شرح عمدة الأحكام - كتاب الأطعمة [1]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأطعمة:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: ( إن الحلال بين, وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه, ألا وإن لكل ملك حمى, ألا وإن حمى الله محارمه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

الشرح: الأطعمة جمع طعام، والطعام هو كل ما يطعم من مائع وجامد، والأصل في الأطعمة هو الحل، ويدل لذلك قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]. وقول الله عز وجل: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10].

وأيضاً ما في صحيح البخاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، فدل على أن الأصل في ذلك الحل.

وفي حديث سلمان وإن كان ضعيفاً: (وما سكت عنه فهو عفو).

قال المؤلف فيما نقله في كتابه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وأشار -وفي رواية- وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: إن الحلال بين) ].

الحلال هو ما جاء حله في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (بين). يعني: ظاهر وجلي.

(وإن الحرام بين). الحرام ما جاء تحريمه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

و(بين). يعني: ظاهر، وهذا واضح.

وقوله: (وبينهما أمور مشتبهات). يعني: مسائل مشتبهات، يعني: مترددة يشتبه فيها، هل هي من القسم الأول أو من القسم الثاني؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأمور إلى ثلاثة أقسام: حلال بين، حرام بين، الثالث غير ظاهر، غير واضح، يحتمل أنه من الحلال، ويحتمل أنه من الحرام.

وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس)، يعني: كثير من الناس تخفى عليه هذه المسائل: هل هي من الحلال أو من الحرام.

وقوله: (كثير من الناس). يفهم منه أن هناك من الناس من يعرف الفصل في هذه المسائل، وهم أهل العلم الذين رسخت أقدامهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يفتح الله عز وجل على قلوبهم ويتبين لهم الأمر أن هذا من الحلال أو من الحرام، فيردوه إلى أحد القسمين.

وقوله: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه). يعني: ما دامت هذه الشبهات موضع تردد، ولم يظهر عند أهل العلم أنها من الحلال أو الحرام، (فمن اتقى الشبهات)، يعني: وقى نفسه من الدخول فيها، (فقد استبرأ)، يعني: طلب البراءة، (لدينه وعرضه)، أما طلب البراءة للدين؛ فلأن هذه الأمور يحتمل أنها من الحرام، وأما عرضه فهو أيضاً يطلب البراءة من كلام الناس؛ لأن بعض الناس يرى أنها من قبيل الحلال، وبعضهم يرى أنها من قبيل الحرام، فالناس يخوضون فيه خصوصاً من يرى أنها محرمة، (استبرأ)، طلب البراءة لدينه وعرضه.

(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)؛ لأن كونه لا يتورع عن الشبهات هذا يجره إلى أن يقع في الحرام، أو أن من وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ لأن هذه الشبهات التي اشتبه أمرها والتبس أمرها على أهل العلم، والصواب من قال: بأنها من الحرام.

(كالراعي يرعى حول الحمى)، الحمى: المحمي الممنوع، وذلك أن الكبار تكون لهم أماكن يمنعون الناس من الرعي فيها، وتكون خاصة لماشيتهم ودوابهم.. إلى آخره.

(يوشك أن يرتع فيه)، يعني: أن يرعى فيه، فالراعي إذا رعى حول الحمى هذا يفرض أن تدخل ماشيته في هذا المكان الذي منع من الرعي فيه، فيناله أذى من منع الرعي فيه من سلطان وغيره.

(ألا وإن لكل ملك حمى)، كل ملك من ملوك الدنيا يكون له حمى يحميه، لكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا لله ورسوله)، فلا يجوز أن يحمي أحد إلا الإمام.

وأن يكون لدواب المسلمين، لا بد من هذين الشرطين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لبيان واقع الناس.

(ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، أنت إذا وقعت في محارم الله وقعت في حمى الله.

(ألا وإن في الجسد مضغة -قطعة- إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

هذا الحديث اشتمل على مسائل، ومنها: مسألة الورع، وهي اتقاء الشبهات، فإذا كانت هناك مسائل يتردد فيها، لم يتبين للإنسان بالدليل الواضح: هل هي من الحلال أو من الحرام؟ فإن الورع أن يترك مثل هذه الأشياء، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفرق بين الورع والزهد، فقال: الورع هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، فإذا تردد في مسائل هل هي من الحلال أو من الحرام، ولم تقم الأدلة الظاهرة البينة على أحد القسمين، واختلف العلماء فيها، فإن الورع تجنب مثل هذه الأشياء، ومن ذلك الأطعمة، فقد تكون هناك بعض الأطعمة متردداً فيها.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الحلال بين)، فيه أن الحلال بين وأن الحرام بين ولله الحمد، وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينت ما هو حلال، وما هو حرام.

وفيه: أيضاً: أسلوب من أساليب تربية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه، وهو ضرب المثال، حيث قال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

وفيه أن الإنسان يتطلب ما هو البراءة لدينه، يعني: كل شيء ربما يخل بدين الإنسان فعلى الإنسان أن يتطلب ما يبرأ دينه.

وفيه أيضاً: أن يتطلب المسلم ما يبرئ عرضه، وأن يدفع قول الناس فيه، إذا كان هذا الشيء سيوقع الشخص فعليه أن يطلب ما يحمي عرضه.

وفيه: عظم شأن القلب، وأن المدار عليه، وأنه كالأمير في بقية الأعضاء، وأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله، فيترتب على ذلك أن الإنسان يهتم بقلبه دائماً وأبداً؛ لأن الإنسان قد يكون عنده عجب، قد يكون عنده رياء، قد يكون عنده حسد، قد يكون عنده بغضاء، قد يكون عنده عجب.. إلى آخره، وأمراض القلوب كثيرة، فعليه دائماً وأبداً أن يلتفت إلى قلبه، وأن ينظف قلبه، وأن يعلق قلبه بالله عز وجل.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (أنفجنا أرنباً بمر الظهران)، (أنفجنا)، يعني: أثرنا لإمساك هذه الأرنب بمر الظهران، ومر الظهران هو ما يسمى اليوم بوادي فاطمة، وهو يبعد عن مكة ما يقرب من ثلاثين كيلو متر، (فسعى القوم فلغبوا)، يعني: اشتد جري القوم، فلغبوا أي تعبوا، (وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة , فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذها، فقبله).

الشرح:

في هذا فضيلة أنس رضي الله تعالى عنه وقوته حيث أمسك بهذه الأرنب، مع أن القوم لغبوا، أي: تعبوا، لكنه رضي الله تعالى عنه لم يلحقه هذا التعب.

وفيه أيضاً: أن الصيد إذا أمسك وفيه حياة فإنه تجب تذكيته، فلو أنك ضربت الصيد بالرصاص ونحو ذلك ثم أمسكته وفيه حياة، فإنه يجب عليك أن تذكيه.

وفيه أيضاً: أن الأرنب مباحة.

وفيه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من الطيبات، ولهذا ذكر العلماء رحمهم الله أن ترك الأكل من الطيبات بعد وجودها من الورع المذموم، فالإنسان إذا تيسرت له الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس فإنه يأكل من ذلك، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، بل هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً.

وفي هذا أيضاً قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية والهبة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ويثيب عليها، فكون الإنسان يقبل الهدية أمر حسن حتى ولو كانت قليلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، ولو ظلف شاة، إذا أهدت لك هدية فاقبليها، فالسنة للإنسان أن يقبل الهدية ويثيب عليها، وعدم قبول الهدية هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الهدية فيها فضل عظيم وأجر كبير، ويكفي أنها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها سبب لتآلف القلوب.

ونقل أيضاً: [ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه -وفي رواية- ونحن في المدينة) ].

الشرح:

هذا الحديث فيه دليل على أن الفرس مباحة، والقول بأن الفرس مباحة هو الصواب في هذه المسألة، وإن كانت المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، والصواب في ذلك أن لحوم الخيل مباحة، خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك أنها محرمة، والصواب أنها مباحة كما هو مذهب الإمام أحمد والشافعي ، ودليل ذلك هذا الحديث.

وقولها: (ونحن في المدينة). هذا فيه رد على من قال: بأن حل الخيل كان منسوخاً؛ لأن قولها: (ونحن في المدينة)، يدل على تأخر أكل هذا الفرس، وأنه لم ينه عن ذلك، مع أنه لا يصار إلى النسخ إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن يعلم المتقدم من المتأخر.

والشرط الثالث: ألا يمكن الجمع.

وقولها: (نحرنا فرساً). فيه دليل على أن الفرس تنحر نحراً.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد..


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [27] 2827 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [22] 2549 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17] 2541 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [1] 2442 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الصيد [1] 2353 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [3] 2234 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [28] 2208 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [2] 2177 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب اللعان [3] 2147 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [23] 2139 استماع