خطب ومحاضرات
المسارعة إلى الخير
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] وما بعدها من الآيات بعد غزوة أحد؛ فكانت تثبيتاً للمؤمنين، وتسلية لهم عما أصابهم من القرح، ووعداً لهم بما ينتظرهم من الفتح، وبياناً لحكم ما يحصل من قدر الله سبحانه وتعالى، وما يصيب المؤمنين من السراء والضراء، وكانت تقويماً لهذه المعركة بعد حصولها، ولو جاء التقويم سابقاً على الأوامر والنواهي لكان ذلك إرجاعاً إلى المعايير المادية الدنيوية؛ فلذلك افتتح التقويم بأمره سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالمسارعة إلى جنات النعيم؛ فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، والواو في هذه الآية هي في المصحف الكوفي والمكي، وأنتم تعلمون أن المصاحف التي كتبها عثمان رضي الله عنه، وأجمع عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ستة مصاحف، مصحف استأثر به عثمان لنفسه، ومصحف أخرجه لأهل المدينة، ومصحف أرسله إلى أهل مكة، ومصحف أرسله إلى أهل البصرة، ومصحف أرسله إلى أهل الكوفة، ومصحف أرسله إلى أهل الشام.
وهذه المصاحف الستة على أساسها كانت قراءات القرآن، وكل واحد منها يسمى "الإمام" أي: المصحف المتبوع الذي لا تحل مخالفته في الرسم، وكل قراءة خالفت رسمهاً جميعاً؛ فهي شاذة، وكل قراءة وافقت رسم واحد منها، وكانت صحيحة النقل بالتواتر، ووافقت وجهاً من الوجوه العربية في النحو أو الصرف؛ فهي قراءة متواترة.
والمصحف الكوفي والمكي جاء فيهما زوائد في الواوات، لا تغير حكماً، وهي مما نزل به جبريل من عند الله تعالى في العرضات التي عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك هذه الواو في قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، والواو التي في سورة المائدة في قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ[المائدة:53]، والواو التي في سورة التوبة في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ[التوبة:107]، ومثلها الفاء التي في سورة الشورى في قول الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[الشورى:30]، وكذلك إبدال الفاء واواً في سورة الشمس في قول الله تعالى: وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا[الشمس:15] بالإضافة إلى زيادة الضمير "هو" في قول الله تعالى: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[الحديد:24] في سورة الحديد؛ فهذه إذاً زوائد لا تغير المعنى، وهي مكملة لمعنى الآية بدونها؛ فالمعنى واحد على الإثبات وعلى الحذف.
وذلك حض من الله سبحانه وتعالى إلى المبادرة إلى مغفرته ورضوانه وجناته؛ فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، فهذا أمر للمؤمنين بالمسارعة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى ومغفرته وجناته، وإنما تكون المسارعة إلى ذلك بالتضحية والبذل في سبيل الله، وهو يرمز إلى أن الذين استشهدوا في سبيل الله قد تعجلوا إلى مرضات الله ومغفرته؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين )؛ فأولئك الذين استشهدوا يوم أحد قد صدقوا الله ما عاهدوه عليه؛ فلذلك سارعوا إلى مغفرته ورضوانه وجناته؛ ولهذا أنزل الله فيهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ[آل عمران:169-171]. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( ذهب إلى أهل أحد قبل موته بثمانية أيام، فصلى عليهم، وقال: إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا الله ما عاهدوه عليه ).
المسارعة بطلب الشهادة في سبيل الله والبذل في سبيله
وهذا حض لعموم المؤمنين على المسارعة إلى رضوان الله، سواءً كان ذلك بطلب الشهادة في سبيله، أو بالبذل في سبيله، وسواءً كان ذلك البذل بدنياً؛ فالمسارعة إلى رضوان الله ومغفرته بعمل الأبدان، منها الذكر، ومنها قراءة القرآن، ومنها الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من الطاعات البدنية.
والمسارعة إلى رضوانه بالمال، منها الزكاة والصدقة. والمسارعة إلى رضوانه بما يتعلق بالنفس، منها كظم الغيض والعفو عن الناس، فكل ذلك من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله. والإنسان إذا أخلص فيها، وتقرب بها إلى الله تعالى فإن الله يتقبلها منه إذا كان من المتقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).
وكذلك هذا يدل على أن المتقرب إلى الله بأية طاعة؛ إذا كان مخلصاً لله، ووافق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقربه، ويرفع قدره ومنزلته؛ وبذلك يكون قد سارع إلى الطاعات؛ لأن الذي قرب قد طويت له المسافات، واختصرت له الأبعاد البعيدة؛ ولذلك فإن أهل الدنيا في انشغالاتهم وأمورهم إذا غفلوا عن الله تعالى فذلك إقصاء لهم، وحجب لهم عن حضرة القدس، وإذا أقبلوا على الله سبحانه وتعالى، وتخلصوا من الشواغل التي تشغلهم عن طاعته، وتنزهوا عن معصيته؛ فإن ذلك أيضاً تقريب لهم إلى حضرة القدس، وبهذا تصح محاكاة الإنسان للملائكة؛ فالملائكة عباد مكرمون؛ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، لا يشغلهم أكل ولا شرب ولا نوم ولا تشه، ولا انشغال بأمور الدنيا عن عبادة الله وطاعته. والإنسان مكلف مثلهم، وهو ينافسهم في التقرب إلى الله تعالى؛ فإذا كان الحال كذلك، وهو يعلم أنه يشغل في كثير من أوقاته في أمور هي ضرورية لحياته، ولا يستطيع الخلاص منها، كما يجب عليه من سد الرمق بالمأكل والمشرب، وكما يجب عليه لراحة بدنه من السبات والنوم ونحو ذلك، فإذا عرف ذلك فعليه على الأقل أن يحسن في الساعات التي يقبل فيها على الله، ومنها وقت الصلاة؛ فإن الإنسان عند إحرامه يتخلص من الدنيا فينبذها وراء ظهره بيديه، ويعلن تكبير الله تعالى؛ ليقتضي ذلك منه الانشغال بالإقبال على الله ومناجاته عن كل ما دون ذلك.
ومن هنا فإن الفاتحة - وهي مقدمة الصلاة - تضمنت التفاتاً بلاغياً عجيباً؛ فأولها خطاب بصيغة الاسم الظاهر الذي مقتضاه البعد، ثم بعد ذلك جاء الالتفات إلى الضمير الذي مقتضاه القرب؛ فقال الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:2-4]، ثم بعد هذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فالاسم الظاهر مقامه الغيبة؛ فإذا قلت: جاء فلان، وقال فلان كذا؛ ارتسم في الذهن أنه غائب عن المجلس، أما إذا قلت: أنت كذا، وجلست وأتيت؛ فمن المعلوم أنه حاضر، والله تعالى شاهد لا يغيب، لكن الإنسان يغيب عن الحضرة ويحضر؛ فحضوره هو إقباله على الله، وغيبته هو انقطاعه عن حضور المناجاة، واستشعار الأدب معه سبحانه وتعالى؛ فمن هنا قال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]؛ فتهيأت النفس بحمد الله تعالى للثناء عليه؛ فقال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3]، فتهيأت النفس بعد الثناء عليه بما هو أهله كذلك بإخلاص الملك له؛ فقال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، وبعد ذلك هذه الصفات التي وصلت إلى القيامة، وخرجت من الدنيا تخلص الإنسان من عبودية الدنيا ورقها فوصل إلى مقام المناجاة المباشرة؛ فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، ولهذا قال السيوطي رحمه الله في ألفية البلاغة:
فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجيء بالسمة المبجلة
فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل
فيوجب الإقبال والخطاب بغاية الخضوع والتطلاب
للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد
فهذا النوع هو أبلغ الالتفات؛ ولهذا فإن قرب الإنسان وبعده صفة من صفات الإنسان، وليست صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؛ فالله تعالى حاضر لا يغيب؛ وهو الشاهد الذي لا تخفي عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ يقول تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ[الواقعة:85]؛ فلذلك لا يمكن أن يشغله شأن عن شأن، وإنما يشتغل الإنسان عنه فيحجب بقدر انشغاله، ويخلص له فيقرب بقدر خلوصه لله تعالى.
منافسة الآخرين في المسارعة إلى رضوان الله
ولهذا فإن المسارعة إلى رضوان الله تقتضي منافسة الآخرين في ذلك، وأول من ينبغي أن ينافسه الإنسان أهل عصره والمساوون له؛ فينبغي له أن يحاول التبريز عليهم، وأن يكون من الذين يسبقون إلى رضوان الله؛ فإن موسى بن عمران عليه السلام، وقد اصطفاه الله برسالاته وبكلامه، واجتباه بأن اتخذه كليماً من خلقه لما واعده الله تعالى ثلاثين ليلة ليعطيه التوراة، وقد كتبها له بيمينه في الألواح، اختار سبعين رجلاً من قومه ليشهدوا عليها، وهم عدول بني إسرائيل وخيرتهم، فلما استبطأ موسى سيرهم، وكان موسى أقوى منهم عجل فزاده الله تعالى في المدة عشرة أيام زيادة على ذلك، قال سبحانه: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[الأعراف:142]، حتى حضر أولئك القوم. ولما أتاه لامه على العجلة فقال: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:83-84].
ولهذا فإن على المؤمن أن ينافس أهل زمانه؛ فإذا رأى فيهم إقبالاً على الله سبحانه وتعالى حرص ألا يكون في الكيول وفي مؤخرة الركب، وعلى أن يكون من المقدمين في ذلك الزمان الذي هو فيه، فهم شهود الله تعالى وشهداؤه على العصر الذي هم فيه، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان والعلم والعمل والصبر، وهذه هي مقامات اليقين التي ينافس فيها الإنسان الآخرين في التقرب إلى الله تعالى؛ فما لم يتعلم الإنسان مراد الله من عباده لا يمكن أن يتقرب إليه، وإذا تعلم مراد الله من عباده لا بد أن يبادر للعمل به؛ لأن الحجة قد قامت عليه بما تعلم من العلم، ثم بعد ذلك إذا تعلم مراد الله وعمل به في خاصة نفسه؛ فمن مراد الله أن يدعو إلى ما تعلمه وعمل به، وإذا لم يفعل كان غاشاً خائناً لعباد الله.
ثم بعد ذلك لا بد أن يصبر على طريق الحق الذي عرفه وعمل به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عرفت؛ فالزم )، وهذا يقتضي من الإنسان الاستقامة على سلوك طريق الحق، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ[هود:112]، وهذا يقتضي لزوم طريق الحق والاستقامة عليه حتى يلقى الله تعالى، وبذلك يذوق الإنسان طعم المجاهدة؛ لأن النفس متنقلة بطبعها؛ لأنها خلقت على أطوار، وقد تنقلت في أطباق، كما قال الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، ويمر بها الغنى والفقر، والصحة والمرض، والفراغ والانشغال، وقوة اللذة وضعفها، وقوة الداعية إلى الطاعة وضعفها كذلك، والإقبال والإدبار، والشرة والكسل، كل ذلك من العوارض التي تعتري النفوس، وإذا كان الحال كذلك؛ فإن الإنسان يحتاج إلى مجاهدتها وأطرها على الحق.
المجاهدة للوصول للخشوع في الصلاة
ومن هنا ذكرت لكم فيما مضى أن الإنسان يذوق طعم المجاهدة في محاولته لأن يكون من الخاشعين، فإنه إذا أراد أن يكون من الخاشعين في الصلاة؛ فلا يتوفر له ذلك إلا بالمجاهدة في مقامات متنوعة متعددة؛ يجاهد نفسه أولاً على ترك الملهيات والمشغلات، ومن هنا يترك التثاؤب بالكلية؛ فأول مقامات الخشوع في الصلاة ألا يتثاءب الإنسان في صلاته، فإذا كان لا يمكن أن يتثاءب في الصلاة، لا فرضاً ولا نفلاً؛ فقد وصل إلى المقام الأول من مقامات الخشوع؛ لأن التثاؤب لا يكون إلا من الشيطان، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد هذا أيضاً منع نفسه من الالتفات في الصلاة مطلقاً، سواءً كان ذلك الالتفات عينياً أو قلبياً؛ فالالتفات قسمان: التفات بالعين، ومنه النظر إلى خياطة ثيابه أو ألوان حصيره وفراشه، أو النظر إلى مكان سجوده، أو غير ذلك؛ فهذا هو من النظر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي )، فلذلك هذا مقام من مقامات الخاشعين، يقطع فيه الإنسان نفسه عن الالتفات والنظر؛ لأنه مشغول بالنظر إلى الله، ( ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت! أنا خير مما التفت إليه ).
وكذلك التفات القلب؛ فهو أيضاً التفات آخر وانشغال، والإنسان إنما يلتفت قلبه إلى ما يهمه ويفكر فيه؛ ولذلك يتذكر القصص التي أثرت في حياته، أو الكلام الذي أعجبه، أو غير ذلك من الأمور، وكل هذا من لمة الشيطان فإنه يأتيه فيركب رأسه فلا يزال يقول: اذكر يوم كذا.. اذكر ليلة كذا.. اذكر فعل كذا، حتى يلهيه عن صلاته بتلك الأمور التي لا يمكن أن يصلحها لأنه منشغل بالصلاة، ولا يمكن أن يصلح الصلاة مع انشغاله بتلك الأمور.
ولهذا يحتاج الإنسان إلى التخلص من هذا الالتفات القلبي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( سئل عن الالتفات فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم )، اختلاس أي: سرقة، ولذلك فحظ الشيطان من الصلاة أمران، أحدهما غصب، والآخر اختلاس، فالاختلاس يقع بالالتفات، والغصب يقع بتخفيف الصلاة والاختصار فيها، فالذين ينقرون الصلاة نقراً، ويبادرون فيها مبادرة تخل بها، لا يقيمون ركوعها ولا أركانها ولا خشوعها ولا قراءتها ولا تسبيحها ولا تشهدها، هؤلاء قد اغتصبها الشيطان منهم فاقتلعها منهم بالقوة، وكثير منهم يزعمون أنهم ينافسون الشيطان في صلاتهم، وأنهم يريدون التعجيل بها عن الشيطان حتى لا يشغلهم، والواقع أنه قد اغتصبها منهم بكاملها، فحظه إما أن يناله بالاغتصاب والقهر وإما أن يناله بالسرقة والاختلاس.
ثم بعد هذا يأتي مقام آخر، وهو مقام استشعار الخوف بمخاطبة ذي الجلال والإكرام؛ فأنت تخاطبه بالثناء عليه بما هو أهله، وتخاطبه كذلك بحوائجك فترفعها بين يديه، وهذا مقتض منك لكثير من الأدب معه، وهو الذي يقتضي قشعريرة الجسد، ويقتضي فيضان العين، ويقتضي الارتجاف في الأعضاء، وكل ذلك من مظاهر الخشوع في مقامه الثالث، وهو أعلى مقامات الخشوع، وهذا المقام لا يناله الإنسان إلا بمجاهدة شاقة؛ فالنفس لا بد من حصرها، فيحصرها الإنسان كأنه يحصرها في مبنى قائم، كأنما يحصرها في هذا المسجد، فهي تريد الخروج من الباب؛ فإن وجدته مغلقاً ذهبت إلى النافذة، فإن وجدت النافذة مغلقة دارت وهي تريد الخروج؛ فيحاول إمساكها وردها حتى تستقيم، وسيكون ذلك شاقاً في بداية أمره ثم يسهل عليه فيما بعد، ويكون لا شعورياً لديه.
ولذلك فهذا الذي كنا نذكره من الخشوع في الصلاة نظيره الخشوع في الدرس؛ فالإنسان يحضر فيسمع بعض الكلام ويغيب عنه بعض؛ فبعض ما يقال قد يكون غائباً عنه، ويكون أفيد له أو سمعه مما حضره بقلبه؛ ولهذا نحتاج في الدرس إلى بعض المنبهات مثل الالتفاتة والنظر، ومثل رفع نبرة الصوت وخفضها، وغير ذلك من الأساليب التي هي مشوقة ترد الناس إلى الدرس؛ لأن هذا من باب المجاهدة.
ومثل ذلك في الذكر؛ فذكر الإنسان لربه إذا اشتغل بعده فقط، مثلاً أخذ السبحة، أو بالأصابع فجعل يعد فانشغل بالعد، فإنه لا يكتب له من الذكر إلا ذكر اللسان فقط، أما القلب فهو غافل؛ لأنه يتعلق بالعد فقط؛ ولهذا يحتاج إلى رد نفسه إلى معنى الذكر، ما معنى: سبحان الله وأنت تقولها؟ ما معنى: الله أكبر وأنت تقولها؟ وأنت تعلم أن العبد إذا تلفظ بها ملأت ما بين السماء والأرض، وأن: ( سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وأن: ( سبحان الله تملأ الميزان )، وهذه أمور عظيمة جداً، كبيرة جداً. فهناك حسنة واحدة تساوي السماوات والأرض، وحسنات الإنسان التي هي من هذا القبيل يضاعفها الله سبحانه وتعالى حتى لا يخطر على باله عدد مضاعفتها؛ ولذلك فإن كفة الميزان يوم القيامة هي أكبر من السماوات والأرضين، ولهذا قال: ( يا ابن آدم! لو أتيتني وقد بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لغفرت لك ولا أبالي )، وعنان السماء هو المطر، وذنوب البشر كثيراً ما تبلغ عنان السماء فتحول دون المطر؛ فما يقع من احتباس المطر، واحتباس الخيرات عن الأرض، ما سببه إلا ذنوب البشر، فهي مظلات تحبس عنهم المطر والخير.
والغريب في الأمر أن كثيراً من الناس لا يستشعر هذا! فذنوبه تعطل حسناته عن أن تصل إلى الله تعالى، لا ترفع إلى ربه بسبب شحناء بينه وبين قريب له أو بعيد عنه، أو بسبب تباغض بينه وبين جاره؛ فيقال: ( أرجوا هذين حتى يفيئا )، وفي رواية: ( أرجئوا هذين حتى يصطلحا )؛ فترجأ أعماله فلا ترفع إلى الله يوم الإثنين ويوم الخميس، وفيهما ترفع الأعمال إلى الله تعالى، نسأل الله أن يتقبل أعمالنا، وأن يبارك لنا فيها.
فالذي لا يشعر بخطر سيئاته لا يمكن أن يصل إلى مقام المسارعة إلى الطاعات؛ لأن السيئات تكبله وتقيده؛ فهو يسير مع الذين ينطلقون انطلاق السهم في الهواء وهو مكبل لا يستطيع الحرجة، فما ظنكم في منافسة هذا؟! فأصحاب الذنوب مكبلون بكبل الذنوب، لا يستطيعون أن يقدموا رجلاً ولا أن يؤخروها، وأصحاب الطاعة المقبلون على الله تعالى ينطلقون كما تنطلق السهام.. أو كما ينطلق الرصاص في الهواء الطلق، لا يحجزهم شيء، فالفرق شاسع بين هؤلاء في سيرهم؛ ولذلك قال أحد السلف:
لا تعرضن لذكرهم مع ذكرنا ليس السريع إذا مشى كالأعرج
التخلي عن المعصية من آثار المسارعة إلى الطاعات
فيحتاج الإنسان إذاً إلى أن يتخلى أولاً عن المعاصي بالكلية، وأن يعلم أن أبلغ طرد له عن باب الملك الديان هو أن يرتضيه الله تعالى للفساد في الأرض، وأن يرتضيه لأن يكون من أهل الذنوب؛ ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: إن أعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يستعمله في المعصية، وأعظم منها طرده عن بابه، وأعظم من ذلك ألا يشعر به فأعظم العقوبة هو أن يستغله في المعصية، أن يوفر له كثيراً من الطاقات، يعمره عمراً طويلاً، يرزقه سمعاً وبصراً وعقلاً وجوارح، لكن يكتب الله عليها ألا تستغل إلا في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!
ولهذا فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشرهم من طال عمره وساء عمله )، فالذي يطول عمره ويسوء عمله هو من أنعم الله عليه بنعم كثيرة فاستغلها في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!
ثم شر من هذا وأعظم منه طرداً الذي يحجب عن باب الملك الديان؛ فلا يتوب، ولا يستغفر أبداً، ولا يستقيل عثرته، فهو مشغول في المعصية، ومع ذلك لا يحس أن ما هو فيه شر، بل يظن أنه من خير الناس، وأنه من أفضل الناس، ولا يستشعر أنه قد طرده الله ورماه في الحضيض الأسفل حين شغل بالمعصية ولم يكن له شغل بالطاعة، وشر منه الذي لا يستشعر هذا الطرد؛ فلا يحس أنه مطرود أصلاً.
ولهذا فإن من أعظم ما شاهدته اليوم من آثار العلمانية، أن كثيراً من الذين يبتلون بتذوقها، والاشتغال بها مشغولون عن الله سبحانه وتعالى وعن طاعته، ومع ذلك يظنون أنهم على الطريق الأمثل، وأنهم أهل الاستقامة وأهل الخير، وأنهم في المقام الأعلى، ويعدون أنفسهم نخباً على المجتمعات، فهم يسمون أنفسهم بالنخبة، وهذه النخبة التي ليس لها شغل إلا معصية الله في الأرض! هل هي نخبة؟! لا يمكن أن يكون ذلك، من لا يشتغل إلا في معصية الله لا يمكن أن يكون منتخباً ولا منقىً ولا مصفى، فنخبة الخلق هم الرسل الذين عصمهم الله تعالى واختارهم لطاعته، وبعدهم أولياء الله الذين حفظهم الله من الوقوع في المعصية، أو من الاستمرار عليها، وبعدهم الذين وفقهم الله للتوبة من عصاة المؤمنين، فلذلك لا يمكن أن يكون من هو مشتغل بالمعصية ليله ونهاره من النخبة.
لذلك فإن المسارعة إلى الخير تقتضي أمرين، أحدهما نفسي، وهو ما ذكرناه من التخلي والتحلي في خاصة نفس الإنسان، أي: أن يحرص على التخلي عن معصية الله وعن آثارها، ويحرص كذلك على التحلي بطاعة الله تعالى، وهو بذلك يلتمس آثار الطاعة؛ فالمعصية آثارها يدركها الإنسان إدراكاً جلياً بمجرد الوقوع فيها مالم يبادر إلى التوبة؛ فسيجد ظلمة في الوجه، واسوداداً في القلب، وبغضاً في الناس؛ كما قال ابن عباس ، وهذه آثار واضحة للمعصية، فصاحب المعصية ذليل، وهو مكروه لدى الناس، وفي وجهه ظلمة وانطماس، وفي قلبه كذلك ظلمة، لا يستطيع أن يتدبر القرآن، ولو تدبره لما فهمه؛ قال سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، نسأل الله السلامة والعافية!
والطاعة آثارها على عكس هذه، لكن الإنسان يلتمسها لأنه لا يوقن بقبول طاعته؛ فهو يعمل الطاعة، وقلبه مشفق كل الإشفاق أن يردها الله عليه وألا يتقبلها منه، يأتي إلى الدرس من مكان بعيد، ويتكلف، ويعطل أعماله وهو يعلم أن هذه طاعة لله سبحانه وتعالى، لكنه يخاف ألا يتقبلها الله منه؛ فهو مشفق غاية الإشفاق؛ ( ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60]، قالت: أهو يكذب ويسرق وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويخاف الله، يخاف ألا يتقبل الله منه )، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61]، فهؤلاء هم المسارعون في الخيرات، وهم السابقون فيها.
وهناك مقامان لا بد من استحضارهما في المسارعة:
أحدهما: ما يتعلق بالنفس لقصد السبق، والثاني: مسابقة الآخرين، فهما أمران لا بد منهما، وقد انتظمتهما آية (المؤمنون)، وهي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61]، يسارعون في الخيرات من عند أنفسهم، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61] أي: يسابقون الآخرين؛ فيسبقونهم إليها. ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه كان من هؤلاء المسارعين السابقين إلى الخيرات؛ فقد قال عمر بن الخطاب : (سابقت أبا بكر ثلاثاً فسبقني، فأقسمت ألا أسابقه بعد) فـعمر بن الخطاب سابق أبا بكر في الإنفاق؛ فجاء بنصف ماله حتى إنه ليأتي بإحدى النعلين ويترك الأخرى، قاسم الله ماله، فجاء بشطر ماله صدقة في سبيل الله لتجهيز جيش المسلمين، فجاء أبو بكر بماله كله؛ فوجده قد سبقه؛ فلذلك أقسم عمر ألا يسابقه؛ لأنه عرف أن الفضل لأهله.
مشروعية المسابقة في الخير
ولذلك فإن المسابقة في حد ذاتها مشروعة، وقد قال الله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وهذا التنافس مشروع، وقد لا يطلع الله عليه الناس في الظاهر، فيكون الإنسان في باطنه يسابق آخرين ولو لم يكونوا من أهل زمانه.
مثلاً: رجل قرأ سير السابقين فأراد منافستهم ومسابقتهم؛ ولهذا فإن المهدي وهو الخليفة الثالث من خلفاء بني العباس، فقبله أبو العباس السفاح و المنصور ، و المهدي هو الثالث، قال: قرأت سيرة بني أمية فوجدت فيهم عمر بن عبد العزيز ، فغارت نفسي ألا يكون في آل محمد صلى الله عليه وسلم مثله، فقرأ سيرة عمر بن عبد العزيز وأراد منافسته حذو النعل بالنعل، وحرص على أن ينافس عمر بن عبد العزيز ، وانظروا إلى الهمة العالية! لم يحرص على منافسة معاصريه ولا على منافسة أبيه وأخيه، وإنما حرص على منافسة عمر بن عبد العزيز .
ولهذا فإن مما يرفع همم الشباب أن يتذكروا أفذاذ هذه الأمة، والسابقين فيها، والذين صنعوا تاريخها، فيحرص كل فرد منهم على أن يسد لهذه الأمة مسد فرد من أولئك؛ فرجال هذه الأمة، والمضحون في سبيل الله، والباذلون لأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم في سبيل الله، كل يوم يتعجلون إلى الدار الآخرة، كل يوم يقتلون، وقد سمعتم اليوم عدد القتلى الذين قتلوا في الفلوجة، والذين قتلوا في الرمادي وغيرها؛ فأولئك كان بالإمكان أن يهربوا، وأن يختفوا كما اختفى كثير ممن سواهم، ولكنهم أرادوا المنافسة والمسارعة فتقدموا تحت ضرب إف ستة عشر، وإف خمسة عشر، وغيرها، ولم يشغلهم تنافس أهل الدنيا فيها، وتقرب الناس إلى أمريكا، وطلبهم لما لديها من حطام الدنيا عن أن يتقربوا إلى الملك الديان الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.
فلذلك لا شك أن هذه الأمة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى مضحين، ولا يتم ذلك إلا بمنافسة السابقين الذين سبقوا وتقدموا إلى الله تعالى؛ ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى لدة لي من الأنصار-واللدة: المعاصر، أي: الذي ولد معه في وقت واحد فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبضه الله إليه، وإن علمه في أصحابه؛ فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلنا نسد لأمته يوماً مسداً تحتاج إليه، فقال: دعنا نلعب، ومتى يحتاج إلينا؟! قال: فذهبت وتركته ) ذهب ابن عباس وتركه لأنه يفكر تفكيراً كبيراً.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.
فلهذا كان ابن عباس رضي الله عنه من ذوي الهمم العالية ولم يفكر فيما يفكر فيه لداته وقرناؤه من اللعب؛ ولهذا قال فيه الشاعر:
بلغت لعشر مضت من سنيك كما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا
وقد وصفت الخنساء بنت عمرو بن الشريد رضي الله عنها أخاها صخراً بقولها:
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لـصخر الندى
ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدى مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى
ولذلك فهذه المسابقة إيجابية في حياة الإنسان، ومقتضية منه لأن يحرص على أن يكون من السابقين، وألا يرضى بالتأخر؛ ولذلك بايع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا دجانة ، ومنزلة أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة؛ فقد كان يوزن بألف رجل، وقد أخرج يوم أحد عصابة الموت لما رأى نفراً من بني عمه أثر فيهم المنافقون فرجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وجه العدو، ( أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فعقدها على وجهه، وخرج يتبختر بين الصفين، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموطن )، فتقدم وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
ضرب غلام ماجد بهلولي
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم في ذكره لأهل مؤتة ذكر تقدم زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما لما بذلا من التضحية ولحوق ابن رواحة بهما؛ فـزيد بن حارثة رضي الله عنه هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عقد له ذلك اللواء عرف أنه أمانة عظيمة، فتقدم بالحق الذي عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء عليه، ولما ذكر له بعض أصحابه أن جيش المشركين أضعاف جيش المسلمين، وأنهم لا يستطيعون مواجهتهم بعددهم ولا بعدتهم لم يبال بذلك وقال: أما أنا فمنطلق، فمن أراد الجنة فليلحق بي وتقدم بلوائه. ثم لما قتل أخذ جعفر بن أبي طالب اللواء فتقدم فقطعت يمينه، فأخذه بشماله، فتقدم فقطعت شماله، ثم أمسكه بذقنه حتى قتل شهيداً في سبيل الله.
ولهذا فإن التضحيات الجسيمة التي قام بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوها هي في الواقع تاريخ هذه الأمة وهي ما يمكن أن تفخر به هذه الأمة، وتقدمه نموذجاً للأمم، فالذي لا تستطيع الأمم أن تفاخر بمثله، ولا أن تقدم له نموذجاً إنما هو تلك التضحيات الجسام التي بذلها سلف هذه الأمة الصالح، في الحديث: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
إن أولئك الذين بذلوا هذه التضحيات الكبيرة قد سارعوا إلى مغفرة الله تعالى فسبقوا، وصعب أن يلحق بهم من سواهم كما قال عمر رضي الله عنه لـأبي بكر : (أتعبت من يأتي بعدك) فـأبو بكر رضي الله عنه همته لا يمثلها إلا حديث واحد ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة الثمانية، وأنها هي أعمال البر والطاعة؛ ففيها: ( باب الصلاة، وباب الصدقة وباب اسمه "الريان" لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد؛ فقال أبو بكر : يا رسول الله! ما على من دعي من جميعها من بأس؟.. )، أي: هل يمكن أن يدعى أحد من جميع أبوابها؟ ( قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم ). لم يرض أبو بكر أن يكون من الذين يدعون من باب واحد من أبواب الجنة، ولا من اثنين ولا من ثلاثة، ولا من أربعة حتى يدعى من جميع أبوابها الثمانية، فهو يريد المشاركة في كل أوجه البر وفي كل طاعة؛ ليتقرب بها إلى الله حتى يكون فعلاً يستحق السبق على من سواه.
وهذه المسارعة التي أمر الله بها لا تعدو عاملاً زمنياً؛ لأن الإنسان يعلم أن مدة بقائه في الدنيا - وهي مدة تكليفه - محصورة يسيرة، ما عساك أن تعيش في هذه الحياة الدنيا؟! هل تؤمل ما يؤمله اليهود عليهم لعائن الله؛ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ[البقرة:96]، فأنت لا تريد ذلك ولا تحبه، ولا يحب أحد أن يصل إلى أرذل العمر فيكون فاقداً للعقل والجوارح لا يستطيع حركة، يقلب ويحمل يميناً وشمالاً، إنما يحب ذلك اليهود وحدهم من الخلائق؛ لأنهم فطروا على محبة الحياة، ولو كانت حياة الذلة والمسكنة فهم يرضون بذلك؛ قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[البقرة:96].
فلذلك ليعلم الإنسان أن مدة عمره يسيرة محدودة، وبالأخص إذا كان قد خاض تجارب في هذه الدنيا وسافر ولقي الناس، أو مر به سنوات وسنوات، أو تغير لون شعره فخالطه بياض بعد سواد، أو انتقل بياضاً بالكلية.
يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألواناً
سوداء حالكة وسحق مفوف وأجد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
فإذا أدرك الإنسان هذا، وأدرك أنه منتقل لا محالة من هذه الدار، وأن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستتحقق لا محالة رضي أم كره، تسبب فيها أو لم يتسبب لا بد أن يموت.
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
الحرص على المسارعة قبل فوات الأوان
فالموت لا بد آت؛ فإذا عرف الإنسان ذلك أدرك قيمة الزمن، وسارع إلى الطاعة قبل أن يفوت الأوان، والمغرور الذي يغره الشيطان، ويغتر هو بنفسه، هو الذي يسوف ويطيل الأمل، ويقول: أنا الآن شاب؛ فدعني أتمتع من هذه الحياة فإذا تقدم بي العمر فحينئذ أتوب وأنيب، وما يدريك لعلك لا يتقدم بك العمر؛ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، ألست ترى كل يوم وفداً ينتقل إلى الدار الآخرة، منهم من هو أسن منك، ومنهم من هو دونك، ومن هو معاصر لك، ترى ذلك وهو حجة قائمة عليك، وكفى بالموت واعظاً.
ثم بعد هذا لا شك أنك لو قدر أنك عشت عمراً طويلاً فبلغت سبعين سنة أنك ستضعف عن المعصية فعلاً، ولن تكون الدواعي إليها متوفرة لديك، لم تعد الدواعي متوفرة للمعصية بعد أن يبلغ الإنسان سبعين سنة، لكن في نفس الوقت أيضاً ضعفت نفسه عن الطاعة؛ فلم تعد الدواعي متوفرة أيضاً للطاعة، فما تضعف عنه من المعاصي في ذلك العمر في مقابله ما تضعف عنه من الطاعات.
فلهذا لا بد أن تبادر، البدار.. البدار! لاستغلال شبابك قبل هرمك، ولاستغلال حياتك قبل موتك، ولاستغلال فراغك قبل شغلك، ولاستغلال غناك قبل فقرك، فكلها صفات لا بد أن تأتي، والحال الذي أنت فيه ينظر إلى الحال الذي بعده، فإذا كنت الآن في الشباب فهو ينظر إلى أحد حالين: إما الموت وإما الهرم، وإذا كنت في الصحة فإن حالك ينظر إلى المرض أمامك، وإذا كنت في الغنى فهو ينظر إلى الفقر، وهكذا. وقد قال الشيخ محمد عالي رحمه الله:
القبض والبسط في الأكوان شيئان على مراد الفتى قد لا يجيئان
يتتابعان لكل منهما أجل هذا بآن وهذا بعد في آن
إن يظهر البسط في آن على أحد فآنه المقتفيه مظهر ثان
والعسر لا يغلب اليسرين منفرداً فالعسر فرد وإن اليسر يسران
لا تجزعن ولا تفرح لحادثة فإن دارك دار ذات ألوان
وراع في كل حال ما يناسبها ولا تشح بفان أيها الفاني
لذلك لا بد أن نحرص جميعاً على استغلال هذه الأوقات التي تمضي، وأن نعلم أن الفرص فيها قد لا تتكرر، فكثير من الناس اليوم لا يستشعر أننا في وقت هو مما قبل الفتح؛ فهذا الدين الآن لم يفتح له في وقتنا، بل أمم الشرك والكفر هي الغالبة على المسلمين، وهي المتحكمة في مصائر الشعوب، وهي الناهبة لخيراتها، وهي التي تتحكم في سياساتها وقوانينها، وهذا لا يناقش فيه جاهل أو مكابر، وإذا كان الحال كذلك فإن وقتنا هذا هو وقت ما قبل الفتح، وهذا الوقت الذي قبل الفتح، الأجر فيه أعظم وأكبر من الأجر فيما لو كان الفتح.
فلو حصل الفتح فسقطت أمريكا مثلاً كما سقط الاتحاد السوفيتي، وقامت حضارة إسلامية اتحد فيها المسلمون، وظهرت قوتهم، وتآلفت قلوبهم على الحق، وأصبحوا قوة ضاربة لا يمكن أن يقف في وجهها شيء؛ حينئذ سيكون الأجر أقل؛ لأن خيمة الإسلام الآن ساقطة، وإذا رفعت فسيستظل بظلالها أهل الوداعة والراحة، والذين يشاركون في بنائها لا يمكن أن يستووا عند الله مع الذين يجلسون في ظلها بعد أن تقوم؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى[الحديد:10].
فلا بد أن يبادر الإنسان الآن لأن يكون من المشاركين في وقود هذا القطار على الأقل؛ فالقطار جاهز حاصل، وهو هذا الدين وأهله، وهو منطلق لا محالة، يعزه الله بعز عزيز أو بذل ذليل، وأنت بالخيار؛ إن شئت شاركت فكنت من المعزين لله فيعزهم الله، وإن شئت تركت فلا تضر إلا نفس
وهذا حض لعموم المؤمنين على المسارعة إلى رضوان الله، سواءً كان ذلك بطلب الشهادة في سبيله، أو بالبذل في سبيله، وسواءً كان ذلك البذل بدنياً؛ فالمسارعة إلى رضوان الله ومغفرته بعمل الأبدان، منها الذكر، ومنها قراءة القرآن، ومنها الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من الطاعات البدنية.
والمسارعة إلى رضوانه بالمال، منها الزكاة والصدقة. والمسارعة إلى رضوانه بما يتعلق بالنفس، منها كظم الغيض والعفو عن الناس، فكل ذلك من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله. والإنسان إذا أخلص فيها، وتقرب بها إلى الله تعالى فإن الله يتقبلها منه إذا كان من المتقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).
وكذلك هذا يدل على أن المتقرب إلى الله بأية طاعة؛ إذا كان مخلصاً لله، ووافق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقربه، ويرفع قدره ومنزلته؛ وبذلك يكون قد سارع إلى الطاعات؛ لأن الذي قرب قد طويت له المسافات، واختصرت له الأبعاد البعيدة؛ ولذلك فإن أهل الدنيا في انشغالاتهم وأمورهم إذا غفلوا عن الله تعالى فذلك إقصاء لهم، وحجب لهم عن حضرة القدس، وإذا أقبلوا على الله سبحانه وتعالى، وتخلصوا من الشواغل التي تشغلهم عن طاعته، وتنزهوا عن معصيته؛ فإن ذلك أيضاً تقريب لهم إلى حضرة القدس، وبهذا تصح محاكاة الإنسان للملائكة؛ فالملائكة عباد مكرمون؛ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، لا يشغلهم أكل ولا شرب ولا نوم ولا تشه، ولا انشغال بأمور الدنيا عن عبادة الله وطاعته. والإنسان مكلف مثلهم، وهو ينافسهم في التقرب إلى الله تعالى؛ فإذا كان الحال كذلك، وهو يعلم أنه يشغل في كثير من أوقاته في أمور هي ضرورية لحياته، ولا يستطيع الخلاص منها، كما يجب عليه من سد الرمق بالمأكل والمشرب، وكما يجب عليه لراحة بدنه من السبات والنوم ونحو ذلك، فإذا عرف ذلك فعليه على الأقل أن يحسن في الساعات التي يقبل فيها على الله، ومنها وقت الصلاة؛ فإن الإنسان عند إحرامه يتخلص من الدنيا فينبذها وراء ظهره بيديه، ويعلن تكبير الله تعالى؛ ليقتضي ذلك منه الانشغال بالإقبال على الله ومناجاته عن كل ما دون ذلك.
ومن هنا فإن الفاتحة - وهي مقدمة الصلاة - تضمنت التفاتاً بلاغياً عجيباً؛ فأولها خطاب بصيغة الاسم الظاهر الذي مقتضاه البعد، ثم بعد ذلك جاء الالتفات إلى الضمير الذي مقتضاه القرب؛ فقال الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:2-4]، ثم بعد هذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فالاسم الظاهر مقامه الغيبة؛ فإذا قلت: جاء فلان، وقال فلان كذا؛ ارتسم في الذهن أنه غائب عن المجلس، أما إذا قلت: أنت كذا، وجلست وأتيت؛ فمن المعلوم أنه حاضر، والله تعالى شاهد لا يغيب، لكن الإنسان يغيب عن الحضرة ويحضر؛ فحضوره هو إقباله على الله، وغيبته هو انقطاعه عن حضور المناجاة، واستشعار الأدب معه سبحانه وتعالى؛ فمن هنا قال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]؛ فتهيأت النفس بحمد الله تعالى للثناء عليه؛ فقال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3]، فتهيأت النفس بعد الثناء عليه بما هو أهله كذلك بإخلاص الملك له؛ فقال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، وبعد ذلك هذه الصفات التي وصلت إلى القيامة، وخرجت من الدنيا تخلص الإنسان من عبودية الدنيا ورقها فوصل إلى مقام المناجاة المباشرة؛ فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، ولهذا قال السيوطي رحمه الله في ألفية البلاغة:
فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجيء بالسمة المبجلة
فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل
فيوجب الإقبال والخطاب بغاية الخضوع والتطلاب
للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد
فهذا النوع هو أبلغ الالتفات؛ ولهذا فإن قرب الإنسان وبعده صفة من صفات الإنسان، وليست صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؛ فالله تعالى حاضر لا يغيب؛ وهو الشاهد الذي لا تخفي عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ يقول تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ[الواقعة:85]؛ فلذلك لا يمكن أن يشغله شأن عن شأن، وإنما يشتغل الإنسان عنه فيحجب بقدر انشغاله، ويخلص له فيقرب بقدر خلوصه لله تعالى.
ولهذا فإن المسارعة إلى رضوان الله تقتضي منافسة الآخرين في ذلك، وأول من ينبغي أن ينافسه الإنسان أهل عصره والمساوون له؛ فينبغي له أن يحاول التبريز عليهم، وأن يكون من الذين يسبقون إلى رضوان الله؛ فإن موسى بن عمران عليه السلام، وقد اصطفاه الله برسالاته وبكلامه، واجتباه بأن اتخذه كليماً من خلقه لما واعده الله تعالى ثلاثين ليلة ليعطيه التوراة، وقد كتبها له بيمينه في الألواح، اختار سبعين رجلاً من قومه ليشهدوا عليها، وهم عدول بني إسرائيل وخيرتهم، فلما استبطأ موسى سيرهم، وكان موسى أقوى منهم عجل فزاده الله تعالى في المدة عشرة أيام زيادة على ذلك، قال سبحانه: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[الأعراف:142]، حتى حضر أولئك القوم. ولما أتاه لامه على العجلة فقال: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:83-84].
ولهذا فإن على المؤمن أن ينافس أهل زمانه؛ فإذا رأى فيهم إقبالاً على الله سبحانه وتعالى حرص ألا يكون في الكيول وفي مؤخرة الركب، وعلى أن يكون من المقدمين في ذلك الزمان الذي هو فيه، فهم شهود الله تعالى وشهداؤه على العصر الذي هم فيه، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان والعلم والعمل والصبر، وهذه هي مقامات اليقين التي ينافس فيها الإنسان الآخرين في التقرب إلى الله تعالى؛ فما لم يتعلم الإنسان مراد الله من عباده لا يمكن أن يتقرب إليه، وإذا تعلم مراد الله من عباده لا بد أن يبادر للعمل به؛ لأن الحجة قد قامت عليه بما تعلم من العلم، ثم بعد ذلك إذا تعلم مراد الله وعمل به في خاصة نفسه؛ فمن مراد الله أن يدعو إلى ما تعلمه وعمل به، وإذا لم يفعل كان غاشاً خائناً لعباد الله.
ثم بعد ذلك لا بد أن يصبر على طريق الحق الذي عرفه وعمل به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عرفت؛ فالزم )، وهذا يقتضي من الإنسان الاستقامة على سلوك طريق الحق، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ[هود:112]، وهذا يقتضي لزوم طريق الحق والاستقامة عليه حتى يلقى الله تعالى، وبذلك يذوق الإنسان طعم المجاهدة؛ لأن النفس متنقلة بطبعها؛ لأنها خلقت على أطوار، وقد تنقلت في أطباق، كما قال الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، ويمر بها الغنى والفقر، والصحة والمرض، والفراغ والانشغال، وقوة اللذة وضعفها، وقوة الداعية إلى الطاعة وضعفها كذلك، والإقبال والإدبار، والشرة والكسل، كل ذلك من العوارض التي تعتري النفوس، وإذا كان الحال كذلك؛ فإن الإنسان يحتاج إلى مجاهدتها وأطرها على الحق.
ومن هنا ذكرت لكم فيما مضى أن الإنسان يذوق طعم المجاهدة في محاولته لأن يكون من الخاشعين، فإنه إذا أراد أن يكون من الخاشعين في الصلاة؛ فلا يتوفر له ذلك إلا بالمجاهدة في مقامات متنوعة متعددة؛ يجاهد نفسه أولاً على ترك الملهيات والمشغلات، ومن هنا يترك التثاؤب بالكلية؛ فأول مقامات الخشوع في الصلاة ألا يتثاءب الإنسان في صلاته، فإذا كان لا يمكن أن يتثاءب في الصلاة، لا فرضاً ولا نفلاً؛ فقد وصل إلى المقام الأول من مقامات الخشوع؛ لأن التثاؤب لا يكون إلا من الشيطان، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد هذا أيضاً منع نفسه من الالتفات في الصلاة مطلقاً، سواءً كان ذلك الالتفات عينياً أو قلبياً؛ فالالتفات قسمان: التفات بالعين، ومنه النظر إلى خياطة ثيابه أو ألوان حصيره وفراشه، أو النظر إلى مكان سجوده، أو غير ذلك؛ فهذا هو من النظر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي )، فلذلك هذا مقام من مقامات الخاشعين، يقطع فيه الإنسان نفسه عن الالتفات والنظر؛ لأنه مشغول بالنظر إلى الله، ( ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت! أنا خير مما التفت إليه ).
وكذلك التفات القلب؛ فهو أيضاً التفات آخر وانشغال، والإنسان إنما يلتفت قلبه إلى ما يهمه ويفكر فيه؛ ولذلك يتذكر القصص التي أثرت في حياته، أو الكلام الذي أعجبه، أو غير ذلك من الأمور، وكل هذا من لمة الشيطان فإنه يأتيه فيركب رأسه فلا يزال يقول: اذكر يوم كذا.. اذكر ليلة كذا.. اذكر فعل كذا، حتى يلهيه عن صلاته بتلك الأمور التي لا يمكن أن يصلحها لأنه منشغل بالصلاة، ولا يمكن أن يصلح الصلاة مع انشغاله بتلك الأمور.
ولهذا يحتاج الإنسان إلى التخلص من هذا الالتفات القلبي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( سئل عن الالتفات فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم )، اختلاس أي: سرقة، ولذلك فحظ الشيطان من الصلاة أمران، أحدهما غصب، والآخر اختلاس، فالاختلاس يقع بالالتفات، والغصب يقع بتخفيف الصلاة والاختصار فيها، فالذين ينقرون الصلاة نقراً، ويبادرون فيها مبادرة تخل بها، لا يقيمون ركوعها ولا أركانها ولا خشوعها ولا قراءتها ولا تسبيحها ولا تشهدها، هؤلاء قد اغتصبها الشيطان منهم فاقتلعها منهم بالقوة، وكثير منهم يزعمون أنهم ينافسون الشيطان في صلاتهم، وأنهم يريدون التعجيل بها عن الشيطان حتى لا يشغلهم، والواقع أنه قد اغتصبها منهم بكاملها، فحظه إما أن يناله بالاغتصاب والقهر وإما أن يناله بالسرقة والاختلاس.
ثم بعد هذا يأتي مقام آخر، وهو مقام استشعار الخوف بمخاطبة ذي الجلال والإكرام؛ فأنت تخاطبه بالثناء عليه بما هو أهله، وتخاطبه كذلك بحوائجك فترفعها بين يديه، وهذا مقتض منك لكثير من الأدب معه، وهو الذي يقتضي قشعريرة الجسد، ويقتضي فيضان العين، ويقتضي الارتجاف في الأعضاء، وكل ذلك من مظاهر الخشوع في مقامه الثالث، وهو أعلى مقامات الخشوع، وهذا المقام لا يناله الإنسان إلا بمجاهدة شاقة؛ فالنفس لا بد من حصرها، فيحصرها الإنسان كأنه يحصرها في مبنى قائم، كأنما يحصرها في هذا المسجد، فهي تريد الخروج من الباب؛ فإن وجدته مغلقاً ذهبت إلى النافذة، فإن وجدت النافذة مغلقة دارت وهي تريد الخروج؛ فيحاول إمساكها وردها حتى تستقيم، وسيكون ذلك شاقاً في بداية أمره ثم يسهل عليه فيما بعد، ويكون لا شعورياً لديه.
ولذلك فهذا الذي كنا نذكره من الخشوع في الصلاة نظيره الخشوع في الدرس؛ فالإنسان يحضر فيسمع بعض الكلام ويغيب عنه بعض؛ فبعض ما يقال قد يكون غائباً عنه، ويكون أفيد له أو سمعه مما حضره بقلبه؛ ولهذا نحتاج في الدرس إلى بعض المنبهات مثل الالتفاتة والنظر، ومثل رفع نبرة الصوت وخفضها، وغير ذلك من الأساليب التي هي مشوقة ترد الناس إلى الدرس؛ لأن هذا من باب المجاهدة.
ومثل ذلك في الذكر؛ فذكر الإنسان لربه إذا اشتغل بعده فقط، مثلاً أخذ السبحة، أو بالأصابع فجعل يعد فانشغل بالعد، فإنه لا يكتب له من الذكر إلا ذكر اللسان فقط، أما القلب فهو غافل؛ لأنه يتعلق بالعد فقط؛ ولهذا يحتاج إلى رد نفسه إلى معنى الذكر، ما معنى: سبحان الله وأنت تقولها؟ ما معنى: الله أكبر وأنت تقولها؟ وأنت تعلم أن العبد إذا تلفظ بها ملأت ما بين السماء والأرض، وأن: ( سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وأن: ( سبحان الله تملأ الميزان )، وهذه أمور عظيمة جداً، كبيرة جداً. فهناك حسنة واحدة تساوي السماوات والأرض، وحسنات الإنسان التي هي من هذا القبيل يضاعفها الله سبحانه وتعالى حتى لا يخطر على باله عدد مضاعفتها؛ ولذلك فإن كفة الميزان يوم القيامة هي أكبر من السماوات والأرضين، ولهذا قال: ( يا ابن آدم! لو أتيتني وقد بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لغفرت لك ولا أبالي )، وعنان السماء هو المطر، وذنوب البشر كثيراً ما تبلغ عنان السماء فتحول دون المطر؛ فما يقع من احتباس المطر، واحتباس الخيرات عن الأرض، ما سببه إلا ذنوب البشر، فهي مظلات تحبس عنهم المطر والخير.
والغريب في الأمر أن كثيراً من الناس لا يستشعر هذا! فذنوبه تعطل حسناته عن أن تصل إلى الله تعالى، لا ترفع إلى ربه بسبب شحناء بينه وبين قريب له أو بعيد عنه، أو بسبب تباغض بينه وبين جاره؛ فيقال: ( أرجوا هذين حتى يفيئا )، وفي رواية: ( أرجئوا هذين حتى يصطلحا )؛ فترجأ أعماله فلا ترفع إلى الله يوم الإثنين ويوم الخميس، وفيهما ترفع الأعمال إلى الله تعالى، نسأل الله أن يتقبل أعمالنا، وأن يبارك لنا فيها.
فالذي لا يشعر بخطر سيئاته لا يمكن أن يصل إلى مقام المسارعة إلى الطاعات؛ لأن السيئات تكبله وتقيده؛ فهو يسير مع الذين ينطلقون انطلاق السهم في الهواء وهو مكبل لا يستطيع الحرجة، فما ظنكم في منافسة هذا؟! فأصحاب الذنوب مكبلون بكبل الذنوب، لا يستطيعون أن يقدموا رجلاً ولا أن يؤخروها، وأصحاب الطاعة المقبلون على الله تعالى ينطلقون كما تنطلق السهام.. أو كما ينطلق الرصاص في الهواء الطلق، لا يحجزهم شيء، فالفرق شاسع بين هؤلاء في سيرهم؛ ولذلك قال أحد السلف:
لا تعرضن لذكرهم مع ذكرنا ليس السريع إذا مشى كالأعرج
فيحتاج الإنسان إذاً إلى أن يتخلى أولاً عن المعاصي بالكلية، وأن يعلم أن أبلغ طرد له عن باب الملك الديان هو أن يرتضيه الله تعالى للفساد في الأرض، وأن يرتضيه لأن يكون من أهل الذنوب؛ ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: إن أعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يستعمله في المعصية، وأعظم منها طرده عن بابه، وأعظم من ذلك ألا يشعر به فأعظم العقوبة هو أن يستغله في المعصية، أن يوفر له كثيراً من الطاقات، يعمره عمراً طويلاً، يرزقه سمعاً وبصراً وعقلاً وجوارح، لكن يكتب الله عليها ألا تستغل إلا في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!
ولهذا فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشرهم من طال عمره وساء عمله )، فالذي يطول عمره ويسوء عمله هو من أنعم الله عليه بنعم كثيرة فاستغلها في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية!
ثم شر من هذا وأعظم منه طرداً الذي يحجب عن باب الملك الديان؛ فلا يتوب، ولا يستغفر أبداً، ولا يستقيل عثرته، فهو مشغول في المعصية، ومع ذلك لا يحس أن ما هو فيه شر، بل يظن أنه من خير الناس، وأنه من أفضل الناس، ولا يستشعر أنه قد طرده الله ورماه في الحضيض الأسفل حين شغل بالمعصية ولم يكن له شغل بالطاعة، وشر منه الذي لا يستشعر هذا الطرد؛ فلا يحس أنه مطرود أصلاً.
ولهذا فإن من أعظم ما شاهدته اليوم من آثار العلمانية، أن كثيراً من الذين يبتلون بتذوقها، والاشتغال بها مشغولون عن الله سبحانه وتعالى وعن طاعته، ومع ذلك يظنون أنهم على الطريق الأمثل، وأنهم أهل الاستقامة وأهل الخير، وأنهم في المقام الأعلى، ويعدون أنفسهم نخباً على المجتمعات، فهم يسمون أنفسهم بالنخبة، وهذه النخبة التي ليس لها شغل إلا معصية الله في الأرض! هل هي نخبة؟! لا يمكن أن يكون ذلك، من لا يشتغل إلا في معصية الله لا يمكن أن يكون منتخباً ولا منقىً ولا مصفى، فنخبة الخلق هم الرسل الذين عصمهم الله تعالى واختارهم لطاعته، وبعدهم أولياء الله الذين حفظهم الله من الوقوع في المعصية، أو من الاستمرار عليها، وبعدهم الذين وفقهم الله للتوبة من عصاة المؤمنين، فلذلك لا يمكن أن يكون من هو مشتغل بالمعصية ليله ونهاره من النخبة.
لذلك فإن المسارعة إلى الخير تقتضي أمرين، أحدهما نفسي، وهو ما ذكرناه من التخلي والتحلي في خاصة نفس الإنسان، أي: أن يحرص على التخلي عن معصية الله وعن آثارها، ويحرص كذلك على التحلي بطاعة الله تعالى، وهو بذلك يلتمس آثار الطاعة؛ فالمعصية آثارها يدركها الإنسان إدراكاً جلياً بمجرد الوقوع فيها مالم يبادر إلى التوبة؛ فسيجد ظلمة في الوجه، واسوداداً في القلب، وبغضاً في الناس؛ كما قال ابن عباس ، وهذه آثار واضحة للمعصية، فصاحب المعصية ذليل، وهو مكروه لدى الناس، وفي وجهه ظلمة وانطماس، وفي قلبه كذلك ظلمة، لا يستطيع أن يتدبر القرآن، ولو تدبره لما فهمه؛ قال سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، نسأل الله السلامة والعافية!
والطاعة آثارها على عكس هذه، لكن الإنسان يلتمسها لأنه لا يوقن بقبول طاعته؛ فهو يعمل الطاعة، وقلبه مشفق كل الإشفاق أن يردها الله عليه وألا يتقبلها منه، يأتي إلى الدرس من مكان بعيد، ويتكلف، ويعطل أعماله وهو يعلم أن هذه طاعة لله سبحانه وتعالى، لكنه يخاف ألا يتقبلها الله منه؛ فهو مشفق غاية الإشفاق؛ ( ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60]، قالت: أهو يكذب ويسرق وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويخاف الله، يخاف ألا يتقبل الله منه )، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61]، فهؤلاء هم المسارعون في الخيرات، وهم السابقون فيها.
وهناك مقامان لا بد من استحضارهما في المسارعة:
أحدهما: ما يتعلق بالنفس لقصد السبق، والثاني: مسابقة الآخرين، فهما أمران لا بد منهما، وقد انتظمتهما آية (المؤمنون)، وهي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61]، يسارعون في الخيرات من عند أنفسهم، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:61] أي: يسابقون الآخرين؛ فيسبقونهم إليها. ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه كان من هؤلاء المسارعين السابقين إلى الخيرات؛ فقد قال عمر بن الخطاب : (سابقت أبا بكر ثلاثاً فسبقني، فأقسمت ألا أسابقه بعد) فـعمر بن الخطاب سابق أبا بكر في الإنفاق؛ فجاء بنصف ماله حتى إنه ليأتي بإحدى النعلين ويترك الأخرى، قاسم الله ماله، فجاء بشطر ماله صدقة في سبيل الله لتجهيز جيش المسلمين، فجاء أبو بكر بماله كله؛ فوجده قد سبقه؛ فلذلك أقسم عمر ألا يسابقه؛ لأنه عرف أن الفضل لأهله.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |