شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [25]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في وقف عمر رضي الله تعالى عنه، وأخذنا بعض مسائل هذا الحديث، ومن مسائل هذا الحديث قول عبد الله بن عمر : (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها) يعني: يستشيره، وفي هذا استشارة أهل الفضل والخبرة بالشيء، والاستشارة هي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي جاء بها القرآن، والله عز وجل يقول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، و( لا ندم من استشار )؛ لأن المستشير يستفيد من آراء الآخرين، ومن عقول الغير، وهذا يدل على حصافة عمر رضي الله تعالى عنه، حيث ذهب واستشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض.

وأيضاً قوله: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) في هذا إخراج النفيس في سبيل الله عز وجل، وإخراج الطيب، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيباً، وهذا أيضاً يدل على قوة إيمان عمر رضي الله تعالى عنه.

وفي هذا مشروعية الوقف، وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله خلافاً لـشريح رحمه الله تعالى، فإنه لا يرى مشروعية الوقف.

وقوله: (غير أنها لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب) فيه أنه لا يجوز بيع الوقف، وذكرنا أن المراد بالبيع الذي نهي عنه هو البيع الذي يبطل أصل الوقف، أما إذا بيع لتعطل منافعه، أو بيع لما هو أصلح، فهذا لا يقصد منه إبطال أصل الوقف، بل العكس، حيث يقصد منه استمرار نفع الوقف، وجريان أجره على المتصدق.

وقوله (لا يورث) فيه أن الوقف لا يورث.

وفيه أيضاً: أنه لا يوهب.

وفيه أيضاً: أن مصرف الوقف قد يكون مصرفاً عاماً، وقد يكون مصرفاً خاصاً، كما ذكر عمر رضي الله تعالى عنه.

وفيه أيضاً: وجوب تنفيذ شرط الواقف، وصحة شروط الواقفين، ومن عبارات العلماء رحمهم الله أنهم يقولون: شرط الواقف كنص الشارع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: شرط الواقف كنص الشارع في المفهوم والدلالة، لا في وجوب العمل، لأنه قد يكون مخالفاً للشرع، فنقول: شرط الواقف كنص الشارع ما لم يخالف الشرع.

وفيه أيضاً: أنه يجوز لناظر الوقف أن يأكل بالمعروف إذا نص الواقف على ذلك، فإن هذا جائز ولا بأس به، أو ضرب له شيئاً من ريع الوقف، فهذا أيضاً جائز ولا بأس به.

وفي هذا أيضاً: الإحسان إلى الأقارب، والوقف عليهم، لقوله: (فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الهبة].

الشرح:

الهبة في اللغة: مأخوذة من هبوب الريح، أي: مروره، وسميت بذلك لأنها مرت من يد المعطي إلى يد المعطى.

وأما في الاصطلاح: فهي تمليك ماله غيره في حياته، وبعض أهل العلم يضيف: تمليك ماله المعلوم الموجود غيره.

لكن الصحيح أنه لا حاجة إلى إضافة المعلوم أو الموجود؛ لأن مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى صحة هبة المجهول والمعدوم.

ومذهب الإمام مالك هو أحسن المذاهب في المعاملات، ومن ذلك أيضاً ما يتعلق بالتبرعات، فإن الإمام مالكاً يجوز دخول الغرر في عقد الهبة وعقد الوقف ونحو ذلك؛ لأن هذه الأشياء يدخل فيها الموهوب والموقوف عليه، وهو إما غانم أو سالم، أنت إذا وهبت إلى شخص وهبت له شيئاً مبهماً أو مجهولاً، وهبت لك ما في جيبي، إن كان فيه شيء فالحمد لله، سواء كان قليلاً أو كثيراً فأنت لا يلحقك شيء أن تدخل الموهوب له إما غانماً أو سالماً.

وهنا قاعدة: فرق بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات، فعقود المعاوضات يقصد منها الكسب والتجارة، فلابد فيها من الضبط والتحرير والعلم؛ لئلا يقع النزاع؛ ولأن المشاحة موجودة فكل يريد الكسب والتجارة، بخلاف عقود التبرعات، فإن المقصود منها هو الإحسان والإرفاق، فالواهب والموقف والموصي ... إلى آخره، كل هؤلاء محسن لا يقصد منها الكسب والتجارة، فيوسع فيها ما لا يوسع في غيرها.

وعلى هذا يجوز فيها الغرر كما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهبة المجهول جائزة، وهبة المعدوم جائزة، وهبة الذي لا يقدر على تسليمه كسيارة سرقت أو نهبت، أو أرض غصبت ونحو ذلك، نقول: هذا كله جائز ولا بأس به.

قال المصنف رحمه الله: [عن عمر رضي الله عنه قال: ( حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه )].

الشرح:

قوله: (حملت على فرس في سبيل الله) يعني: أعنت رجلاً بحمله في سبيل الله على فرس.

(فأضاعه الذي كان عنده) يعني: قصر في نفقته ولم يحسن القيام عليه حتى هزل وضعف هذا الفرس.

(فأردت أن أشتري وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك)، هذا الحديث يؤخذ منه وقف الحيوان في سبيل الله عز وجل، وأن هذا جائز ولا بأس به.

ويؤخذ منه أيضاً: أنه كما أن الوقف يكون للعقار فهو يكون للمنقولات، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، خلافاً للحنفية، فإنهم يقولون: لا يصح من وقف المنقول إلا ما جرى به العرف، والصواب في هذا أن وقف المنقول جائز ولا بأس به.

وهنا قاعدة: أن كل شيء أخرجه الإنسان لله عز وجل فإنه لا يجوز أن يعود فيها، فإذا وقف أو وهب أو تصدق فلا يرجع في هذه الأشياء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً )، ثلاثة أيام فقط لماذا لا يقيم الذي هاجر من مكة إلى المدينة إلا ثلاثة أيام؟

لأنه ترك مكة لله عز وجل، فلا يجوز أن يرجع فيها مرة أخرى، ورخص له أن يقيم بعد قضاء النسك ثلاثة أيام ثم يرجع إلى المدينة.

جمع الصلاة للمدرس خارج بلدته

السؤال: أنا معلم وأداوم يومياً خارج بلدتي بمسافة تقدر ما بين سبعة وثمانين كيلو إلى اثنين وتسعين كيلو، فهل لي الحق في الجمع؟

الجواب: أولاً: هذا ليس سفراً عرفاً، فلا يحق فيه القصر، لكن الجمع ليس من خصائص السفر، فهو في السفر وفي الحضر، فإذا كان الإنسان يلحقه تعب وإرهاق ومشقة ظاهرة فإنه يرخص له في الجمع، أما إذا كان لا يلحقه شيء من ذلك ويصل قريباً من وقت أذان العصر، ويتمكن من أن يصلي الصلاة في وقتها فهذا هو الواجب عليه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [27] 2828 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [22] 2550 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17] 2543 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [1] 2444 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الصيد [1] 2355 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [3] 2236 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [28] 2210 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [2] 2178 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب اللعان [3] 2149 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [23] 2141 استماع