شرح الأربعين النووية [26]


الحلقة مفرغة

يقول الإمام النووي في الأربعين النووية: [ عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) وفي لفظ لـأبي داود : (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ].

هذا حديث عظيم من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم, فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ أصحابه ويتخولهم بالموعظة بين وقت وآخر، وكان مما وعظهم به هذه الموعظة التي رواها العرباض بن سارية رضي الله عنه، وهذه الموعظة متصفة بثلاث صفات: كونها بليغة، وكونها وجلت منها القلوب، وكونها ذرفت منها العيون، والموعظة هي الكلام الذي فيه ترغيب وترهيب, يكون فيه ترقيق للقلب وتخويف وزجر، فيؤثر ذلك في القلب ويوجل، وتدمع العين من الخوف من الله عز وجل.

معنى الموعظة البليغة وبم تكون

يقول العرباض رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والبليغة هي التي بلغت ما بلغت من الفصاحة والبلاغة والتأثير، وكونها تبلغ إلى القلب وتؤثر فيه فيوجل وتدمع العين مع ذلك، وقد وصف الله عز وجل المؤمنين بوجل القلوب وذرف العيون فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] وقال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83].

قال: (وعظنا الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والمواعظ تكون بالكلام الذي يرقق القلب ويؤثر في النفس، وتكون بالآيات وبالأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة، ولا تكون بالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإن هذه لا يشتغل بها، وإنما يشتغل بما صح وثبت، فيكون الترغيب والترهيب بأمور ثابتة ومؤثرة، وأما أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديث موضوع أو حديث ضعيف لا يحتج به وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يشتغل به في الوعظ والتذكير.

حرص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على الخير

لما وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموعظة، وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم حريصين على كل خير والسباقين إلى كل خير قالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا. أي: كأنهم فهموا أن أجله قريب صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه الوصية الجامعة المفيدة التي يعتمدون عليها ويعولون عليها، ومن المعلوم أن الوصية التي يكون معها ذكر التوديع أو فيها ما يشير إلى التوديع لا شك أنه يهتم بها ويحرص عليها ويحرص على استيعابها وعلى تعقلها وفهمها.

وقد يكون حصل في هذه الموعظة كلام يشعر بالتوديع قد يفهمه من يفهمه ويخفى على من يخفى عليه، وذلك مثل ما حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه فقال: (إن عبداً خيره الله بين ما عنده وبين الحياة الدنيا والبقاء فيها فاختار ما عند الله) فكثير من الصحابة لم يتنبهوا للمقصود من ذلك وأبو بكر رضي الله عنه فهم ذلك وجعل يبكي، وفهم من ذلك أنه قرب أجله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو العبد المخير، وأنه قد اختار لقاء الله عز وجل.

وقد تكون الموعظة مشتملة على شيء يشعر بالتوديع، مثل حجة الوداع فإنما سميت حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يشير أو ما يدل على ذلك؛ لأنه قال: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ولهذا قيل لها: حجة الوداع.

وكون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون الوصية يدل على كمال فضلهم وعلى كمال نبلهم وحرصهم على معرفة الحق والهدى، وحرصهم على تحصيل الوصايا العظيمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوصية بتقوى الله تعالى

قال: (قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال عليه الصلاة والسلام: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد) فذكر هاتين الوصيتين:

الوصية الأولى: تقوى الله عز وجل، وتقوى الله عز وجل هي أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار، وأن تكون العبادة لله وفقاً لما جاء عن الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وتقوى الله عز وجل هي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فتقوى الله عز وجل هي الوصية للأولين والآخرين، ويأتي الأمر بتقوى الله كثيراً في القرآن، ولاسيما مع الآيات التي تبدأ بـ(يا أيها الذين آمنوا) التي فيها الخطاب للمؤمنين، فكثيراً من هذه الآيات يأتي بعدها الأمر بالتقوى، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، وهكذا يأتي خطاب الله عز وجل للمؤمنين وبعده الأمر بتقوى الله عز وجل، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرع لها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه. وهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذكره ابن كثير رحمه الله في أول تفسير سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة:1]، ومحله المناسب في أول موضع من القرآن في سورة البقرة, وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] فهذا أول موضع في القرآن، وهو المحل المناسب لأن يذكر فيه، وقد جاءت هذه الجملة في عدة مواضع قبل سورة المائدة ومع ذلك ذكره هناك، ولا شك أن أول سورة بدئت بـيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هي سورة المائدة.

فهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه يقول فيه: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرع لها سمعك, فإنها إما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه. ويأتي أحياناً بعد الخطاب بهذا الوصف للمؤمنين الأمر بتقوى الله عز وجل, وتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وفلاح وسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأن سعادة الدنيا والآخرة إنما تكون في تقوى الله, قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، ويقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، ويقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاِ [الأنفال:29]، ويقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، فتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وصلاح وفلاح في الدنيا والآخرة.

الوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمر

الوصية الثانية: السمع والطاعة لولاة الأمور، وذلك سبب لصلاح الدنيا واستقامة الأمور، وهذه الوصية بالسمع والطاعة مقيدة بأنها في غير معصية, ولما أمر الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمور في سورة النساء قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] فأمر بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وطاعة ولاة الأمور، أعاد الفعل (أطيعوا) مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور, فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما هو حق، وكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الله، فجاء الأمر (أطيعوا) معاداً مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعد مع ولاة الأمور, فما قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم. وإنما قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ وذلك للإشارة إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تجب تبعاً وليست استقلالاً، فهي تبع لطاعة الله ورسوله، أي أنه يسمع لهم ويطاع في حدود ما هو معروف، ولا يسمع لهم ويطاع في المعصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).

كلام العلماء في قوله: (وإن تأمر عليكم عبد)

قال: (وإن تأمر عليكم عبد).

أجمع العلماء على أن العبد لا تصح ولايته ولا تثبت له، وليس هو من أهل الولاية, وأجمعوا على أن الخلافة لا تنعقد للعبد، وأن من شرط الخليفة أن يكون حراً لا أن يكون عبداً؛ لأن العبد منافعه مملوكة لسيده, فلا يصلح للولاية والخلافة، وجاء في الحديث هنا: (وإن تأمر عليكم عبد) فكيف يجاب عما جاء في هذا الحديث مع أن العبد منافعه مملوكة منافعه لسيده وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون خليفة؟

أجاب العلماء عن هذا الحديث وما في معناه بأجوبة:

منها: أن هذا مما يؤتى به على سبيل الفرض والتقدير، وإن كان لا يقع ولا يحصل، وإنما هو للمبالغة في السمع والطاعة، يعني حتى ولو تأمر عليكم عبد فعليكم بالسمع والطاعة، فيكون المقصود من ذكره هنا المبالغة, وأنه لو حصل فإنه يجب أن يسمع له ويطاع, وإن كان ذلك لا يحصل ولا يقع من ناحية الاختيار، وأنه لا يختار الخليفة من العبيد، وإنما يكون من الأحرار.

الجواب الثاني: أنه يكون مؤمراً من الخليفة على قرية أو على جماعة، فالخليفة إذا عين عبداً ليكون أميراً على قرية أو أميراً على جماعة مسافرين أو ذهبوا في مهمة في سرية أو في غيرها فعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وعلى هذا فيكون المراد ليس في الولاية العامة، وإنما هو في ولاية خاصة من قبل الأمير أو الخليفة.

الجواب الثالث: أنه عندما صار خليفة كان حراً، ولكن سبق له رق, ولكنه عتق فصارت منافعه ملكاً له، فهو عند توليته حر ولكنه كان عبداً فيما مضى، فيكون قوله: (وإن تأمر عليكم عبد) باعتبار ما مضى لا باعتبار الحال, ويكون هذا نظير قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2] فإن إعطاءهم الأموال يكون بعد البلوغ، ولكنهم قيل لهم: يتامى باعتبار ما كان لا باعتبار الحال؛ لأنه في حال يتمهم وقبل بلوغهم لا يدفع لهم المال, ولكنه يدفع لهم بعد البلوغ والرشد، ولهذا قال عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] يعني: ذهب الصغر وحصل البلوغ وجاء التكليف فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فدل على أن أموالهم لا تعطى إليهم في حال يتمهم، وإنما تعطى لهم بعد البلوغ.

إذاً: فقول الله عز وجل: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ليس المراد به حال يتمهم وإنما باعتبار ما كان، ففي الوقت الذي أعطوا فيه أموالهم كانوا بالغين، ولكن قيل لهم: يتامى باعتبار ما كان.

الجواب الرابع: أنه إذا صار له شوكة وقوة وتغلب على الناس وقهر الناس بقوته وشوكته حتى استقرت له الأمور واستتب له الأمن فعند ذلك يسمع له ويطاع ولو كان عبداً، فلم يحصل اختياره، ولكنه بالتغلب والقهر والغلبة استقرت له الأمور، فإنه حينئذٍ يسمع له ويطاع. فيكون ما جاء في هذا الحديث وما في معناه من السمع والطاعة للأمير ولو كان عبداً محمولاً على هذه الأمور التي ذكرها العلماء، فيسمع له ويطاع وإن كان عبداً بهذه الاعتبارات التي ذكرها العلماء، وإلا فإنه ليس أهلاً للخلافة وليس أهلاً للولاية؛ لأن من شرط الخليفة أن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره وليست ملكاً لغيره.

الاختلاف في الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم

قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) هذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإنه أخبر عن أمر مستقبل لم يقع، وكل أمر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من الأمور المستقبلة لابد أن يقع؛ لأنه لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4], فأخباره صادقة، سواء كانت ماضية أم مستقبلة أم موجودة غير مشاهدة ولا معاينة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه من يعش من أصحابه فإنه سيدرك التفرق والاختلاف الكثير, فالاختلاف ليس قليلاً، بل هو كثير، ولذلك قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فليس هو مجرد اختلاف ومجرد فرقة، بل الاختلاف كثير، فكم من تفرق واختلاف وتشعب وافتراق! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة, وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وقد وقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام, فإن من عاش من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك تلك الفتن وذلك الاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم والانحراف عن الجادة، فحصل خروج الخوارج وظهور القدرية وظهور الروافض, وكل ذلك حصل في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد ورد أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قدما من العراق حاجين ومعتمرين، وكان قد ظهر في البصرة معبد الجهني وغيره من القائلين بالقدر وأن الأمر أنف، فلقيا عبد الله بن عمر فأخبراه بما حصل فقال: إذا لقيتم هؤلاء فأخبروهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني. ثم قال: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لا يؤمن أحدهم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. ثم ساق حديث جبريل الذي اشتمل على قوله: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).

فهذا الاختلاف وجد في عصر الصحابة، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن ومن الانحراف في بعض أمته عن الصراط المستقيم وخروجهم عن الجادة.

طريق العصمة من الاختلاف

ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أن من عاش سيرى الاختلاف الكثير كأنه قيل: يا رسول الله! فما تأمرنا به أمام هذا الاختلاف؟ وما هو طريق السلامة والعصمة والنجاة عند وجود هذا الاختلاف؟

فجاء الجواب في قوله: (فعليكم بسنتي) فهذا هو السبيل الوحيد وطريق السلامة وطريق النجاة عند الاختلاف، وهو التمسك بالسنة والتمسك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون الهادون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر عند هذا الاختلاف بشيئين، فحث وحذر, ورغب ورهب: حث على اتباع السنن وحذر من البدع, حث على السنن بقوله: (فعليكم بسنتي) وحذر من البدع بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور), ففي ذلك ترغيب وترهيب, وفيه حث وتحذير, حث على اتباع السنن في قوله: (فعليكم) و(عليكم) اسم فعل أمر و(إياكم) بمعنى: احذروا. ففي ذلك الترغيب والترهيب, رغب في اتباع السنن وحذر من البدع صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

معاني السنة

قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) المراد بسنته طريقته صلى الله عليه وسلم, والسنة تطلق إطلاقات أربعة، وأوسعها وأشملها أن المراد بها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في الكتاب والسنة، فكل ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني)؛ لأن ما جاء في الكتاب والسنة كله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, وكذلك هذا الحديث: (عليكم بسنتي) يعني الكتاب والسنة, فكل ما جاء به الكتاب والسنة هو سنته صلى الله عليه وسلم، فتكون السنة هنا شاملة لكل شيء جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء ما يتعلق بالاعتقاد أو يتعلق بالعبادات أو يتعلق بالمعاملات أو يتعلق بالأخلاق والآداب, فكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سنته, وهذا هو أوسع معاني السنة.

ومن المعاني التي يطلق عليها لفظ السنة الحديث, فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: سنته، ومن أمثلة ذلك ما يأتي في كتب المحدثين الذين يشرحون الأحاديث، وكذلك في كتب الفقهاء عندما يأتون إلى مسألة معينة فيقدم الفقيه منهم ويمهد للكلام عليها فيقول: وقد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.

فحيث عطفت السنة على الكتاب يراد بها خصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل: دل الكتاب والسنة فالسنة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكتاب تقدم قبلها، فيراد بها خصوص الحديث، وهذا المعنى أقل من الأول؛ لأن المعنى الأول السنة فيه تشمل الكتاب والسنة.

وأيضاً من معانيها السنة في مقابل البدعة, وهي تتعلق بمسائل الاعتقاد، فما يتعلق بمسائل الاعتقاد فصاحبه إذا كان متبعاً لما دلت عليه النصوص يقال له: سني. ومن كان على خلاف ذلك يقال له: بدعي. ويقال: سنة وبدعة.

ومن إطلاق السنة مراداً بها هذا المعنى الكتب التي ألفت بهذا الاسم، مثل (السنة) لـابن أبي عاصم ، و(السنة) للالكائي ، و(السنة) للطبراني ، و(السنة) لـعبد الله بن الإمام أحمد ، و(السنة) للإمام أحمد ، وغيرها من الكتب التي باسم السنة، فإن المقصود بها ما يتعلق بالعقيدة، وما يعتقد طبقاً للسنة مخالفاً لما هو بدعة.

والمعنى الرابع من معاني السنة -وهو في اصطلاح الفقهاء-: المندوب أو المستحب, وهو المأمور به ليس على سبيل الإيجاب وإنما على سبيل الاستحباب، وهو الذي يعرفه الفقهاء والأصوليون بقولهم: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم، وإنما طلباً مستحباً مرغباً فيه؛ لأنه لا يأثم من تركه, لكن من ترك المندوب رغبة عنه يكون بذلك قد رغب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون بذلك آثماً.

إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي) المراد بسنته طريقته ومنهجه، وذلك باتباع الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة, فهذا هو الحق والهدى الذي أُمر باتباعه وسلوكه، ثم اتباع سنة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهم -كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم- راشدون، والراشد ضد الغاوي, وهم مهتدون، والمهتدي ضد الضال، فهم أهل الرشد وأهل الهداية رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين، أي أن الناس يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه خلفاؤه الراشدون الهادون المهديون رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلافتهم بأنها خلافة نبوة، كما ثبت من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).

فأخبر في هذا الحديث -حديث العرباض بن سارية - أنهم راشدون وأنهم مهديون، وأمر باتباع طريقتهم واتباع سنتهم، وأخبر في حديث سفينة بأن خلافتهم خلافة نبوة، وأنها على منهاج نبوة، وبعد ذلك يؤتي الله ملكه من يشاء.

الحض على التزام سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بعده

قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ), حث على اتباع السنة بقوله: (فعليكم)، و(عليكم) بمعنى: الزموا. فهو اسم فعل أمر، ثم أكد ذلك بقوله: (عضوا عليها بالنواجذ) بالإضافة إلى قوله: (عليكم)، وهذا مبالغة في شدة التمسك بها والعض عليها والأخذ بها؛ وعدم التهاون بها أو التقصير في الأخذ بها، وذلك لأن الإنسان يعض بنواجذه على ما يأكله، فكذلك هنا شبه التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم والتزامها بالعض عليها بالنواجذ، والنواجذ هي آخر الأضراس.

التحذير من البدع

ولما رغب عليه الصلاة والسلام في اتباع السنن وحث عليها رهب بعد ذلك من خلافها ومما يخالفها من البدع المحدثة، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، ومحدثات الأمور هي الاختلاف الكثير الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الترغيب والترهيب حيث قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فهذا الاختلاف الكثير هو من البدع في العقائد التي ظهرت، كالجبرية, والقدرية، والمرجئة، والخوارج وما إلى ذلك من البدع، وكل هذه من محدثات الأمور، وكلها من التفرق والاختلاف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من عاش من أصحابه فسيدرك شيئاً منه.

قوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) أي: تلك الأمور التي حصل الاختلاف فيها، والتي خرج أصحابها عن الجادة وعن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون, فهذا هو الذي يحذر منه، وهذا هو الذي يرهب منه.

وجاء في سنن أبي داود : (فإن كل محدثة بدعة) أي: هذه المحدثات ليس لها أساس في الدين ولم تكن مبنية على نص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه، فهي من المحدثات المنكرة المبتدعة التي لا يجوز الأخذ بها، والتي يجب الحذر منها والابتعاد عنها, وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

فهذه المحدثات مردودة على صاحبها ولا ينتفع بها صاحبها، بل هي مردودة عليه؛ لأنها مخالفة للسنة، ولأنها محدثة على خلاف السنة, ولذلك قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وهنا قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) فأي محدثة في دين الله باطلة؛ لأنه ليس لها أساس في دين الله، ولا يدل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هل في الدين بدعة حسنة؟

المحدثات في الدين هي البدع (وكل بدعة ضلالة) وهذا لفظ عام يشمل البدع كلها التي أحدثت في الدين مما ليس له أساس، فإن كل بدعة في الدين هي ضلال؛ لأنها مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولا يستثنى من ذلك شيء، ولا يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلال) فكيف يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة؟!

ليس في الإسلام بدعة حسنة, بل البدع كلها ضلال كما جاء في هذه الجملة العامة, وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. فإن استحسنها الناس واستساغوها وألفوها فإنها إذا لم يكن لها أساس في الدين فإنها مما أحدث ومما ابتدع، وهي ضلال, ولا يستثنى من ذلك شيء, فليس في الإسلام بدعة حسنة, وقد جاء عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه قال: من زعم أن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ثم قال: ما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً.

يعني: ما لم يكن يومئذ ديناً -يعني يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- فإنه لا يكون اليوم ديناً.

فالدين في هذا الزمان وفي كل زمن هو الدين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أما هذه البدع المحدثة المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فهي ضلال، وقد حمى الله عنها وحفظ الله منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتلي بها من بعدهم, فلا يجوز ولا يعقل أن يقال: إن هذه الأمور المحدثة التي أحدثها الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حق وهدى! فكيف تكون حقاً وهدى ويحجب عنها الصحابة ويظفر بها أناس يجيئون بعدهم؟! فهذا ليس بمعقول ولا مقبول, بل الحق والهدى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جاء في هذا الحديث: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا هو الحق والهدى, وكذلك قوله في حديث افتراق الأمة حين قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (الجماعة) وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) هذه هي الفرقة الناجية، وهؤلاء هم أهل السنة, وهم الجماعة، وهم الناجون، وهم السالمون، وهم الذين على الهدى، ومن كان على خلاف ذلك فليس على هدى وإنما هو على ضلال.

فتلك الأمور المحدثة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أخبر بأنها ستقع لا يجوز أن يقال: إنها حق. ولو كان الأمر كذلك لكان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما ظفروا بهذا الحق, وهذا باطل؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم السباقون إلى كل خير، وهم الذين ظفروا بكل خير، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما قال ذلك مالك رحمة الله عليه, فلا يمكن للآخرين أن يصلحوا بشيء ما صلح به الصحابة.

إذاً: البدع جاءت بعد الصحابة وليست على منهاج الصحابة، وليست على طريقة الصحابة، وإنما هي مخالفة لما كان عليه الصحابة، فهي محدثات وبدع وضلال، ولا يجوز الالتفات إليها ولا يجوز التعويل عليها، وإنما التعويل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

ضرر مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع

جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جاء إلى أناس متحلقين في المسجد وفي أيديهم حصى وفيهم شخص يقول: هللوا مائة، كبروا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة. فيعدون بالحصى, فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود فقال: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنكم مستفتحو باب ضلالة. أي: هذا ما كان الصحابة يعرفونه, وما كان هذا من هدي الصحابة، وما كان من عمل الصحابة، فأنتم بين واحدة من اثنتين: إما أنكم أحسن من الصحابة، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.

فهموا أن الأولى منتفية، ولا يمكن أن يكونوا أحسن من الصحابة، ولا يمكن أن يكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة, فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن ! ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لم يصبه. فليست القضية في كون الإنسان يقول: أنا قصدي طيب وأنا قصدي حسن، وما دام قصدي طيباً حسناً فليس هناك بأس ولو كان الذي أعمله ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فلابد أن يعبد الله وفقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة أن محمداً رسول الله معناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع, ولا يعبد بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان, وإنما يعبد بالسنن وبما جاء في الكتاب والسنة، فهذا هو الذي يعبد الله عز وجل به, فشريعة الله عز وجل كاملة لا نقص فيها, ولا تحتاج إلى إضافات، ولا تحتاج إلى بدع محدثة, وكلام الإمام مالك الذي أشرت إليه آنفاً واضح جداً حيث قال: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة.

فما دام أن ما يفعله المبتدع حسن فمعنى ذلك أن الدين ناقص يحتاج إلى تكميل, ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغ هذا الشيء الذي الناس بحاجة إليه.

ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الناس كل ما يحتاجون إليه, فما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا دل الأمة عليه, وما ترك أمراً يباعد من الله إلا حذر الأمة منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما يبين تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور حتى آداب قضاء الحاجة، فقد قال بعض الناس لـسلمان رضي الله عنه: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: (نعم علمنا ألا نستنجي برجيع ولا بعظم، وأن نستنجي بثلاثة أحجار... ) وذكر شيئاً من آداب قضاء الحاجة.

فكيف تبين الشريعة آداب قضاء الحاجة ولا تبين أصول الدين حتى يأتي أناس بعد الصحابة يحدثون أموراً منكرة ويقولون: هذه هي العقيدة وهذا هو الحق والهدى؟! كيف يكون شيء ما عرفه الصحابة وما ظفر به الصحابة حقاً وهدى؟! أيحجب خيراً عن الصحابة ويدخر لأناس؟!

لا شك أن الذي حجب عنهم ضلال، والذي ابتلي به الذين جاءوا بعدهم ضلال، ولو كان خيراً لسبقوا إليه, لكنه شر فسلموا منه وابتلي به من بعدهم، فرضي الله تعالى عن الصحابة وأرضاهم، وعلى هذا فإن البدع كلها ضلال بنص هذا الحديث الذي قال فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة).

هذا هو حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الحديث العظيم المشتمل على هذه القواعد العامة وعلى هذه الوصايا النافعة الجامعة ممن أوتي جوامع الكلم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

يقول العرباض رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والبليغة هي التي بلغت ما بلغت من الفصاحة والبلاغة والتأثير، وكونها تبلغ إلى القلب وتؤثر فيه فيوجل وتدمع العين مع ذلك، وقد وصف الله عز وجل المؤمنين بوجل القلوب وذرف العيون فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] وقال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83].

قال: (وعظنا الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والمواعظ تكون بالكلام الذي يرقق القلب ويؤثر في النفس، وتكون بالآيات وبالأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة، ولا تكون بالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإن هذه لا يشتغل بها، وإنما يشتغل بما صح وثبت، فيكون الترغيب والترهيب بأمور ثابتة ومؤثرة، وأما أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديث موضوع أو حديث ضعيف لا يحتج به وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يشتغل به في الوعظ والتذكير.