عداوة الشيطان للإنسان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين. أما بعد:

اتقوا الله عباد الله وراقبوه واحذروا عداوة الشيطان وجاهدوه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

عباد الله! هناك حقيقة نعترف بها جميعاً، ونحس بأثرها كلما زلت بنا القدم عن صراط الله، بينها الله عز وجل في كتابه، ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي امتحان للمسلم في هذه الدار.

عباد الله! إن هذه الحقيقة نعلمها ونعلم دواءها، وربما صعب علينا الاستمرار على تعاطي الدواء، تُرى أينا ينكر عداوة الشيطان للإنسان، والله يقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].

فالعداوة بين المسلم والشيطان حق لا مرية فيها، وهي من سنن الله الكونية القدرية، قررها الله عز وجل في قوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، والهدف منها واضح، إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وبداية هذه العداوة قديمة منذ أمر الملائكة بالسجود لأبينا آدم عليه السلام، فسجدوا إلا إبليس أبى أن يسجد متعللاً بأنه أشرف منه، فقارن بين الأصول ولم يلتفت إلى الأمر بالسجود، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

ومن عجب: أن إبليس وهو يتكبر يعترف ويقر بأن الله هو الخالق، بل يقر بالبعث والجزاء، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14].

ومن عجب أيضاً: أن إبليس أعاذنا الله منه يطلب النظرة إلى يوم البعث لا ليندم على خطيئته، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه، ولكن لينتقم من آدم وذريته.

عباد الله! إن الشيطان عدو للمسلم منذ ولادته، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه)، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].

قال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض : إن جميع الأنبياء عليهم السلام يشاركون عيسى في هذه الخصوصية.

عباد الله! ولا بد من مراغمة الشيطان والاستعداد للمعركة معه في كل ميدان، إذ من الناس من يبيت معهم الشيطان حيث باتوا، ويقيل معهم حيث قالوا، يحل معهم ويرتحل، يحسن لهم القبيح، ويكره لهم الحسن، قال الله تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17].

ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي: من قبل دنياهم، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي: فيما يتعلق بآخرتهم، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) أي: من قبل حسناتهم، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أي: من قبل سيئاتهم.

واختار ابن جرير رحمه الله تعالى: أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يحببه لهم.

وقد ثبت في صحيح السنة أن الشيطان يبيت مع الإنسان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه).

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: ظاهر الحديث: أن هذا يقع لكل نائم، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذكر، كحديث أبي هريرة وفيه: (فكانت له حرزاً من الشيطان)، وحديث آية الكرسي: (ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا ألا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون المبيت على حقيقته، فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها، ويحتمل أن يكون على الاستعارة، فإنما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان.

ولهذا يشرع للمسلم إذا استيقظ من نومه أن يستنثر ثلاث مرات، كما ثبت أيضاً أن الذكر وتلاوة القرآن طارد للشيطان، ففي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء).

عباد الله! وهناك فرق بين عداوة الشيطان للإنسان، وعداوة الإنسان للإنسان، بينها الله عز وجل في ثلاث آي من كتابه، قال في الأولى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:199-200].

وقال في الثانية: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98].

وقال في الثالثة: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، إلى أن قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو من الإنس، والإحسان إليه ليرده إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة، إذ إن هذا العدو لا يقبل مصانعةً ولا إحساناً، ولا يبغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل، فهل نتنبه لطبيعة العداوة مع الشيطان؟ وهل نراغمه بالإصلاح فيما بيننا؟

عباد الله! ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن عداوة الشيطان للإنسان تتمثل في ست مراتب، فتأملها وانظر فيما أنت منها، وجاهد نفسك.

المرتبة الأولى: الكفر والشرك بالله عز وجل، ومعاداة الله ورسوله عياذاً بالله من ذلك، فإذا ظفر الشيطان بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه، وذلك أول ما يريد من العبد، فإن ظفر به صيره من عسكره ونوابه، فصار من دعاته، فإن يئس من ذلك نقله للمرتبة الثانية: وهي البدعة؛ لأنها أحب إليه من الفسوق والعصيان؛ لأن ضررها متعد في الدين، وهي مخالفة لدعوة الرسل عليهم السلام، فإذا كان الشخص ممن يعادي أهل البدع نقله إلى المرتبة الثالثة: وهي الكبائر على اختلاف أنواعها، فيحرص أن يوقعه فيها خاصةً إذا كان عالماً متبوعاً لينفر الناس عنه، فإذا عجز عن هذا نقله إلى التي بعدها وهي الصغائر التي إذا اجتمعت ربما أهلكت صاحبها، ولا يزال يسهلها عليه حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة أحسن حالاً منه، فإن أعجزه العبد عن هذا نقله للخامسة: وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد عن هذا بأن كان حافظاً لوقته شحيحاً به نقله للمرتبة السادسة: وهي إشغاله بالعمل المفضول عن الفاضل ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، ويفتح له أبواب خير كثيرة، كما ورد أنه يأمر بسبعين باباً من أبواب الخير، إما ليتوصل إلى باب واحد من الشر، أو ليفوت به خيراً أعظم من تلك السبعين وأجل.

وهذه المرتبة لا يتوصل إلى معرفتها إلا بنور الله الذي يقذفه في قلب العبد، ويكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وهذا لا يعرفه إلا من كان من ورثة الرسل ونوابهم في الأمة وخلفائهم في الأرض، والله يمن بفضله على من يشاء من عباده.

اللهم مُنَّ علينا بفضلك، ولا تجعل للشيطان علينا سبيلاً، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

يا عبد الله! سائل نفسك مع أي الأصناف أنت في المعترك مع الشيطان، فقد روي أن الشيطان تبدى لـيحيى بن زكريا عليه السلام بهيئة الناصح، فكذبه يحيى وطلب منه أن يخبره عن بني آدم، فقال: هم عندنا على ثلاثة أصناف: أما صنف منهم فهم أشد الأصناف علينا نقبل عليه حتى نفتنه ونستمكن منه، ثم يتفرغ للاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كل شيء أدركناه منه، ثم نعود فيعود، فلا نحن نيأس منه، ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن من ذلك في عناء.

وأما الصنف الآخر: فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم، نتلقفهم كيف شئنا، قد كفونا أنفسهم.

وأما الصنف الأخير: فهم مثلك -يعني يحيى- معصومون، لا نقدر منهم على شيء.

عباد الله! وللشيطان مداخل ومنافذ على الإنسان، ووسائل للإغواء والإضلال، ولا شك أن القلب أعظم مداخله وأوسع منافذه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه أجلب عليه بالوسواس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمده من أسباب الغيب بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصائد والحبائل، فإن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصائده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، وبذل العبودية له سبحانه، كما قال سبحانه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42].

عباد الله! ويبقى حديث عن وسائل الشيطان للإغواء والإضلال، وطرق الوقاية منه سنتكلم عليها إن شاء الله في جمعة قادمة.

اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك ربنا أن يحضرونا، اللهم إنا نعوذ بك من همز الشيطان ونفخه ونفثه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.

اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واشف مرضى المسلمين، اللهم فك أسرى المأسورين، اللهم ردهم إلى أهليهم وبلادهم سالمين غانمين يا أرحم الراحمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ..