شرح سنن أبي داود [544]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (كان رسول الله من أحسن الناس خلقاً...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الأدب.

باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

[ حدثنا مخلد بن خالد الشعيري حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة -يعني: ابن عمار - قال: حدثني إسحاق -يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة - قال: قال أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس : والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأدب، والأدب المراد به: الأخلاق المحمودة التي يرغب فيها، والمذمومة التي يحذر منها، وكثير من المؤلفين للكتب الجامعة يجعلون من جملة ما تشتمل عليه كتبهم هذا الكتاب الذي هو كتاب الأدب، والإمام البخاري رحمه الله له كتاب في كتابه الجامع الصحيح باسم كتاب الأدب، وله كتاب مستقل اسمه كتاب الأدب المفرد، وأتى بكلمة المفرد ليميز عن الكتاب الذي في داخل الصحيح، فإذا قيل: أخرجه البخاري في كتاب الأدب بدون التقييد بالمفرد فإنه ينصرف إلى الكتاب الذي هو ضمن الصحيح التي تبلغ كتبه سبعة وتسعين كتاباً، وهو كتاب الأدب، وله كتاب مستقل مؤلف خاص باسم كتاب الأدب المفرد، وهو كتاب مستقل بالتأليف ومفرد عن غيره، وليس داخل كتاب كما هو الشأن في كتاب الأدب الذي هو أحد كتب الجامع الصحيح.

ثم أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [ باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ].

الحلم كما هو معلوم هو: ضبط النفس وعدم الغضب، فيكون الإنسان عنده التحمل والصبر بحيث لا يحصل منه الغضب الذي قد يترتب عليه أمور غير محمودة، ولهذا فالحلم محمود، وهو من الخصال المحمودة، ومن الآداب الحميدة.

قوله: [ وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ].

هو من عطف العام على الخاص؛ لأن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها الحلم فهو حليم عليه الصلاة والسلام.

وقد أورد أبو داود في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد خدمه عشر سنين، وجاء في هذه الرواية سبع أو تسع سنين، والمعتبرة هي رواية التسع، ولا تنافي بينها وبين رواية العشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان قدومه إليها في ربيع الأول، وكانت وفاته أيضاً في ربيع الأول عليه الصلاة والسلام، فمدة بقائه في المدينة عشر سنوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي أثناء السنة التي قدم فيها عرضت أم سليم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخدمه ابنها أنس رضي الله عنه، فصار خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه قريباً من عشر سنوات، فمن قال: تسع سنوات فقد حذف الكسر، ومن قال: عشر سنوات فقد جبر الكسر، أي: أن المدة فوق التسع ودون العشر؛ لأنه لم يستكمل عشر سنوات، فمدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات من حين قدمها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وأنس رضي الله عنه لم يكن خادمه من أول يوم، وإنما بدأت خدمته له بعد فترة من تلك السنة، وعلى هذا فالأمر دائر بين التسع والعشر، فمن قال: عشراً جبر الكسر، ومن قال: تسعاً حذف الكسر.

وقد ذكر أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في حاجة فقال -يعني في نفسه-: والله لن أفعل، وفي نفسه أنه يريد أن يفعل، وذلك أنه كان صغيراً غير مكلف، فلم يكن قوله ذاك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه غير مكلف وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم أيضاً في القصة ما يشعر بذلك، فقد وجد الصبيان ووقف معهم، وكان قد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فما شعر إلا والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ به من ورائه، فالتفت إليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أنيس ! اذهب حيث أمرتك)، فذهب رضي الله تعالى عنه، فكونه وجد الصبيان فانشغل بالنظر إليهم والوقوف معهم هذا يوضح الحالة التي كان عليها، وأنه كان صغيراً، وعلى هذا فكونه قال: إنه لا يذهب يدل أن السبب في ذلك هو صغره.

ثم قال أنس : (لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لما فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا).

قوله: [ (فما علمت قال لشيء فعلته: لما فعلت كذا وكذا؟) ] يعني: أنه ما أنكر عليه الفعل، ولا أنكر عليه عدم الفعل بأن قال: (هلا فعلت كذا وكذا)، وهذا من كمال أخلاقه ورفقه ولينه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا الكلام يقوله من باشر خدمته صلى الله عليه وسلم، وتشرف بخدمته مدةً تبلغ عشر سنوات تقريباً وهو صغير، فكان يخبر عن حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مع كونه صغيراً وقد يحصل منه أمور لا ترتضى من ناحية أنه قد يتأخر أو قد يحصل منه شيء لا ينبغي، فما كان يعاتبه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقول له في أي أمر: لم فعلت كذا وكذا؟ يعني: منكراً عليه، ولا قال لشيء لم يفعله: هلا فعلت كذا وكذا.

تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله من أحسن الناس خلقاً...)

قوله: [ حدثنا مخلد بن خالد الشعيري ].

مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود .

[ حدثنا عمر بن يونس ].

عمر بن يونس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عكرمة يعني: ابن عمار ].

هو عكرمة بن عمار ، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثني إسحاق يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة ].

هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال أنس ].

أنس هو عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو أخو أنس من أمه، وهذا ابن أخيه من أمه، وإسحاق يروي عن عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو ابن أم سليم ، وأم سليم هي أم أنس ، فهو أخوه لأمه.

و أنس بن مالك رضي الله عنه خادم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث (خدمت النبي سنين بالمدينة وأنا غلام...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها: أف قط، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو ألا فعلت هذا) ].

أورد المصنف حديث أنس رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين في المدينة، وأنه ما قال له يوماً: أف، ومعناه: أنه لم يتضجر من شيء فعله وهو لا يريد أن يفعله، أو شيء لم يفعله وهو يريد أن يفعله.

قال أنس : (وما قال لي: لم فعلت هذا؟) لأمر فعله يعاتبه ويؤنبه، ولا قال: (ألا فعلت هذا) لأمر لم يفعله.

تراجم رجال إسناد حديث (خدمت النبي سنين بالمدينة وأنا غلام...)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة ].

هو سليمان بن المغيرة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجملة (يعني: ابن المغيرة) جاء بها من دون التلميذ، وذلك إما من أبي داود أو من دون أبي داود ، وأما عبد الله بن مسلمة القعنبي فإنه لما روى عن شيخه اكتفى بكلمة سليمان ولم يزد عليها، ولكن دون التلميذ وهو أبو داود أو من دون أبي داود أراد أن يبين من هو هذا الشخص الذي المهمل، فكون الشخص لا ينسب وإنما يذكر بدون نسبه هذا يقال: مهمل، وهو من أنواع علوم الحديث، فأراد من دون التلميذ أن يبين من هو هذا المهمل فجاء بكلمة (يعني)، وزادها حتى لا يظن أن هذا كلام التلميذ، ولو قيل: حدثنا سليمان بن المغيرة فسيفهم أن هذا لفظ التلميذ، لكن لما جاء بكلمة (يعني) عرف أن التلميذ ما قال: ابن المغيرة ، وإنما قالها من دون التلميذ وأراد بذلك أن يوضح من هو هذا الشيخ الذي ذكر مهملاً غير منسوب، ولهذا فكلمة (يعني) فعل مضارع لها قائل وفاعل، ففاعلها ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ، وهو عبد الله بن مسلمة القعنبي الذي قال: سليمان ، وأما قائل: ابن المغيرة فهو من دون التلميذ، هو قائل (يعني)، وأما فاعل (يعني) فهو ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ.

[ عن ثابت ].

هو ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أنس ].

هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.

وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود ، وهي الرباعيات، فبين أبي داود وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها أربعة أشخاص: عبد الله بن مسلمة ، سليمان بن المغيرة ، وثابت البناني ، وأنس بن مالك .

شرح حديث الأعرابي الذي جبذ النبي بردائه فحمر رقبته

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو عامر حدثنا محمد بن هلال أنه سمع أباه يحدث قال: قال أبو هريرة وهو يحدثنا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجلس يحدثنا، فإذا قام قمنا قياماً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه، فحدثنا يوماً فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته -قال أبو هريرة : وكان رداءً خشناً-، فالتفت فقال له الأعرابي: احمل لي على بعيري هذين فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا أحمل لك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني، فكل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدكها فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلاً فقال له: احمل له على بعيريه هذين: على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً، ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا على بركة الله) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي جاء ومعه بعيران، وأراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه حمل بعيريه من الطعام، وكان عليه صلى الله عليه وسلم رداء خشن فجبذه -أي: جره- حتى أثرت جذبته في جسد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أحمر المكان الذي حصلت الجبذة فيه، فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم فقال له: احمل لي على بعيري فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك وإنما من مال المسلمين، يعني: يريد أنه يحمل هذا من بيت المال، وأنه لا يريد منه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من الجفاء سواء في القول أو الفعل، فالجبذ فيه جفاء، والقول فيه جفاء.

قوله: [ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله!) ].

يعني: أنه لا يحمل له من ماله ولا من مال أبيه، وإنما الحمل هو من بيت المال.

والرسول دائماً يستغفر الله عز وجل ويطلب منه المغفرة، وهذا هو المشرع للناس من أمته الذين هم تبع له ويقتدون به عليه الصلاة والسلام.

قوله: [ (لا أحمل لك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني) ].

أي: طلب أن يقيده من تلك الجبذة التي جبذه بها وأثرت فيه، وهذا من كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام، فقد أسيء إليه ومع ذلك يداعبه ويقول له: مثل هذا الكلام. والأعرابي يأبى أن يقيده، وهذا لا شك أنه من الجفاء أيضاً.

والحديث فيه ضعف من جهة أن بعض رواته متكلم فيه، لكن قصة الجبذة وكونه صلى الله عليه وسلم حصل له الجفاء من بعض الأعراب فهذا ثابت، وثبت تبسمه وضحكه صلى الله عليه وسلم وإحسانه إلى من حصل منه ذلك، واغتفاره له، وأما هذه القصة ففي إسنادها من هو متكلم فيه.

وفي أول الحديث: (أنهم كانوا يجلسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قام وذهب قاموا)، يعني: انفض المجلس، وليس المقصود من ذلك أنهم يقومون له صلى الله عليه وسلم لا في حال دخوله وإقباله ولا في حال قيامه، وإنما كانوا يستقبلونه وكانوا يحترمونه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يقوموا له، وقد جاء أنهم كانوا لا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من كراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك، والقيام للرجل كما هو معلوم جاء ما يدل على منعه، وأما القيام إلى الرجل من أجل استقباله أو معانقته أو إكرامه ومصافحته، فهذا لا بأس به ولا مانع منه، وإنما الممنوع كونه يقوم ويجلس فقط احتراماً وتوقيراً لمن دخل أو لمن يريد أن يخرج، وأما إذا كان هناك استقبال أو مصافحة أو معانقة فإنه يكون قائماً.

قوله: [ (فكل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث قال: ثم دعا رجلاً فقال له: احمل له على بعيريه هذين: على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمراً) ].

يعني: حقق له ما يريد بأن تمل على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً.

قوله: [ (ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا على بركة الله تعالى) ].

يعني: كانوا واقفين وكانوا يرونه ويرون الأعرابي الذي حصل منه ذلك الفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: (انصرفوا على بركة الله).

تراجم رجال إسناد حديث الأعرابي الذي جبذ النبي بردائه فحمر رقبته

قوله: [ حدثنا هارون بن عبد الله ].

هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ حدثنا أبو عامر ].

أبو عامر العقدي ، وهو عبد الملك بن عمرو ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا محمد بن هلال ].

محمد بن هلال صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ أنه سمع أباه ].

أبوه هو هلال بن أبي هلال المدني مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ قال: قال أبو هريرة ].

أبو هريرة ، هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الأدب.

باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

[ حدثنا مخلد بن خالد الشعيري حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة -يعني: ابن عمار - قال: حدثني إسحاق -يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة - قال: قال أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس : والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأدب، والأدب المراد به: الأخلاق المحمودة التي يرغب فيها، والمذمومة التي يحذر منها، وكثير من المؤلفين للكتب الجامعة يجعلون من جملة ما تشتمل عليه كتبهم هذا الكتاب الذي هو كتاب الأدب، والإمام البخاري رحمه الله له كتاب في كتابه الجامع الصحيح باسم كتاب الأدب، وله كتاب مستقل اسمه كتاب الأدب المفرد، وأتى بكلمة المفرد ليميز عن الكتاب الذي في داخل الصحيح، فإذا قيل: أخرجه البخاري في كتاب الأدب بدون التقييد بالمفرد فإنه ينصرف إلى الكتاب الذي هو ضمن الصحيح التي تبلغ كتبه سبعة وتسعين كتاباً، وهو كتاب الأدب، وله كتاب مستقل مؤلف خاص باسم كتاب الأدب المفرد، وهو كتاب مستقل بالتأليف ومفرد عن غيره، وليس داخل كتاب كما هو الشأن في كتاب الأدب الذي هو أحد كتب الجامع الصحيح.

ثم أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [ باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ].

الحلم كما هو معلوم هو: ضبط النفس وعدم الغضب، فيكون الإنسان عنده التحمل والصبر بحيث لا يحصل منه الغضب الذي قد يترتب عليه أمور غير محمودة، ولهذا فالحلم محمود، وهو من الخصال المحمودة، ومن الآداب الحميدة.

قوله: [ وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ].

هو من عطف العام على الخاص؛ لأن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها الحلم فهو حليم عليه الصلاة والسلام.

وقد أورد أبو داود في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد خدمه عشر سنين، وجاء في هذه الرواية سبع أو تسع سنين، والمعتبرة هي رواية التسع، ولا تنافي بينها وبين رواية العشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان قدومه إليها في ربيع الأول، وكانت وفاته أيضاً في ربيع الأول عليه الصلاة والسلام، فمدة بقائه في المدينة عشر سنوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي أثناء السنة التي قدم فيها عرضت أم سليم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخدمه ابنها أنس رضي الله عنه، فصار خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه قريباً من عشر سنوات، فمن قال: تسع سنوات فقد حذف الكسر، ومن قال: عشر سنوات فقد جبر الكسر، أي: أن المدة فوق التسع ودون العشر؛ لأنه لم يستكمل عشر سنوات، فمدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات من حين قدمها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وأنس رضي الله عنه لم يكن خادمه من أول يوم، وإنما بدأت خدمته له بعد فترة من تلك السنة، وعلى هذا فالأمر دائر بين التسع والعشر، فمن قال: عشراً جبر الكسر، ومن قال: تسعاً حذف الكسر.

وقد ذكر أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في حاجة فقال -يعني في نفسه-: والله لن أفعل، وفي نفسه أنه يريد أن يفعل، وذلك أنه كان صغيراً غير مكلف، فلم يكن قوله ذاك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه غير مكلف وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم أيضاً في القصة ما يشعر بذلك، فقد وجد الصبيان ووقف معهم، وكان قد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فما شعر إلا والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ به من ورائه، فالتفت إليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أنيس ! اذهب حيث أمرتك)، فذهب رضي الله تعالى عنه، فكونه وجد الصبيان فانشغل بالنظر إليهم والوقوف معهم هذا يوضح الحالة التي كان عليها، وأنه كان صغيراً، وعلى هذا فكونه قال: إنه لا يذهب يدل أن السبب في ذلك هو صغره.

ثم قال أنس : (لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لما فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا).

قوله: [ (فما علمت قال لشيء فعلته: لما فعلت كذا وكذا؟) ] يعني: أنه ما أنكر عليه الفعل، ولا أنكر عليه عدم الفعل بأن قال: (هلا فعلت كذا وكذا)، وهذا من كمال أخلاقه ورفقه ولينه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا الكلام يقوله من باشر خدمته صلى الله عليه وسلم، وتشرف بخدمته مدةً تبلغ عشر سنوات تقريباً وهو صغير، فكان يخبر عن حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مع كونه صغيراً وقد يحصل منه أمور لا ترتضى من ناحية أنه قد يتأخر أو قد يحصل منه شيء لا ينبغي، فما كان يعاتبه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقول له في أي أمر: لم فعلت كذا وكذا؟ يعني: منكراً عليه، ولا قال لشيء لم يفعله: هلا فعلت كذا وكذا.

قوله: [ حدثنا مخلد بن خالد الشعيري ].

مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود .

[ حدثنا عمر بن يونس ].

عمر بن يونس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عكرمة يعني: ابن عمار ].

هو عكرمة بن عمار ، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثني إسحاق يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة ].

هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال أنس ].

أنس هو عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو أخو أنس من أمه، وهذا ابن أخيه من أمه، وإسحاق يروي عن عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو ابن أم سليم ، وأم سليم هي أم أنس ، فهو أخوه لأمه.

و أنس بن مالك رضي الله عنه خادم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها: أف قط، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو ألا فعلت هذا) ].

أورد المصنف حديث أنس رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين في المدينة، وأنه ما قال له يوماً: أف، ومعناه: أنه لم يتضجر من شيء فعله وهو لا يريد أن يفعله، أو شيء لم يفعله وهو يريد أن يفعله.

قال أنس : (وما قال لي: لم فعلت هذا؟) لأمر فعله يعاتبه ويؤنبه، ولا قال: (ألا فعلت هذا) لأمر لم يفعله.

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة ].

هو سليمان بن المغيرة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجملة (يعني: ابن المغيرة) جاء بها من دون التلميذ، وذلك إما من أبي داود أو من دون أبي داود ، وأما عبد الله بن مسلمة القعنبي فإنه لما روى عن شيخه اكتفى بكلمة سليمان ولم يزد عليها، ولكن دون التلميذ وهو أبو داود أو من دون أبي داود أراد أن يبين من هو هذا الشخص الذي المهمل، فكون الشخص لا ينسب وإنما يذكر بدون نسبه هذا يقال: مهمل، وهو من أنواع علوم الحديث، فأراد من دون التلميذ أن يبين من هو هذا المهمل فجاء بكلمة (يعني)، وزادها حتى لا يظن أن هذا كلام التلميذ، ولو قيل: حدثنا سليمان بن المغيرة فسيفهم أن هذا لفظ التلميذ، لكن لما جاء بكلمة (يعني) عرف أن التلميذ ما قال: ابن المغيرة ، وإنما قالها من دون التلميذ وأراد بذلك أن يوضح من هو هذا الشيخ الذي ذكر مهملاً غير منسوب، ولهذا فكلمة (يعني) فعل مضارع لها قائل وفاعل، ففاعلها ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ، وهو عبد الله بن مسلمة القعنبي الذي قال: سليمان ، وأما قائل: ابن المغيرة فهو من دون التلميذ، هو قائل (يعني)، وأما فاعل (يعني) فهو ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ.

[ عن ثابت ].

هو ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أنس ].

هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.

وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود ، وهي الرباعيات، فبين أبي داود وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها أربعة أشخاص: عبد الله بن مسلمة ، سليمان بن المغيرة ، وثابت البناني ، وأنس بن مالك .




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2728 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع