شرح الأربعين النووية [16]


الحلقة مفرغة

قال الإمام النووي رحمه الله: [ عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثيرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . رواه البخاري و مسلم ].

هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته، واسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، وهو رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.

والأحاديث التي أحصيت ودونت كان أكثر الرواة فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة ، والذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة، هم: أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و أبو سعيد الخدري و أنس و جابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم، ستة رجال وامرأة واحدة، و أبو هريرة هو أكثر السبعة؛ لأن أحاديثه بلغت الآلاف.

ومن المعلوم أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر في السنة السابعة، ومعلوم أن من الصحابة من كان إسلامه بمكة، ومنهم من كان إسلامه بالمدينة وقد سبق أبا هريرة ، ولكن ليس هناك أحد من الصحابة بلغ بالكثرة مثلما بلغ أبو هريرة ويرجع ذلك لأمور منها:

الأمر الأول: ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه منذ أسلم لازم النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يذهب معه إذا ذهب، ويأكل معه إذا أكل، ويحضر مجلسه إذا جلس، فكان ملازماً له صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ فذلك من أسباب كثرة حديثه؛ لأن كثيراً من الصحابة كانوا يحضرون مجالسه أحياناً ويغيبون أحياناً لجمع الأرزاق ولقضاء الحاجات، وأما أبو هريرة فإنه كان ملازماً له يأكل معه إذا أكل، ويشرب معه إذا شرب، ويسمع منه حديثه صلى الله عليه وسلم، ولذا صارت روايته بهذه الكثرة.

والأمر الثاني: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.

والأمر الثالث: أنه كان ممن بقي بالمدينة وعُمّر ومكث فيها مدة طويلة، وكان الناس يفدون إلى المدينة ويصدرون منها، ومن المعلوم أن المدينة يأتيها الناس بسبب إلى المسجد المبارك الذي هو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، ومن المعلوم أنه إذا كان في المدينة أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الوافد إليها سواء كان من الصحابة أو التابعين يحرص على لقاء ذلك الصحابي المقيم في المدينة، وإذا لقيه أخذ منه ما عنده من الحديث، وكل يحدث بما عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـأبو هريرة كان يحدث وغيره كان يحدثه.

ومعلوم أن رواية الصحابة بعضهم عن بعض مثل رواية بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كلها مضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أضاف الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً سواء سمعه منه مباشرة أو من غيره، فإن ذلك الحديث مضاف إلى رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فهذه أسباب ثلاثة تبين السبب في كون أبي هريرة كان كثير الحديث مع أنه لم يسلم إلا في السنة السابعة، ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا من تلك السنة.

وهؤلاء السبعة المكثرون جمعهم السيوطي في الألفية في علوم الحديث، فقال:

والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر

وأنس البحر كالخدري وجابر وزوجة النبي.

وصاحب (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال) وهو الخزرجي له عناية في بيان أعداد الأحاديث لكل صحابي في الكتب الستة، ثم الإشارة إلى العدد المتفق عليه بين البخاري و مسلم والعدد الذي انفرد به البخاري والعدد الذي انفرد به مسلم ، فمثل هذا يمكن أن يستفاد من كتاب الخلاصة (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال) للخزرجي وهو تلخيص لكتاب (تذهيب تهذيب الكمال) للذهبي ؛ لأن كتاب (تهذيب الكمال) هو للمزي ، وتفرع عنه خطان بعضهما متصل بالآخر، فـالذهبي هذبه في كتاب سماه (تذهيب تهذيب الكمال) والحافظ ابن حجر هذبه بكتاب سماه (تهذيب تهذيب الكمال)، واختصر الحافظ كتابه بخلاصة مختصرة في كتاب سماه (تقريب تهذيب تهذيب الكمال) والخزرجي لخص كتاب الذهبي (تذهيب تهذيب الكمال) بالخلاصة المسماة (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال).

ومن فوائد هذه: عنايته ببيان أعداد الأحاديث التي للصحابة في الكتب الستة، فعندما يأتي بترجمة الراوي يقول: له كذا حديث، اتفق البخاري و مسلم على كذا وانفرد البخاري بكذا و مسلم بكذا.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، وهذه الجملة من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دخل فيها الأمر بفعل كل مأمور به على قدر الطاقة وعلى قدر الاستطاعة، والنهي عن الإتيان أو الإقدام على كل منهي عنه مطلقاً، بدون تقييد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، وما قال: ما استطعتم، وإنما أطلق؛ لأن المناهي تروك والتروك مستطاعة، فالإنسان يستطيع ألا يفعل، وأما الأوامر فقيدت بالاستطاعة؛ لأنها تكليف بفعل مطلوب الإتيان به، فقد يستطاع وقد لا يستطاع، ولكن الإنسان يأتي به على قدر استطاعته، كما قال عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؛ فلهذا قيد الأمر بفعل المأمورات بالاستطاعة، ولم يقيد ترك المنهيات بالاستطاعة؛ لأن تركها مستطاع، وكل يستطيع ألا يفعل، لكن ليس كل يستطيع أن يفعل؛ لأن الفعل هو تكليف وأوامر.

فمثلاً: الصلاة مطلوب من الإنسان أن يأتي بها قائماً إذا كان في الفريضة، ولا يجوز ولا يصح الإتيان بها جالساً إذا كان قادراً على القيام، والإنسان مأمور بأن يصلي، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإنسان يصلي على قدر طاقته، كما جاء في حديث عمران بن حصين : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) .

وهذا من أمثلة قوله: (فأتوا منه ما استطعتم)، يعني: أن الإنسان يأتي بالعمل على قدر طاقته، كما قال عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، يأتي به على قدر طاقته، ولا يلزم بأن يعمل شيئاً لا يطيقه، فإنسان لا يستطيع أن يقوم لا يلزمه أن يقوم.

وأما النواهي فهي التروك، والتروك مستطاعة، فإذا قيل: لا تشع بالخبر فلا تشعه، لا تزن فلا تزن.. لا تراب فلا تراب.. لا تسرق فلا تسرق.. لا تخن فلا تخن.. لا تغتب فلا تغتب.. فهذه كلها تروك، فإذا قيل: اترك فاترك، لأن الترك مستطاع.

وأما الأمر: فهو الذي قد يستطاع وقد لا يستطاع، والإنسان يأتي به على قدر طاقته، قال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] .

وهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فالإنسان مأمور أن يتوضأ، فإذا لم يجد ماءً يكفي للوضوء ولكنه يجد شيئاً يكفي للبعض، فإنه يتوضأ بالموجود ويتيمم للباقي؛ لأن هذا هو الذي يستطيعه، وكذلك الإنسان لابد أن يخرج زكاة الفطر، فمن وجبت عليه زكاة الفطر وهو يستطيع الصاع يدفع صاعاً، لكن من لم يستطع إلا نصف الصاع فيدفع نصف الصاع؛ لقوله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فيأتي بقدر ما يستطيعه، ولا يقال: إنه إن حصل صاعاً فإنه يفعل وإن لم يحصل إلا أقل من صاع لا يفعل؛ لأن نصف الصاع يكفي ويغني وفيه فائدة للمحتاجين.

فإذا كان عنده زيادة عن حاجته بمقدار نصف الصاع وليس عنده صاع فإنه يدفع نصف الصاع، ونصف الصاع يكفي لمن هو محتاج إليه، ولمن ليس بيده شيء أصلاً، لكن الحد المطلوب والقدر المطلوب هو صاع، لكن من لا يستطيع الصاع واستطاع دونه فإنه يفعله، لكن لا يقال هذا في كل شيء، فالإنسان إذا لم يستطع أن يصوم إلا نصف النهار فهل نقول: إنه يصوم نصف النهار ويفطر النصف الآخر؟

الجواب: لا؛ لأن الصوم لا يتجزأ، وإنما له بداية وله نهاية.

فالإنسان الذي يأتي به، والإنسان الذي لا يأتي به فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ولا يقال: إن الإنسان يمكن أن يصوم بعض الوقت ويفطر في أثناء النهار؛ لأنه يستطيع أن يصوم نصف النهار ولكن لا يستطيع صيام النهار كاملاً، فليس هذا من هذا القبيل الذي يجوز؛ لأن ذلك يقبل التجزئة وهذا لا يقبل التجزئة، وإن كان الإنسان قدم مسافراً وكان مفطراً لكونه مسافراً، فقد وصل البلد وانتهى حكم السفر، فإنه يمسك البقية، ولا يجوز له أن يأكل ما دام أنه مقيم ولو كان بعض النهار الذي هو آخره؛ لأن الأكل أبيح له لعارض، فلما انتهى ذلك العارض وصار من المقيمين صار حكمه حكم المقيمين، ويلزمه أن يمسك بقية اليوم، كما أن القضاء متعين عليه؛ لأنه لم يصم ذلك اليوم، لكنه لا يأكل ولا يشرب وهو حاضر، ولو أنه كان في أول النهار من أهل الأعذار الذين لهم أن يأكلوا، لكن العذر زال فعليه أن يمسك، ولا يستفيد من هذا الإمساك شيئاً، بمعنى: أنه لا يمكن أن يغني عن الواجب، بل لابد أن يقضي يوماً مكان ذلك اليوم.

وكما قلت: إن هذا مقيد بالاستطاعة، والترك لم يقيد بالاستطاعة، فهذا هو الفرق؛ لأن هذه تروك وهذه أفعال، يتضح ذلك في الأمور الحسية، والأمور المشاهدة المعاينة، فمثلاً: لو قال إنسان: لا تدخل من هذا الباب. فإنه يستطيع أن لا يدخل من هذا الباب، ولا يصعب عليه، بل يستطيع ألا يدخل، فهذا ترك وهو مستطاع، لكن لو قال له: احمل هذه الصخرة. فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع، فهذا فعل وتكليف، وقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع حملها.

فالأوامر قد تستطاع وقد لا تستطاع، والنواهي مستطاعة، ولا يقال: إنها غير مستطاعة، بل هي مستطاعة، فعلى الإنسان أن يمتثل المأمور على حسب استطاعته، وأن يترك المنهي مطلقاً.

من الأوامر ما يكون واجباً، ومنها ما يكون مستحباً ومندوباً، فالواجب: لابد من الإتيان به، ولولم يأت به فإنه يأثم، ويستحق العقوبة، وأما المندوب: ففيه تكميل، وفيه فضل وثواب، وتكمل الفرائض بالنوافل إذا حصل فيها نقص، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كانت العبادة واجبة فيتعين الإتيان بها، وإذا كانت مستحبة فيستحب الإتيان بها، ومن تركها فإنه لا يأثم؛ لأن المندوب هو: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم.

ويدل على ذلك الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، فإن المقصود بهذا الأمر، ولكن لم يأمر به لخوف المشقة، وأما الاستحباب فإنه مأمور به وحاصل، ولكن الذي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من المشقة على أمته هو الإيجاب عند كل صلاة.

فقوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، يعني: أمرتهم أمر إيجاب؛ لأن أمر الاستحباب موجود، والترغيب فيه موجود، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب).

وعلى هذا فإن الأوامر منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، والواجب: يتعين الإتيان به ويأثم من تركه، والمستحب: مطلوب ومندوب للإنسان أن يفعله، وأن يأتي به وتكمل به الفرائض، والنوافل هي كالسياج للفرائض، والإنسان الذي يتساهل في النوافل قد يجره ذلك إلى التساهل في الفرائض، لكن الإنسان إذا فعل المندوبات وحرص عليها فهو على الفرائض أحرص من باب أولى، فتكون النوافل كالوقاية لها، بمعنى: أن الإنسان يكون مطمئناً إلى فعلها لحرصه على ما دونها، ويكمل النقص الذي في الفرض من النفل، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك المنهيات: ما كان منها على سبيل التحريم ويتعين تركه، ولا يجوز الإقدام عليه، ويعاقب فاعله، وما كان من قبيل المنهيات للتنزيه فيكون تركها أولى من فعلها، ولا شك أن هذا هو الأولى وهو الأفضل، ولكنه لو فعل ذلك لم يكن فعل أمراً محرماً، وإنما فعل أمراً جائزاً، فهو يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها، فالمكروه كراهة تنزيه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ لأنه جائز.

فإذاً: الأوامر منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، والمكروهات منها ما هو محرم لا يسوغ الإتيان به، ومنها ما جاء ما يدل على أنه للتحريم، وأن عدم فعله هو الأولى، مثل: الشرب عن قيام، فقد جاء النهي عن الشرب عن قيام، ولكنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وكذلك جاء عن أصحابه الكرام مثل علي رضي الله عنه، فهذا يدل على أن شرب الإنسان جالساً هو المطلوب والذي ينبغي، وأن الإنسان لو شرب قائماً فإن ذلك سائغ وليس بحرام.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أسباب هلاك الأمم السابقة: كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، والمراد بكثرة المسائل: المسائل التي تكون من غير حاجة، والتي تكون تعنتاً، أو يكون ما فيها قد يترتب عليه في زمن النبوة أن يحرم شيئاً بسبب تلك المسألة، أو يوجب شيئاً يكون فيه مشقة كبيرة.

وحديث أبي هريرة هذا جاء ذكر سبب له في صحيح مسلم وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، فغضب وقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) .

فهذا الحديث في صحيح مسلم يبين سبب الحديث، وأن الأسئلة التي تكون من هذا القبيل هي المنهي عنها وهي الممنوع منها، وهي التي كانت من أسباب هلاك الأمم السابقة، وكذلك جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، يعني: الأسئلة التي يترتب عليها مضرة في زمن النبوة؛ لأن الزمن زمن تشريع، فقد يوجب ما فيه مشقة، وقد يحرم ما فيه مصلحة ومنفعة وفائدة؛ فلهذا ذمت الأسئلة التي فيها تكلف وتشديد، فالأسئلة التي يترتب عليها تشديد على هذه الأمة مذمومة، والرسول صلى الله عليه وسلم حرمها، وبين أن تلك من أسباب هلاك الأمم السابقة.

فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام؟)، يعني: هل أحج كل عام؟ ولو فرض الحج في كل عام لما استطاع الناس أن يحجوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف سيستطيعون أن يحجوا؟ وكيف سيسعهم المكان إذا كان واجباً عليهم جميعاً؟

فهذا فيه صعوبة شديدة، ومشقة عظيمة، ولا يستطاع؛ ولهذا قال: (فأتوا منه ما استطعتم)، ونهى عليه الصلاة والسلام عن مثل هذه الأسئلة، وغضب لذلك، وأخبر أن من أسباب هلاك الأمم السابقة ما كان مثل ذلك.

وقد جاء في الشريعة أمثلة من أسئلة الأمم السابقة والأشياء التي يسألون عنها وفيها تكلف وتعسف، منها ما قاله عز وجل في القرآن عن أهل الكتاب: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] .

فهذا من الأسئلة التي فيها تعنت، وتكلف، ومن الإتيان بأمور لا يصلح أن يسأل عنها أو يتشاغل بها.

وكذلك قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فكان يجزيهم أن يأخذوا أي بقرة فيذبحوها، ثم يضربوا بلحمها على القتيل الذي قتل، ولكنهم سألوا أسئلة متعددة، وتعنتوا وشددوا فشدد الله عليهم، وكان يكفيهم أي بقرة، فإن الله عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، أي بقرة، لكنهم سألوا عن سنها ولونها وصفاتها، وبعد ذلك صاروا إلى نوع معين بعد تلك الأسئلة المتكلفة، فشددوا فشدد الله عليهم.

فهذا من جملة ما أثر وما جاء عن الأمم السابقة من التكلف، ومن الأسئلة التي كانت من أسباب هلاكهم، وحذرت هذه الأمة أن تفعل مثلما فعلوا.

ثم إن المسائل منها ما يكون الإنسان بحاجة إليه،كمعرفة الأمور التي لابد منها، كمعرفة كيف يتوضأ، وكيف يصلي، وكيف يزكي إذا كان عنده مال، وكيف يصوم، حيث إن هذه الأمور مطلوب أن يسأل عنها.

وأما إذا سئل عن أسئلة فيها تكلف، أو أمور مغيبة، مثل السؤال: متى تقوم الساعة؟ وعن عمر الدنيا: كم مقدار عمرها؟ وعن الأشياء التي هي أمور مغيبة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو السؤال عن كيفيات أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها، مثل الذي سأل مالكاً عن: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟

فمثل هذه الأسئلة لا يجوز السؤال عنها، بل على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه في أمور دينه، ثم عن أمور يحتاج الإنسان إليها في أعماله اليومية وباستمرار، أما أن يسأل عن أمور خيالية أو نادرة الوقوع، أو لا يتصور وقوعها، فإن ذلك شغل وقت في غير طائل، ومن التكلف غير المحمود.

قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) هذا الحديث حديث عظيم، وقد كتبت عليه بعض الفوائد فنقرؤها:

معنى قول المحدثين والمخرجين: (متفق عليه)

الفائدة الأولى: قول المحدثين والمخرجين للأحاديث: رواه البخاري ومسلم ، المقصود من ذلك: الاتفاق على المعنى، ولا يلزم أن يكون الاتفاق في الألفاظ؛ ولهذا بعض العلماء يقول: رواه فلان وفلان واللفظ لفلان. وهذا هو الذي فيه بيان أن اللفظ لفلان، ولكن الثاني موافق له في المعنى.

وهذا الحديث بهذا اللفظ هو من أفراد مسلم ؛ لأن الحديث عند غير مسلم برواية أخرى بلفظ: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) .

هذا اللفظ هو التي تعددت به الروايات، فجاءت هذه الرواية عند البخاري وكذلك عند مسلم ، ولكنه جاء في بعض الطرق عند مسلم في كتاب (الفضائل) بهذا اللفظ: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).

إذاً: إذا قيل: رواه البخاري ومسلم ، فمعنى ذلك: أنهما اتفقا على المعنى، ولا يلزم أن الألفاظ متفق عليها، ولا يلزم أنهما اتفقا على التقديم والتأخير، أو على الهيئة التي هي موجودة، بل قد يكون هناك تقديم وتأخير، مثل هذا الحديث، فإنه عند البخاري بلفظ فيه تقديم وتأخير، وعند مسلم أيضاً بخلاف هذه الصورة، ولكنه أيضاً جاء بهذه الصيغة.

فالإمام النووي رحمه الله أتى بها من صحيح مسلم ، وعنده صيغة أخرى وعند البخاري أيضاً صيغة أخرى ليست مثل هذه الصيغة، التي هي تقديم هذه الجملة الكلية الجامعة التي فيها: امتثال كل ما هو مأمور على قدر الاستطاعة، والانتهاء عن كل منهي مطلقاً بدون تقييد، وكان الأولى في هذه الحال أن يقول: واللفظ لفلان.

إذاً: اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث، وهو بهذا اللفظ عند مسلم في كتاب (الفضائل)، وقد جاء بيان سبب الحديث عنده في كتاب (الحج)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) .

تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة

الفائدة الثانية: قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، فيه تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة دون النهي، وذلك أن النهي من باب التروك وهي مستطاعة، فالإنسان مستطيع ألا يفعل، وأما الأمر: فقد قيد بالاستطاعة؛ لأنه تكليف بفعل، فقد يستطاع ذلك الفعل وقد لا يستطاع، فالمأمور يأتي الإنسان به حسب استطاعته.

فمثلاً: نهي عن شرب الخمر، والمنهي مستطيع لعدم شربها.

والصلاة مأمور بها، وهو يصليها على حسب استطاعته عن قيام وإلا فعن جلوس، وإلا فمضطجع، ومما يوضحه في الحسيات ما لو قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب؟ فإنه مستطيع ألا يدخل؛ لأنه ترك، ولو قيل له: احمل هذه الصخرة؟ فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع؛ لأنه فعل.

ضابط فعل المأمورات وترك المنهيات

الفائدة الثالثة: ترك المنهيات باقٍ على عمومه، ولا يستثنى منه إلا ما تدعو الضرورة إليه، كأكل الميتة لحفظ النفس، ودفع الغصة بشرب قليل من الخمر.

الفائدة الرابعة: النهي الذي يجب اجتنابه ما كان للتحريم، وما كان للكراهة فيجوز فعله، وتركه أولى من فعله.

الفائدة الخامسة: المأمور به يأتي به المكلف على قدر طاقته؛ لقوله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ، فإذا كان لا يستطيع الإتيان بالفعل على الهيئة الكاملة أتى به على ما دونها، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً صلى جالساً، وإذا لم يستطع الإتيان بالواجب كاملاً أتى بما يقدر عليه منه، فإذا لم يكن عنده من الماء ما يكفي للوضوء توضأ بما عنده وتيمم للباقي، وإذا لم يستطع إخراج صاع لزكاة الفطر وقدر على إخراج بعضه أخرجه.

بيان نوع المسائل المنهي عنها

الفائدة السادسة: قوله: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، المنهي عنه في الحديث: ما كان من المسائل في زمنه يترتب عليه تحريم شيء على الناس بسبب هذا السؤال، وما يترتب عليه إيجاب شيء فيه مشقة كبيرة وقد لا يستطاع، كالحج في كل عام.

والمنهي عنه بعذر ما كان فيه تكلف وتنطع واشتغال به عما هو أهم منه.

يعني: ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مما قد يترتب عليه إيجاب ما فيه مشقة أو تحريم أمر فيه مصلحة ومنفعة هذا خاص بزمن النبوة؛ لأنه زمن تشريع، وأما بعد ذلك فالسؤال الذي فيه تكلف وتنطع هو السؤال عن أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها، مثل: قيام الساعة، وعمر الدنيا، ومتى تنتهي؟ وكذلك: السؤال عن كيفيات الصفات، وكيف اتصف الله تعالى بها؟ وغير ذلك من أمور الغيب التي لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي، فهذه لا يسأل عنها، أو يشتغل بأشياء نادرة الوقوع، وأشياء ليس الإنسان بحاجة إليها، ثم يتشاغل بها عما هو أهم منها، هذا هو الذي يمنع منه.

أنواع الناس في الاشتغال بالمسائل

الفائدة السابعة: قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساماً: فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل، حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه.

ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها؛ ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات والجدال عليه حتى يتولد من ذلك انفراق القلوب، ويستقر بها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه.

وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان بأنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة، والزهد، والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، إنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال، وكلام الإمام أحمد كثيراً إذا سئل عن شيء من المسائل المولدة أو المولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة.

إلى أن قال: ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كـالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به.

وملاك الأمر كله: أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب بقوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28] ومن الراسخين في العلم.

يقصد رحمه الله بهذا: أن الإنسان عليه أن يشتغل بالكتاب والسنة والتفقه فيها بمعرفة ما جاء به القرآن من الأمور العامة والخاصة، وكذلك السنة ومعرفة ما يصح وما لا يصح، وكذلك معرفة القواعد التي تستنبط من الكتاب والسنة، لأن النوازل والأشياء التي تجب إنما تعرف بهذا الطريق؛ لأن الحوادث لا نهاية لها، وتستجد في كل وقت وحين مسائل، ولكن حلها موجود في الكتاب والسنة، وذلك بالقواعد العامة، وبالجمل الكلية، والقياس وما إلى ذلك؛ لأنه ليس كل أمر يحدث لابد أن يكون فيه نص؛ لأن النصوص استقرت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان الذي يشتغل بالقرآن ومعرفة ما فيه، وكذلك يشتغل بالسنة وما فيها من القواعد والكليات والأصول الجامعة حين تستجد المسائل يبحث عن حلها في هذه الأمور الكلية العامة؛ لأنه ليس في كل مسألة نص، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك.

فمثلاً: الدخان الآن من الأشياء التي استجدت، فحصلت في أزمنة قريبة، وعرف العلماء حرمته، واستنبطوا حرمته من نصوص الكتاب والسنة، فأخذوها من قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]؛ لأن فيه قتلاً للنفس؛ فإن الإنسان يهلك نفسه باستعماله، وكذلك أيضاً أخذوه من أن فيه إضاعة مال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وأيضاً أخذوه من كون النبي صلى الله عليه وسلم يحل الطيبات ويحرم الخبائث، وليس هو من الطيبات، إذاً هو من الخبائث، وأخذوه أيضاً من النهي عن أكل الثوم والبصل، وأن ذلك يؤذي الناس ويؤذي الملائكة، ومعلوم أن الدخان أشد من ذلك، فهذه المسألة من المسائل التي جدت، ومع ذلك يوجد في عمومات نصوص الكتاب والسنة بيان حكمها، وأنها لا تسوغ ولا تجوز مع أنها ما وجدت إلا في الأزمنة المتأخرة.

فكلام ابن رجب رحمه الله يبين أنه بسلوك هذا المسلك تتضح المسائل، ثم أيضاً الإنسان عندما يسلك هذا المسلك لا يفعل ذلك استقلالاً دون أن يرجع إلى كلام العلماء، ودون أن يرجع إلى من سبقه، بل الإنسان يرجع إلى أهل العلم، ويستفيد من علمهم، ولا يقل: هم رجال ونحن رجال، فنأخذ بكذا وإن لم نرجع إلى كلامهم، فهذا غلط، فالناس بالنسبة للعلماء بين طرفي نقيض ووسط: طرف يقول: هم رجال ونحن رجال، وهذا جفاء. وطرف يتعصب ويتابع رجلاً معيناً في المسائل المختلفة، وإذا عرض عليه أو ذكر له الدليل بخلاف قوله: لو كان هذا صحيحاً ما خفي على فلان!

وقد مر بنا كلام ابن حجر رحمه الله عند مسألة مناظرة عمر رضي الله عنه لـأبي بكر ، وأنه لم يكن عند أبي بكر وعمر -وهما من كبار الصحابة- الحديث الذي فيه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين في المقاتلة، وكان عند ابن عمر وعند أبي هريرة ، ولهذا قال الحافظ ابن حجر : ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت إذا وجدت سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي هذا على فلان؟ فإذاً: هناك طرف فيه جفاء وطرف فيه تعصب، والحق وسط بين هذا وهذا، فيرجع إلى كلام العلماء ويستفاد من علمهم، ويعرف وجه الاستدلال، وأنه قد يكون في المسألة دليل ذكروه عن طريق القياس أو عن طريق الاستنباط أو عن طريق الإلحاق بقاعدة كلية، فالإنسان لايتنبه لذلك إلا إذا رجع إلى كلامهم، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) كلاماً جميلاً قال فيه: إن العلماء يجب توقيرهم وتعظيمهم والاستفادة من علمهم، وعندما لا يوجد الدليل الواضح في المسألة يرجع إلى كلامهم وإلى استنباطهم، وإلى مآخذهم، فقد يتبين له من كلامهم ما ينير له الطريق وما يتبصر به، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: مثل الإنسان إذا كان في الفلاة وهو لا يعرف جهة القبلة فإنه يستدل لذلك بجهة النجوم، مطالعها ومغاربها، فيعرف أين اتجاه القبلة بالنظر في النجوم، وأما إذا كان عند الكعبة وصار تحتها والقبلة أمامه فإنه لا ينظر في السماء ليبحث عن القبلة؛ لأن القبلة أمامه.

فإذاً: الإنسان إذا خفي عليه الدليل وصار ليس واضحاً، والحكم ليس واضحاً؛ فلاشك أن الرجوع للعلماء فيه تمكين له بأن يعرف الحق في ذلك، فكلام ابن رجب رحمه الله هو من هذا القبيل، ومعناه: أن الإنسان يشتغل بتفهم القرآن والحديث، ويرجع إلى كلام العلماء ويستفيد منهم.

قال ابن رجب : وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهى عما نهى عنه وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك واشتغل بخاطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم.

خلاصة الفوائد المأخوذة من حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه...)

إذاً: يستفاد من الحديث:

1- وجوب ترك كل ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

2- وجوب الإتيان بكل ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

3- التحذير من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب مما كان سبباً في هلاكهم.

4- أنه لا يجب على الإنسان أكثر مما يستطيع.

5- أن من عجز عن بعض المأمور يكفيه أن يأتي بما قدر عليه منها.

6- الاقتصار في المسائل عما يحتاج إليه، وترك التنطع والتكلف في المسائل.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفائدة الأولى: قول المحدثين والمخرجين للأحاديث: رواه البخاري ومسلم ، المقصود من ذلك: الاتفاق على المعنى، ولا يلزم أن يكون الاتفاق في الألفاظ؛ ولهذا بعض العلماء يقول: رواه فلان وفلان واللفظ لفلان. وهذا هو الذي فيه بيان أن اللفظ لفلان، ولكن الثاني موافق له في المعنى.

وهذا الحديث بهذا اللفظ هو من أفراد مسلم ؛ لأن الحديث عند غير مسلم برواية أخرى بلفظ: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) .

هذا اللفظ هو التي تعددت به الروايات، فجاءت هذه الرواية عند البخاري وكذلك عند مسلم ، ولكنه جاء في بعض الطرق عند مسلم في كتاب (الفضائل) بهذا اللفظ: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).

إذاً: إذا قيل: رواه البخاري ومسلم ، فمعنى ذلك: أنهما اتفقا على المعنى، ولا يلزم أن الألفاظ متفق عليها، ولا يلزم أنهما اتفقا على التقديم والتأخير، أو على الهيئة التي هي موجودة، بل قد يكون هناك تقديم وتأخير، مثل هذا الحديث، فإنه عند البخاري بلفظ فيه تقديم وتأخير، وعند مسلم أيضاً بخلاف هذه الصورة، ولكنه أيضاً جاء بهذه الصيغة.

فالإمام النووي رحمه الله أتى بها من صحيح مسلم ، وعنده صيغة أخرى وعند البخاري أيضاً صيغة أخرى ليست مثل هذه الصيغة، التي هي تقديم هذه الجملة الكلية الجامعة التي فيها: امتثال كل ما هو مأمور على قدر الاستطاعة، والانتهاء عن كل منهي مطلقاً بدون تقييد، وكان الأولى في هذه الحال أن يقول: واللفظ لفلان.

إذاً: اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث، وهو بهذا اللفظ عند مسلم في كتاب (الفضائل)، وقد جاء بيان سبب الحديث عنده في كتاب (الحج)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) .