماعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا )، فهنا بين واجب الإمام وواجب المأموم، إن كبر الإمام فكبر أنت، ( وإذا قرأ ) ماذا تفعل أنت؟ ( فأنصتوا )، هل قال: فاشتغلوا عنه مثلاً بالقراءة؟ لا، قال: ( فأنصتوا )، طيب: ( وإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين -في بعض الروايات: يجبكم الله- وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً ).. إلى آخر الحديث، وهذا آخر الحديث، ( فصلوا قعوداً أجمعين أو أجمعون )، طيب, ألم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام ما يتفق فيه الإمام والمأموم هنا, وبين ما يخص الإمام مثل قول: سمع الله لمن حمده، وبين ما يخص المأموم أو ما يتعلق بالمأموم، مثل قوله: ربنا ولك الحمد، أو مثل متابعة الإمام.. أو ما أشبه ذلك؟ بين ذلك كله، ولم يأمر المأموم بقراءة الفاتحة وراء إمامه، لا في سكتاته، ولا في غير سكتاته، فدل هذا على أن المأموم غير مأمور بقراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية، بل هو مأمور بالاستماع والإنصات، ومأمور بالتأمين على قراءة الإمام: ( إذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين ).

ولا شك أن الفاتحة -والله أعلم- لو كانت واجبة على المأموم بخصوص، غير سماعه لقراءة الإمام، لما كان يسع تركها، مع مثل هذا البيان الواضح، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الأعرابي المسيء في صلاته، علمه صفة الصلاة, ماذا قال له؟ قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) ثم ماذا؟ ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن )، ومر معنا في رواية أنه أمره بفاتحة الكتاب بالذات، لماذا؟ لأنه يفترض أن يكون منفرداً، فهو يتكلم عن صلاته إذا كان منفرداً، فدل هذا على أن قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية ليست بلازمة، وإلا لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل حديث أبي موسى، وعائشة، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم.. وغيرهم، وأحاديثهم في الصحيح، وبعضها في الصحيحين، فهذا من أدلتهم أيضاً، على أنه لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية.

ومن أدلتهم أيضاً: نفس أدلة الحنفية السابقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، فإن هذا الحديث محمول -على الصحيح- على الصلاة الجهرية، أما الصلاة السرية، فإن المأموم مطالب فيها بالقراءة، كما يطالب فيها الإمام، لماذا يطالب المأموم بالقراءة؟ يطالب فيها لأدلة من الأدلة: حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب )، والحديث رواه ابن ماجه وسنده صحيح، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على القراءة في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب، وسورة في الركعتين الأوليين, وبفاتحة الكتاب فحسب في الركعتين الأخريين لماذا؟ لأن الظهر والعصر صلوات سرية.

وكذلك أن الله تعالى أمر بقراءة القرآن، وبين ما فيه من الفضل والثواب، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بين ما في قراءة القرآن و( أن من قرأه له بكل حرف عشر حسنات )، هل هذا خاص بغير الصلاة، أم هو عام في الصلاة وغيرها؟ هو عام في الصلاة وغيرها، فكل نص في مشروعية قراءة القرآن فهو عام، في حال الصلاة وفي غيرها.

وليس في الصلاة -كما سبق بيانه مراراً- سكوت محض، وإنما الصلاة ذكر أو قراءة أو تسبيح أو دعاء.. أو ما شابه ذلك، فدل على أن الإنسان يقرأ خلف الإمام في الصلاة السرية، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة ) إنما هو محمول على ماذا؟ على الصلاة الجهرية.

ومثله قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [يونس:89]، فإن هذا محمول على من أمّن على قراءة الإمام، وهذا إنما يكون في الجهرية؛ لأنها هي التي فيها قراءة، وفيها جهر، وفيها تأمين.. إلى غير ذلك من الأدلة التي سبق ذكر شيء منها، كقوله رضي الله عنه: [ فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه بالقراءة ]، حديث أبي هريرة الذي أسلفته قبل قليل، وهذا الحديث الذي أسلفت تخريجه، قوله: [ فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه ] دليل على أن المأموم لا يقرأ في الصلاة الجهرية؛ لأنه بين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القراءة في الصلاة الجهرية، فانتهوا، وهل قال: إلا أم الكتاب، أو إلا فاتحة القرآن؟ لم يقل ذلك، وإنما قال: (انتهى الناس عن القراءة)، يعني: عن جميع القراءة، الفاتحة وغير الفاتحة.

لكن هنا يرد إشكال، من هو الذي يقول: (فانتهى الناس عن القراءة)؟ قطعاً ليس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن هو؟ احتمال أن يكون أبو هريرة , وقد جاء في بعض الروايات، قال أبو هريرة، واحتمال أن يكون الإمام محمد بن شهاب الزهري، وقد ذهب إلى أن هذا اللفظ مدرج من كلام أبي هريرة أو ابن شهاب الزهري جماعة أهل العلم، ومنهم: الخطيب البغدادي، والبخاري، وأبو داود، ويعقوب بن سفيان، والذهلي، والخطابي .. وغيرهم قالوا: هو مدرج، قال بعضهم: من كلام أبي هريرة، وقال بعضهم من كلام الزهري , وقيل أيضاً: إنه مدرج من كلام معمر، والأرجح أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، أو من كلام الزهري .

فأما إن كان من كلام أبي هريرة فلا إشكال, فإن أبا هريرة يتكلم عن الصحابة، وأبو هريرة واحد منهم، كان يتكلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه دليل على أن هذا هو آخر الأمور, وأنه ناسخ لما قبله.

وأما إن كان من كلام الزهري أيضاً فهو دليل؛ لأن