شرح سنن أبي داود [459]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الكبر.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد . ح: وحدثنا هناد -يعني: ابن السري - عن أبي الأحوص المعنى: عن عطاء بن السائب -قال موسى : عن سلمان الأغر ، وقال هناد : عن الأغر أبي مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال هناد : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار) ].

قوله رحمه الله تعالى: [ باب في الكبر ] يعني: في تحريمه، وأن صاحبه مذموم ومتوعد، وأن الكبرياء والعظمة إنما هي لله عز وجل، وهو الكبير العظيم المتعالي سبحانه وتعالى، والتعالي والترفع والتكبر والتعاظم من الخلق مذموم؛ لأن المطلوب في حقهم أن يكونوا عبيداً لله مستضعفين، فعليهم أن يتواضعوا لله عز وجل، وألا يتعالوا ويتكبروا على غيرهم.

فأورد أبو داود هذه الترجمة، وهي عن الكبر وبيان ما ورد فيه من الوعيد، ومن التخويف والزجر والردع لمتعاطيه.

أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وهو حديث قدسي: (قال الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في شيء منهما قذفته في النار).

قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) يعني: أن هذه من الخصائص التي يختص بها سبحانه وتعالى، وهي ملازمة لله، وليس لغيره أن يبحث عنها وأن يتطلبها؛ لأن هذه من خصائص الله عز وجل.

وقوله: (إزاري وردائي) الشاهد من الحديث أن الله تعالى مختص بها وأنه لا ينازعه أحد فيها، كما أن من يكون له إزار ورداء من الخلق فإن ذلك الإزار والرداء مختص به ليس لأحد غيره مشاركته فيه.

ومن صفات الله عز وجل (صفة العظمة) و(صفة الكبرياء)، وذكر الإزار والرداء إشارة إلى الاختصاص، وإلى عدم الأحقية في المنازعة فيها، فلا يقال: إن لله إزاراً. ويُسْكَت عن التفصيل، وإنما يقال: إن لله الكبرياء وله العظمة، وأن الله عز وجل بين أنه مختص بها كما أن من يكون من الناس عليه إزار ورداء فإن إزاره ورداءه مختصان به، فدل هذا على أن ذلك من خصائص الله سبحانه وتعالى، وأن ليس لأحد أن يتعاطى ذلك أو يتطلب ذلك أو يبحث عن ذلك أو يؤمل أن يحصل له ذلك؛ لأن هذا خصائص الله سبحانه وتعالى.

وهذا اللفظ الذي جاء في هذا الحديث من جنس اللفظ الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار في غزوة حنين لما وجدوا في أنفسهم أنهم لا يحصل لهم ما حصل للناس، فجمعهم في مكان وتحدث معهم، وقال: بلغني أنكم وجدتم في أنفسكم، إذ لم يحصل لكم ما حصل للناس، قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: (أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ ثم قال: الأنصار شعار، والناس دثار) يعني: الأنصار بمنزلة الشعار، وهو ما يلي الجسد من الثياب، لقربهم منه ولاتصالهم به، (والناس دثار) يعني: مثل الثوب الذي بعد الشعار وليس ملاصقاً للجسد، فهذا بيان للقرب والاختصاص به، وأن لهم الصلة الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الذي في الحديث فيه اختصاص الله عز وجل بالكبرياء، وأنه ليس لأحد أن ينازعه فيها سبحانه وتعالى، فهو الكبير المتعالي ذو الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء، والعظمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.

أما الفرق بين الكبرياء والعظمة فالمعاني متقاربة، والعظمة تكون مثلاً صفة لله عز وجل, والكبرياء تتعلق بأنه ذو الكبرياء على غيره، وأن غيره مفتقر إليه، وأنه بحاجة إليه، يعني: فبعض الصفات وبعض الأسماء تتقارب في معانيها، ويكون بينها فروق دقيقة، وبعضها يكون مماثلاً، مثل: الرحمن والرحيم، كل منهما مشتق من الرحمة، ولكن (الرحمن) أعظم من (الرحيم) ولهذا يطلق على غير الله: رحيم، ولا يطلق على غير الله رحمان، فالرحمن من الأسماء الخاصة به التي لا تطلق على غيره، لا يقال: فلان رحمان، ويقال: فلان رحيم، وقد وصف الله نبيه بأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ولهذا لما قيل لـمسيلمة الكذاب : رحمان اليمامة حصل له لقب ملازم لاسمه وهو الكذاب؛ بحيث لا يقال: مسيلمة فقط، بل يقال: مسيلمة الكذاب كأنه اسم مركب.

تراجم إسناد حديث (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري..)

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ].

موسى بن إسماعيل مرَّ ذكره.

وحماد هو: ابن سلمة بن دينار ، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ ح: وحدثنا هناد بن السري ].

(ح) معناها التحول من إسناد إلى إسناد.

وهناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي الأحوص ].

أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عطاء بن السائب ].

عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، وهنا يروي عنه أبو الأحوص ، وحماد بن سلمة ، وليسا من الذين سمعوا منه قبل الاختلاط؛ لأن حماد بن سلمة مختلف فيه، ومعلوم أن المختلف فيه كأنه يعتبر غير سامع؛ لأنه لابد من تحقق السماع قبل الاختلاط حتى يقبل حديثه، وأبو الأحوص لم يسمع منه قبل الاختلاط؛ لكن الحديث ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وصحابي آخر بنفس المعنى إلا أن فيه لفظ (العزة) بدل (العظمة).

وعطاء بن السائب ليس من رجال مسلم ولهذا قيل: إنه من رجال البخاري وأصحاب السنن.

[ قال: موسى عن سلمان الأغر ، وقال هناد : عن الأغر أبي مسلم ].

(قال: موسى ) الذي هو الشيخ الأول: (عن سلمان الأغر)، وقال الشيخ الثاني -وهو هناد -: عن الأغر أبي مسلم ، وهما رجلان، ولكن كل منهما ثقة.

سلمان أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأغر أبو مسلم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.

[ قال هناد : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل ].

أي: أن الذي قال: (قال رسول الله..) هو هناد الشيخ الثاني في السند.

حكم القول بأن لله إزاراً ورداء دون تفصيل

في ذكر الإزار والرداء لله سبحانه وتعالى فنقول كما قال الله عز وجل: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) لكن كنوننا نقول: (له إزار) أو (له رداء) ونطلق قد يقطع الكلام ولا يتصل بشيء فيكون شيئاً خطيراً غير لائق بالله سبحانه وتعالى.

وجه إيراد النهي عن الكبر في كتاب اللباس

وجه إيراد أبي داود [ باب الكبر ] في كتاب اللباس أنه لما ذكر الإسبال، والإسبال يكون للكبر ولغيره، وقد ذكر الحديث الذي فيه النهي عن الإسبال لأجل التعاظم والخيلاء، فذكر -بالمناسبة- الكبر الذي ذم الإسبال لأنه يؤدي إليه أو لأنه سبب للوصول إليه، وأنه يضاعف إثم الإسبال.

حكم لفظ (العظمة) من ناحية المتن

الحديث في صحيح مسلم فيه لفظ (العزة) بدلاً عن (العظمة) لكن لا يقال: لفظة (العظمة) شاذة أو منكرة؛ لأنها جاءت من حديث عطاء ؛ لأن وصف الله عز وجل بالعظمة لا يشاركه فيه أحد، والعزة لا يشاركه فيها أحد.

شرح حديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر -يعني: ابن عياش - عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان) ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) هذا في ذم الكبر وبيان خطورته، وأنه من الكبائر، وأن صاحبه متطلب ما ليس له، وتارك للشيء الذي هو له، وهو التواضع الذي يقابله التكبر والترفع والتعاظم.

قوله: (مثقال حبة من خردل من كبر) يعني: شيئاً يسيراً من الكبر؛ فإن ذلك سبب في عدم دخول الجنة، والمقصود من ذلك بيان الزجر والتحذير من الكبر، ولا يعني ذلك أن من يكون كذلك يكون من أهل النار الذين هم الكفار، فإن مرتكب الكبيرة أمره إلى الله عز وجل إن شاء تجاوز عنه وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه لا يخلده في النار خلود الكفار، بل لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة، فيكون فاته ما حصل لغيره ممن سلم من الكبر وكان فيمن يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، فإن أهل الجنة في الجنة ينعمون وهو في النار يعذب بسبب كبره.

فهذا لا يعني أنه لا يدخل الجنة أصلاً، فإن الله عز وجل أخبر بأن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئته سبحانه وتعالى، وكل ذنب لم يغفره الله عز وجل لمن كان غير مشرك فإنه لا يخلد صاحبه في النار، وإنما يدخل النار إذا شاء الله أن يدخلها ويعذب فيها على مقدار جرمه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها فإن الجنة عليهم حرام.

(ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان) يعني: أنه لا يدخلها دخولاً يكون له خلوداً، وأما كونه يدخلها جزاء على ما عنده من الكبائر التي لم يتجاوز الله عنها فذلك وارد، كما جاءت بذلك الأحاديث الدالة على أن أصحاب الكبائر يدخلون النار إذا لم يعف الله عنهم، ولكنه إذا دخل لا يدخل دخول خلود.

تراجم رجال إسناد حديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)

قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].

أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبو بكر -يعني: ابن عياش - ].

أبو بكر بن عياش وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.

[ عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ].

الأعمش مر ذكره.

و إبراهيم هو: ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ، ثقة محدث فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

وعلقمة هو: النخعي الكوفي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله ].

هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وهو أحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ قال أبو داود : رواه القسملي عن الأعمش مثله ].

القسملي عبد العزيز بن مسلم ، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة .

الكبر والإيمان لا يجتمعان

والإيمان يجتمع مع الكبائر مع المعاصي، والمؤمن يكون عنده إيمان وعنده معاص كبائر -إذا كان قد ارتكب كبائر- وصغائر، فيكون عنده إيمان وعنده نقص في الإيمان بسبب الكبائر، فلا يقال: إنهما لا يجتمعان بحيث لا يكون المؤمن موصوفاً بالإيمان إلا إذا كان خالياً من الكبر، يمكن أن يكون مؤمناً ناقص الإيمان لما عنده من الكبر فالجمع بين الإيمان وحصول الكبيرة هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهم وسط بين المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة.

المرجئة فرطوا وأهملوا وقالوا: مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، فلا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس في الإيمان، ولا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وهذا تغليب لجانب الوعد وإهمال لجانب الوعيد.

في مقابل ذلك الإفراط والتشديد والغلو الذي حصل من الخوارج والمعتزلة، فاتفق الخوارج والمعتزلة على خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان، لكن هل دخل في الكفر؟

الخوارج قالوا: دخل في الكفر.

والمعتزلة قالوا: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، وهم متفقون على أنه في الآخرة مخلد في النار، وفي الدنيا مختلف عليه بينهم، هؤلاء قالوا إنه كافر، وهؤلاء قالوا إنه في منزلة بين المنزلتين، وهم متفقون على أنه ليس بمؤمن، فقد خرج من الإيمان فكان كافراً على قول الخوارج، وفي منزلة بين المنزلتين على قول المعتزلة.

وأهل السنة والجماعة قالوا: هو مؤمن ناقص الإيمان وهذا القول وسط، فأهل السنة وسط بين طرفين وهدىً بين ضلالتين هما غاية التفريط وغاية الإفراط، فقالوا: هو مؤمن عاصٍ وليس بكافر، ما خرج من الإيمان، وبذلك خالفوا الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن.

أهل السنة والجماعة توسطوا بين الخوارج والمعتزلة من جهة وهم المفرطون الغالون، وبين المرجئة المفرطون المتساهلون المتسيبون الذين جعلوا الأمور كلها فوضى، وأنه لا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس.

فأهل السنة قالوا في مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، فقولهم: (مؤمن) خالفوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ما هو بمؤمن، وقولهم: (ناقص الإيمان) خالفوا به المرجئة الذين قالوا: كامل الإيمان.

فالمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، والخوارج والمعتزلة غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، وأهل السنة أخذوا بالوعد والوعيد فقالوا: (هو مؤمن) وهذا أخذٌ منهم بالوعد وقالوا: (إنه ناقص الإيمان) وهذا أخذ منهم بجانب الوعيد.

فهم وسط بين أبواب العقيدة المتناقضة المختلفة، وسط في هذا الباب بين المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة، ووسط في الصفات بين المشبهة والمعطلة، ووسط في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين الروافض والنواصب فعندهم محبة الجميع وعدم الغلو في أحد ولا الجفاء لأحد، فلا جفاء عندهم ولا إفراط.

فهم وسط في أبواب العقيدة المختلفة، وهذا الباب الذي معنا فيما يتعلق بمرتكب الكبيرة واضح، يعني: بأنهم قالوا عن مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، فيُحَبّ على ما عنده من الإيمان ويُبْغَض على ما عنده من الفسق والعصيان فيكون جامعاً بين كونه محبوباً وكونه مبغوضاً، والحب والبغض في الشيء الواحد يجتمعان، فالحب باعتبار والبغض باعتبار، ولا يكون محبوباً بإطلاق ولا مبغوضاً بإطلاق.

أما عند المرجئة فهو محبوب بإطلاق، وعند الخوارج والمعتزلة مبغوض بإطلاق، وعند أهل السنة محبوب باعتبار ومبغوض باعتبار، ويجتمع في الإنسان محبة على ما عنده من الإيمان وبغض على ما عنده من الفسق والفجور والعصيان، وهناك مثال يتضح به الجمع بين الحب والبغض وهو الشيب، الشيب إذا نظر إلى ما قبله وهو الشباب صار غير مرغوب فيه، ولكن بالنسبة لما بعده وهو الموت يصير مرغوباً، فإذا نظر إلى ما بعده صار مرغوباً فيه؛ لأن من هو في المشيب لا يريد الموت، ولكنه بالنسبة للشباب غير مرغوب فيه؛ لأن الشباب هو المرغوب فيه، ولهذا يقول الشاعر:

الشيب كره وكره أن يفارقني ف

أعجب لشيء على البغضاء مودود

وكذلك مرتكب الكبيرة محبوب باعتبار ما عنده من الإيمان ومبغوض على ما عنده من الفجور والعصيان.

شرح حديث (الكبر من بطر الحق وغمط الناس)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -وكان رجلاً جميلاً- فقال: يا رسول الله! إني رجل حبب إليَّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد -إما قال: بشراك نعلي وإما قال: بشسع نعلي- أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا. ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان جميلاً ويحب الجمال فقال: إني كما ترى، ولا أحب أن يفوقني أحد بشراك نعلي أو بشسع نعلي -شك من الراوي- أفمن الكبر ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا. ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.

وبطر الحق رده وعدم قبوله، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم، وأما إذا كان الإنسان يحب الجمال، وليس عنده الشهرة التي هي مذمومة، ولا التعالي والترفع على الناس الذي هو مذموم، فإن ذلك يكون محموداً.

تراجم رجال إسناد حديث (الكبر من بطر الحق وغمط الناس)

قوله: [ قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى ].

أبو موسى محمد بن المثنى الزمن العنزي ،ثقة أخرج له أصحاب الكتب، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عبد الوهاب ].

هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا هشام ].

هو هشام بن حسان ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد ].

هو محمد بن سيرين ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، وقد مر ذكره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الكبر.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد . ح: وحدثنا هناد -يعني: ابن السري - عن أبي الأحوص المعنى: عن عطاء بن السائب -قال موسى : عن سلمان الأغر ، وقال هناد : عن الأغر أبي مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال هناد : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار) ].

قوله رحمه الله تعالى: [ باب في الكبر ] يعني: في تحريمه، وأن صاحبه مذموم ومتوعد، وأن الكبرياء والعظمة إنما هي لله عز وجل، وهو الكبير العظيم المتعالي سبحانه وتعالى، والتعالي والترفع والتكبر والتعاظم من الخلق مذموم؛ لأن المطلوب في حقهم أن يكونوا عبيداً لله مستضعفين، فعليهم أن يتواضعوا لله عز وجل، وألا يتعالوا ويتكبروا على غيرهم.

فأورد أبو داود هذه الترجمة، وهي عن الكبر وبيان ما ورد فيه من الوعيد، ومن التخويف والزجر والردع لمتعاطيه.

أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وهو حديث قدسي: (قال الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في شيء منهما قذفته في النار).

قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) يعني: أن هذه من الخصائص التي يختص بها سبحانه وتعالى، وهي ملازمة لله، وليس لغيره أن يبحث عنها وأن يتطلبها؛ لأن هذه من خصائص الله عز وجل.

وقوله: (إزاري وردائي) الشاهد من الحديث أن الله تعالى مختص بها وأنه لا ينازعه أحد فيها، كما أن من يكون له إزار ورداء من الخلق فإن ذلك الإزار والرداء مختص به ليس لأحد غيره مشاركته فيه.

ومن صفات الله عز وجل (صفة العظمة) و(صفة الكبرياء)، وذكر الإزار والرداء إشارة إلى الاختصاص، وإلى عدم الأحقية في المنازعة فيها، فلا يقال: إن لله إزاراً. ويُسْكَت عن التفصيل، وإنما يقال: إن لله الكبرياء وله العظمة، وأن الله عز وجل بين أنه مختص بها كما أن من يكون من الناس عليه إزار ورداء فإن إزاره ورداءه مختصان به، فدل هذا على أن ذلك من خصائص الله سبحانه وتعالى، وأن ليس لأحد أن يتعاطى ذلك أو يتطلب ذلك أو يبحث عن ذلك أو يؤمل أن يحصل له ذلك؛ لأن هذا خصائص الله سبحانه وتعالى.

وهذا اللفظ الذي جاء في هذا الحديث من جنس اللفظ الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار في غزوة حنين لما وجدوا في أنفسهم أنهم لا يحصل لهم ما حصل للناس، فجمعهم في مكان وتحدث معهم، وقال: بلغني أنكم وجدتم في أنفسكم، إذ لم يحصل لكم ما حصل للناس، قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: (أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ ثم قال: الأنصار شعار، والناس دثار) يعني: الأنصار بمنزلة الشعار، وهو ما يلي الجسد من الثياب، لقربهم منه ولاتصالهم به، (والناس دثار) يعني: مثل الثوب الذي بعد الشعار وليس ملاصقاً للجسد، فهذا بيان للقرب والاختصاص به، وأن لهم الصلة الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الذي في الحديث فيه اختصاص الله عز وجل بالكبرياء، وأنه ليس لأحد أن ينازعه فيها سبحانه وتعالى، فهو الكبير المتعالي ذو الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء، والعظمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.

أما الفرق بين الكبرياء والعظمة فالمعاني متقاربة، والعظمة تكون مثلاً صفة لله عز وجل, والكبرياء تتعلق بأنه ذو الكبرياء على غيره، وأن غيره مفتقر إليه، وأنه بحاجة إليه، يعني: فبعض الصفات وبعض الأسماء تتقارب في معانيها، ويكون بينها فروق دقيقة، وبعضها يكون مماثلاً، مثل: الرحمن والرحيم، كل منهما مشتق من الرحمة، ولكن (الرحمن) أعظم من (الرحيم) ولهذا يطلق على غير الله: رحيم، ولا يطلق على غير الله رحمان، فالرحمن من الأسماء الخاصة به التي لا تطلق على غيره، لا يقال: فلان رحمان، ويقال: فلان رحيم، وقد وصف الله نبيه بأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ولهذا لما قيل لـمسيلمة الكذاب : رحمان اليمامة حصل له لقب ملازم لاسمه وهو الكذاب؛ بحيث لا يقال: مسيلمة فقط، بل يقال: مسيلمة الكذاب كأنه اسم مركب.

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ].

موسى بن إسماعيل مرَّ ذكره.

وحماد هو: ابن سلمة بن دينار ، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ ح: وحدثنا هناد بن السري ].

(ح) معناها التحول من إسناد إلى إسناد.

وهناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي الأحوص ].

أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عطاء بن السائب ].

عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، وهنا يروي عنه أبو الأحوص ، وحماد بن سلمة ، وليسا من الذين سمعوا منه قبل الاختلاط؛ لأن حماد بن سلمة مختلف فيه، ومعلوم أن المختلف فيه كأنه يعتبر غير سامع؛ لأنه لابد من تحقق السماع قبل الاختلاط حتى يقبل حديثه، وأبو الأحوص لم يسمع منه قبل الاختلاط؛ لكن الحديث ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وصحابي آخر بنفس المعنى إلا أن فيه لفظ (العزة) بدل (العظمة).

وعطاء بن السائب ليس من رجال مسلم ولهذا قيل: إنه من رجال البخاري وأصحاب السنن.

[ قال: موسى عن سلمان الأغر ، وقال هناد : عن الأغر أبي مسلم ].

(قال: موسى ) الذي هو الشيخ الأول: (عن سلمان الأغر)، وقال الشيخ الثاني -وهو هناد -: عن الأغر أبي مسلم ، وهما رجلان، ولكن كل منهما ثقة.

سلمان أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأغر أبو مسلم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.

[ قال هناد : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل ].

أي: أن الذي قال: (قال رسول الله..) هو هناد الشيخ الثاني في السند.

في ذكر الإزار والرداء لله سبحانه وتعالى فنقول كما قال الله عز وجل: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) لكن كنوننا نقول: (له إزار) أو (له رداء) ونطلق قد يقطع الكلام ولا يتصل بشيء فيكون شيئاً خطيراً غير لائق بالله سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع