شرح الأربعين النووية [22]


الحلقة مفرغة

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، رواه البخاري].

هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الإخبار عن الرسالات السابقة وأنها تواردت على بيان عظم شأن الحياء وأنه يأتي بخير، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحياء مما توارثته الأمم وجاء في الشرائع، وهو مما لم ينسخ في الشرائع؛ بل كل شريعة تأتي وفيها بيان هذا الخلق العظيم الذي هو الحياء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)، أي: النبوات السابقة التي كانت قبل نبوة نبينا محمد وقبل رسالته عليه الصلاة والسلام.

وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، يحتمل أن يكون المراد به مدحاً وأن يكون المراد به ذماً.

فيراد به المدح إذا لم يكن هذا الفعل الذي تفعله مما لا يستحيا فيه من الله ومن الخلق فإنه يفعل، وهذا هو المحمود.

ويراد به الذم إذا كان الإنسان ليس عنده حياء ولا يستحيي من الله ولا من خلقه، فإنه يقدم على أمور غير سائغة وأمور محرمة؛ لأنه ليس عنده حياء يحجبه وليس عنده هذا الخلق الكريم الذي يمنعه.

وعلى هذا المعنى الثاني يكون قوله: (فاصنع ما شئت)، من قبيل التهديد والوعيد، وأن الإنسان إذا كان كذلك فإنه يصنع ما يشاء وسيلقى جزاءه، وليس المعنى أنه أذن له بأن يفعل الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز، وإنما هذا من باب التهديد نظير قول الله عز وجل: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فإن هذا ليس تخييراً وليس أمراً له بأن يفعل هذا أو هذا؛ لأنه قال بعد ذلك: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29].

وكل من المعنيين صحيح، فإذا كان المقصود أن الإنسان إذا لم يكن فعله مما لا يستحيا منه بل هو سائغ ومشروع، فإنه يفعله، فإن هذا معناه صحيح، وإذا كان المقصود به أن الإنسان الذي ليس عنده حياء يحجبه ويمنعه من الوقوع فيما لا ينبغي، فإنه يقدم والحالة هذه على فعل أمور لا يسوغ له فعلها، فيكون معرضاً نفسه للعقوبة، فهذا أيضاً معنى صحيح.

هذا هو معنى هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، والذي يدل على فضل خلق الحياء وأنه خلق كريم، وأن المتصف به يمنعه حياؤه من الوقوع في الأمور المحرمة التي لا تسوغ ولا تجوز.

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث

قال ابن رجب رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة، وفي بعض الروايات قال: (لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا) خرجها عبيد بن زنجويه وغيره.

وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) في معناه قولان: أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] وقوله: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:15]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعددة، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس ثعلب ».

«والطريق الثاني: أنه أمر ومعناه الخبر، والمعنى: أن من لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر».

فيكون من قبيل الأمر الذي هو بمعنى الخبر، والأمر يأتي بمعنى الخبر كما أن الخبر يأتي بمعنى الأمر، وهذا من الأمر المراد به الخبر، ومثال الخبر المراد به الأمر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] يعني: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.

قال: "وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول.

واعلم أن الحياء نوعان:

أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار.

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقى).

وقال الجراح بن عبدالله الحكمي وكان فارس أهل الشام: (تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع)، وعن بعضهم قال: (رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة).

والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمان له.

والقول الثاني في معنى قوله (إذا لم تستح فأصنع ما شئت): أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحى من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت، وهذا قول جماعة من الأئمة منهم: أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد".

أنواع الحياء

والحياء منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، والمحمود هو الذي يحجز عن المعاصي، والمذموم هو الذي فيه خور وضعف وجبن، قال ابن رجب رحمه الله: «وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء حياءان: طرف من الإيمان، والآخر عجز)، ولعله من كلام الحسن.

كذلك قال بشير بن كعب العدوي لـعمران بن حصين: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفاً، فغضب عمران وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟».

وقصده الممدوح؛ لأن الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به هو الممدوح.

قال: «والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء، إنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة، والله أعلم».

قال رحمه الله: «وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير ، قال: معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس، كأنه يخاف الرياء».

وهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان جلس للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإذا رأى فيه رغبه في المعاصي وعزوفاً عن الطاعات أعانه على ترك الطاعات وفي الانهماك في المعاصي والوقوع فيها، وإذا رأى أنه مقبل على العبادة ومبتعد عن المعاصي جاءه من هذه الجهة، وقال له: يمكن أن يقال إن هذا رياء، يمكن أنك تفعلها من أجل الناس، فيترك الإنسان ذلك، فالشيطان يأتي للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإن رآه مقصراً وراغباً في المعاصي مائلاً إليها أعانه على ترك الخير والوقوع في الأمر المحرم، وسول له وسوَّف، وقال: إن هذا هو الذي ينبغي لك أن تفعله، وإذا رآه بعيداً عن المعاصي مقبلاً على العبادة جاء من أجل إفساد العبادة، وقال: إن هذا فيه رياء، ولا تفعل حتى لا يقال كذا وكذا.

وهذا المعنى لهذا الحديث مستبعد.

يقول: «فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت، كما جاء في الحديث: (إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائي، فزدها طولاً)، ثم قال أبو عبيد : وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير، ولا على هذا يحملها الناس، قلت: لو كان على ما قاله جرير لكان لفظ الحديث: إذا استحييت مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم».

قال ابن رجب رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة، وفي بعض الروايات قال: (لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا) خرجها عبيد بن زنجويه وغيره.

وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) في معناه قولان: أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] وقوله: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:15]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعددة، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس ثعلب ».

«والطريق الثاني: أنه أمر ومعناه الخبر، والمعنى: أن من لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر».

فيكون من قبيل الأمر الذي هو بمعنى الخبر، والأمر يأتي بمعنى الخبر كما أن الخبر يأتي بمعنى الأمر، وهذا من الأمر المراد به الخبر، ومثال الخبر المراد به الأمر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] يعني: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.

قال: "وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول.

واعلم أن الحياء نوعان:

أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار.

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقى).

وقال الجراح بن عبدالله الحكمي وكان فارس أهل الشام: (تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع)، وعن بعضهم قال: (رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة).

والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمان له.

والقول الثاني في معنى قوله (إذا لم تستح فأصنع ما شئت): أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحى من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت، وهذا قول جماعة من الأئمة منهم: أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد".

والحياء منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، والمحمود هو الذي يحجز عن المعاصي، والمذموم هو الذي فيه خور وضعف وجبن، قال ابن رجب رحمه الله: «وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء حياءان: طرف من الإيمان، والآخر عجز)، ولعله من كلام الحسن.

كذلك قال بشير بن كعب العدوي لـعمران بن حصين: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفاً، فغضب عمران وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟».

وقصده الممدوح؛ لأن الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به هو الممدوح.

قال: «والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء، إنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة، والله أعلم».

قال رحمه الله: «وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير ، قال: معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس، كأنه يخاف الرياء».

وهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان جلس للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإذا رأى فيه رغبه في المعاصي وعزوفاً عن الطاعات أعانه على ترك الطاعات وفي الانهماك في المعاصي والوقوع فيها، وإذا رأى أنه مقبل على العبادة ومبتعد عن المعاصي جاءه من هذه الجهة، وقال له: يمكن أن يقال إن هذا رياء، يمكن أنك تفعلها من أجل الناس، فيترك الإنسان ذلك، فالشيطان يأتي للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإن رآه مقصراً وراغباً في المعاصي مائلاً إليها أعانه على ترك الخير والوقوع في الأمر المحرم، وسول له وسوَّف، وقال: إن هذا هو الذي ينبغي لك أن تفعله، وإذا رآه بعيداً عن المعاصي مقبلاً على العبادة جاء من أجل إفساد العبادة، وقال: إن هذا فيه رياء، ولا تفعل حتى لا يقال كذا وكذا.

وهذا المعنى لهذا الحديث مستبعد.

يقول: «فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت، كما جاء في الحديث: (إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائي، فزدها طولاً)، ثم قال أبو عبيد : وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير، ولا على هذا يحملها الناس، قلت: لو كان على ما قاله جرير لكان لفظ الحديث: إذا استحييت مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم».

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)، رواه مسلم].

هذا الحديث أيضاً من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وفيه حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أمور الدين وعلى معرفة الحق والهدى، وسؤالهم النبي عليه الصلاة والسلام عن أمور جامعة يعول عليها الإنسان ويستفيد منها.

وهذا يدل على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك)، ومعناه: قل لي قولاً واضحاً جلياً آخذ به وأعمل به، فهو يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الخير وعلى التفقه في الدين، وعلى معرفة الحق والهدى، ولا شك أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرصهم عليه، وقد اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه وأوجدهم في زمانه فشرفهم بصحبته وبالجهاد معه وبالدفاع والذب عنه، وبأخذ الشريعة منه ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالله يشمل الأمور الظاهرة والباطنة

وقد أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلمتين فقال له: (قل آمنت بالله ثم استقم).

فأمره بأن يقول: (آمنت بالله)، والإيمان هنا جاء مطلقاً وعاماً، فيدخل فيه الأمور الباطنة والأمور الظاهرة، ومعنى ذلك: أن الإنسان يؤمن بالله عز وجل وبما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصدق بذلك ويؤمن به، ثم بعد ذلك يستقيم على ملازمة الحق والهدى الذي هو الإيمان بالله عز وجل الذي يكون جامعاً بين الأمور الباطنة والأمور الظاهرة.

وهو قد سأله عن الإسلام فقال: (قل لي في الإسلام)، فقال: (قل: آمنت بالله)، فدلنا هذا على أن قوله: (آمنت بالله)، يدخل فيه الأمور الظاهرة والأمور الباطنة؛ لأنا قد عرفنا فيما مضى أن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، بحيث يكون الإيمان للأمور الباطنة ويكون الإسلام للأمور الظاهرة، وإذا جاء أحدهما مستقلاً عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، فهنا قوله: (آمنت بالله)، يدخل فيه الأمور الظاهرة والباطنة.