شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [9]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى وغفر له: [ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل، وإلا حل إذا حج، والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية.

باب صفة الحج والعمرة:

يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها، ويجزئ من بقية الحرم، ويبيت بمنى، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة، وكلها موقف إلا بطن عرنة، ويسن أن يجمع بها بين الظهر والعصر، ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة، ويكثر من الدعاء ومما ورد فيه، ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر، وهو أهل له صح حجه وإلا فلا، ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم، ومن وقف ليلاً فقط فلا، ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة، ويسرع في الفجوة، ويجمع بها بين العشاءين ويبيت بها، وله الدفع بعد نصف الليل وقبله فيه دم].

تقدم لنا ما يتعلق بشروط السعي، وذكرنا أن السعي يشترط له شروط:

الشرط الأول: المشي إلا لعذر، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وذكرنا الرأي الثاني وهو رأي الشافعية: أنه لو سعى راكباً فإن هذا لا بأس به، وذكرنا أن الأحوط هو ما ذهب إليه الحنابلة لورود ذلك عن الصحابة، وقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ركب لحاجته إلى الركوب؛ لأن الناس يريدون أن يأخذوا منه نسكهم، وكذلك أيضاً لكي يشرف على الناس وينظر إليهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم مشى في أول الأمر ولهذا سعى بين العلمين، ثم بعد ذلك ركب للحاجة، ولورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما ورد عن عائشة وعمر أنه منع من الركوب في السعي، وكذلك أيضاً عائشة رضي الله تعالى عنها كرهت المشي في السعي.

وكذلك أيضاً هل يشترط لصحة السعي رفع الحدث أو أن هذا ليس شرطاً؟ وكذلك أيضاً ما يتعلق بإزالة الخبث وستر العورة، وذكرنا أن هذه الأشياء سنة في السعي، فلو سعى وهو محدث أو عليه خبث أو نجاسة على بدنه أو ثوبه فإن سعيه صحيح، وكذلك أيضاً لو سعى وهو لم يستتر، والمقصود بالستر هنا ليس العري الكامل، وإنما لو أن ثوبه حصل فيه شيء من الشقوق أو الخروق أو نحو ذلك فإن سعيه صحيح.

وكذلك أيضاً ذكرنا ما يتعلق بالموالاة بين أشواط السعي، وذكرنا القاعدة في ذلك وهي أن كل عبادة مركبة من أجزاء لا بد فيها من الترتيب والتوالي، لكن نفهم أن التوالي في أشواط الطواف ليس كالتوالي في أشواط السعي؛ لأن أمر السعي أخف من أمر الطواف، وعلى هذا لو قطع أشواط السعي بالاستراحة ونحو ذلك، أو مثلاً قطعه لقضاء حاجة ونحو ذلك أو لشرب، أو لصلاة فريضة، فإن هذا كله لا يضر، مثله أيضاً لو قطع أشواط الطواف لكي يستريح قليلاً، أو لكي يصلي فريضةً، أو على جنازة، أو لكي يشرب ماءً ونحو ذلك، ما دام أنه لم يطل الفصل فإنه لا يضر.

كذلك ذكرنا أن أمر السعي أخف من أمر الطواف، وكذلك أيضاً هل تشترط الموالاة بين الطواف والسعي؟ ذكرنا بأن هذا ليس شرطاً وأنه سنة، وعلى هذا لو طاف في الصباح وسعى في المساء، أو طاف في هذا اليوم وسعى غداً، فإن هذا جائز ولا بأس به.

وتقدم لنا ما يتعلق بالسعي إذا كان في بطن الوادي، هذا بالنسبة للرجل، أما بالنسبة للمرأة فهل تسعى سعياً شديداً، أو لا؟ نقول: بأن المرأة لا تسعى سعياً شديداً كما جاء ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأنه جاء عن ابن عمر أنه قال: ليس على النساء رمل بالبيت، ولا بالصفاء والمروة.

قول المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه).

يفهم من كلام المؤلف أنه ربما يكون متمتعاً ومعه الهدي، يعني: يمكن أن يتمتع ومعه الهدي، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله كما سلف أن التمتع أفضل الأنساك ولو ساق الهدي، وعلى هذا يمكن أن يكون متمتعاً ومعه الهدي.

كيف يكون متمتعاً ومعه الهدي؟ يطوف ويسعى ولا يقصر؛ لوجود الهدي معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتمتع على المذهب: (يطوف ويسعى ولا يقصر)؛ لأنه ما يمكن أن يقصر حتى يذبح الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر) فيقولون: ممكن أن يكون متمتعاً من ساق الهدي، لكنه لا يتحلل، لكن إذا كان لا يتحلل فما أصبح متمتعاً، لكن المذهب أن التمتع أفضل ولو ساق الهدي، وممكن أن يكون متمتعاً وقد ساق الهدي، وهذا فيه نظر، والصحيح أنه لا يكون متمتعاً إذا ساق الهدي؛ لأن التمتع كما تقدم لنا في صفته أن يحل من العمرة، ثم بعد ذلك يحرم بالحج في عامه.

المهم نفهم كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره)، إذا كان متمتعاً لا هدي معه فإنه يقصر من شعره، وهذا هو الموضع الذي يستحب فيه التقصير للرجال، الرجل الأفضل في حقه الحلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرةً واحدة إلا في هذا الموضع وهو ما إذا كان متمتعاً فإن السنة أن يقصر، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، وأن يحل وأن يقصر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير كما في الصحيحين، لكن قال العلماء رحمهم الله تعالى: هذا إذا كان وقت الإحرام بالحج قريباً، أما إذا كان وقت الإحرام بالحج بعيداً، كما لو أخذ العمرة في شوال، فإن الأفضل في حقه أن يحلق؛ لأن الشعر سيتوفر للحج.

وعلى هذا قول المؤلف رحمه الله: (قصر من شعره). هذا إذا كان وقت الإحرام بالحج قريباً لحديث ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتقصير)، فإن كان وقت الإحرام بالحج بعيداً بحيث يتوفر الشعر للحج، فنقول: السنة أن يحلق؛ لأن الأصل هو الحلق بالنسبة للرجال، أما بالنسبة للنساء فإنه ليس عليهن حلق كما سيأتينا في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وإنما عليهن التقصير.

قال المؤلف: (قصر من شعره).

يؤخذ من كلام المؤلف أنه لا بد أن يقصر من جميع شعره، فهو مفرد مضاف يعم جميع الشعر، وهذا هو الذي دل له القرآن والسنة، والله عز وجل قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، قال: (رُءُوسَكُمْ)، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم حلق كل شعره وما حلق البعض وترك البعض، والتقصير يقوم مقام الحلق، فإذا كان الحلق لجميع الشعر فكذلك أيضاً نقول: التقصير يكون لجميع الشعر، لكن قال العلماء رحمهم الله: ما دام أن التقصير أخف من الحلق، يعني رخص بالتقصير لكونه أخف من الحلق، فإنه لا يشترط أن يشمل كل شعرة بعينها، لكن لا بد أن يعمم جميع الشعر بالتقصير.

وعند الشافعية رحمهم الله تعالى: أنه يكفي أن يقصر من ثلاث شعرات، أو أن يحلق ثلاث شعرات.

وعند الحنفية رحمهم الله: أنه يكفي أن يقصر بعض الشعر، وهذا كله فيه نظر، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله تعالى.

قال رحمه الله: (وتحلل، وإلا حل إذا حج).

يعني المتمتع إذا ساق الهدي فإنه لا يقصر ويبقى على إحرامه؛ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، لكن كما أسلفنا أن الصحيح أنه لا يكون متمتعاً إذا ساق الهدي، وإنما يكون قارناً.

قال رحمه الله: (والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية).

تقدم لنا أن التلبية يبدأ بها من حين الإحرام، وهذا هو الأفضل، وأن بعض العلماء قال: إذا شرع في المسير، وبعضهم قال: إذا استوى على راحلته، وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله فيما تقدم.

متى ينتهي وقت التلبية؟ نقول: له حالتان:

الحالة الأولى: انتهاء وقت التلبية في العمرة.

الحالة الثانية: انتهاء وقت التلبية في الحج.

أما الحج فسيأتينا إن شاء الله أن التلبية على الصحيح أنها تستمر إلى أن يشرع في رمي جمرة العقبة خلافاً للظاهرية، فإن الظاهرية يقولون: بأن التلبية تستمر إلى أن ينتهي من رمي جمرة العقبة، والصحيح الذي دلت له السنة أن التلبية تستمر إلى أن يشرع في رمي جمرة العقبة، هذا بالنسبة للحج وسيأتي إن شاء الله.

بقينا في العمرة.

مذهب الجمهور في آخر وقت التلبية للمتمتع وأدلتهم

قال المؤلف رحمه الله: (إذا شرع في الطواف).

وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، وعلى هذا يلبي إلى أن يشرع في الطواف، فإذا شرع في الطواف فإنه يقطع التلبية، ويستدلون على ذلك بما يروى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قطع التلبية حين استلم الحجر الأسود. رواه البيهقي ، وهو ضعيف، وبحديث ابن عباس مرفوعاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ) رواه أبو داود ، وهذا الحديث أيضاً ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

مذهب مالك في آخر وقت التلبية للمتمتع في العمرة ودليله

الرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى: أنه إذا أحرم من الميقات فإنه يمسك عن التلبية إذا دخل الحرم.

ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان يلبي في العمرة، حتى إذا رأى بيوت مكة ترك التلبية وأقبل على التكبير والذكر. وهذا موقوف على ابن عمر في سنن البيهقي ، لكن في صحيح البخاري : (أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)، وهذا لا شك أنه صريح.

تدعيم أدلة الجمهور وردهم على دليل المالكية

وجمهور العلماء رحمهم الله حملوا هذا حديث ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية)، على أن المراد الإمساك عن كثرة التلبية، يعني: التخفيف من التلبية، بدليل أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يلبي إلى أن يرى بيوت مكة. وكذلك أيضاً ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما الإهلال في السعي.

ويظهر والله أعلم أن الجمهور يقولون: يستمر في التلبية كما تقدم، وابن حزم رحمه الله يرى أن الأثر الوارد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما حجة.

والجمهور أيضاً يستدلون بالمعنى، يقولون: بأنه ما دام أنه لم يشرع في الطواف، فإنه حتى الآن لم يشرع في أسباب التحلل، فإذا شرع في الطواف شرع في أسباب التحلل، ونظيره في الحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة فإنه يكون مشروعاً في التحلل، حينئذ لا داعي للتلبية؛ لأن التلبية إجابة لنداء الله عز وجل عن لسان إبراهيم عليه السلام، فأنت إذا نظرت إلى المعنى فإنه يؤيد ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، مع أنه كما ذكرنا يعضده حديث ابن عباس وإن كان فيه ضعف، والأثر الوارد عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

قال المؤلف رحمه الله: (إذا شرع في الطواف).

وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، وعلى هذا يلبي إلى أن يشرع في الطواف، فإذا شرع في الطواف فإنه يقطع التلبية، ويستدلون على ذلك بما يروى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قطع التلبية حين استلم الحجر الأسود. رواه البيهقي ، وهو ضعيف، وبحديث ابن عباس مرفوعاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ) رواه أبو داود ، وهذا الحديث أيضاً ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى: أنه إذا أحرم من الميقات فإنه يمسك عن التلبية إذا دخل الحرم.

ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان يلبي في العمرة، حتى إذا رأى بيوت مكة ترك التلبية وأقبل على التكبير والذكر. وهذا موقوف على ابن عمر في سنن البيهقي ، لكن في صحيح البخاري : (أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)، وهذا لا شك أنه صريح.

وجمهور العلماء رحمهم الله حملوا هذا حديث ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية)، على أن المراد الإمساك عن كثرة التلبية، يعني: التخفيف من التلبية، بدليل أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يلبي إلى أن يرى بيوت مكة. وكذلك أيضاً ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما الإهلال في السعي.

ويظهر والله أعلم أن الجمهور يقولون: يستمر في التلبية كما تقدم، وابن حزم رحمه الله يرى أن الأثر الوارد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما حجة.

والجمهور أيضاً يستدلون بالمعنى، يقولون: بأنه ما دام أنه لم يشرع في الطواف، فإنه حتى الآن لم يشرع في أسباب التحلل، فإذا شرع في الطواف شرع في أسباب التحلل، ونظيره في الحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة فإنه يكون مشروعاً في التحلل، حينئذ لا داعي للتلبية؛ لأن التلبية إجابة لنداء الله عز وجل عن لسان إبراهيم عليه السلام، فأنت إذا نظرت إلى المعنى فإنه يؤيد ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، مع أنه كما ذكرنا يعضده حديث ابن عباس وإن كان فيه ضعف، والأثر الوارد عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2816 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2730 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2676 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2643 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2638 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2556 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2553 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2526 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2520 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2497 استماع