شرح الأربعين النووية [13]


الحلقة مفرغة

الحديث السادس من الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله: عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

هذا حديث عظيم من جملة الأحاديث التي ذكر العلماء أن مدار الإسلام عليها؛ وذلك لما اشتمل عليه الحديث من بيان الحلال والحرام، وما يشتبه بالحلال وبالحرام، وما يكون فيه الاحتياط والسلامة، ثم بيان عظيم لشأن القلب، وأنه ملك الأعضاء، فبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد.

والحديث رواه النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ..، وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه كان خطب به النعمان على المنبر، قيل: بالكوفة، وقيل: بحمص، وكان أميراً عليهما، فيمكن أن يكون ذلك حصل هنا أو هنا، وكان قد أكد سماعه أنه أهوى بيديه إلى أذنيه -يعني: مؤكداً السماع- مع قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون جمع بين التأكيد للسماع بالقول وبالإشارة الدالة على ذلك الفعل، الذي هو سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و النعمان بن بشير من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنوات، وفي هذا دليل على أن الصبي المميز يصح تحمله في صغره، ويؤدي في حال كبره، وهذا معتبر عند العلماء، ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي سمعها النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وكذلك غيره من صغار الصحابة الذين سمعوا من النبي عليه الصلاة والسلام في حال صغرهم وأدّوا في حال كبرهم، ومثل ذلك الكافر الذي تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، فإن تأديته في حال الإسلام معتبرة لما تحمله في حال كفره؛ لأنه في حال الكفر غير مأمون، فإذا أدى حال كفره فلا يعتد بكلامه، ولكن إذا أدى بعد إسلامه فإنه مؤتمن على ما يأتي به؛ لأنه مسلم يخبر عن شيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

الحلال البيّن ومثاله

دل الحديث على أن الأشياء -من حيث الحِلّ والحرمة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: حلال بيّن واضح لا خفاء في حِلّه، وكل يعرف أنه حلال؛ وذلك لوضوحه، -من حيث الحِلّ والحرمة- مثل: الزروع، والحبوب، والثمار، وبهيمة الأنعام.. ، فإن هذه من الأمور التي يشترك الناس في معرفة أنها حلال، فما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام، فهذه من الحلال البين الواضح الذي لا إشكال فيه، ولكنها لا تكون حلالاً إلا إذا كان وصولها إلى الإنسان بطريق مشروع، بأن يكون بعمل يده، أو وصلت إليه بشراء أو بميراث، أو ما إلى ذلك، فإنها حينئذٍ من الحلال البين.

وأما إذا وصلت بطريق غير مشروع كسرقة أو اغتصاب فإنها لا تكون حلالاً، إذ ليس للإنسان أن يستعمل بهيمة الأنعام أو ينتفع بها أو يذبحها ويأكلها وقد سرقها، فإن هذا من الحرام البين؛ لأن هذا المال الذي هو في أصله حلال إذا وصل بطريقة محرمة فإنه يكون حراماً، ولكنه إذا وصل إلى الإنسان بطريق من الطرق المشروعة لوصول الشيء إلى الإنسان فإنه يكون حلالاً.

الحرام البين ومثاله

القسم الثاني: حرام بين أي: أنه واضح الحرمة لا خفاء فيه، مثل: شرب الخمر، وأكل الميتة، ونكاح ذوات المحارم، كل هذا من الحرام البين الذي هو واضح لا خفاء فيه، ويعرفه الخاص والعام.

فهذان صنفان لا إشكال فيهما، إذ لا إشكال في حل الحلال وحرمة الحرام، لأن هذا بين وهذا بين.

المشتبهات

القسم الثالث: المشتبهات التي لا يتضح كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، وإنما هي واقعة بين هذا وهذا، ويحتمل أن تكون من الحلال أو الحرام.

فما اشتبه ولم يتضح فيه الدليل والحكم الشرعي فإن الورع اجتنابه وعدم الوقوع فيه، وأما إذا اتضح حله أو حرمته بالدليل فعند ذلك يكون من الشيء الذي يشتبه على بعض الناس أو على كثير من الناس ويعلمه بعض الناس، لكن حيث لا يتضح الدليل على حرمة الشيء أو على إباحته وحله فإن الورع يكون بتركه، كما جاء في الحديث الآخر: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فما دام أنه متردد بين أن يكون حلالاً وأن يكون حراماً فالاحتياط والورع للإنسان أن يتركه.

وأما إذا كان من الأمور التي فيها خفاء بحيث يخفى الدليل على بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن الحديث دل على أن الكثير من الناس لا يعلمها، ومفهوم ذلك أن بعض الناس يعلمها؛ لأن الدليل قد يكون فيها خفياً ولا يطلع عليه كل الناس، وليست مثل: بهيمة الأنعام، فمن المعلوم أنها حلال، وليست مثل: حرمة الخمر، حيث إن بيان حرمتها واضح، وإنما يكون الأمر متردداً بين الحل والحرمة، حيث يوجد في ذلك دليل يدل على الحل، ويخفى على بعض الناس مثل:

لحوم الخيل، فما كل الناس يعلم أن لحوم الخيل حلال، وهذا الحكم يخفى على بعض الناس، وقد جاء في الحديث ما يدل على أنها حلال، لكنها ليست من الحلال البين عند كل أحد، وإنما هي من الحلال البين عند من عرف الدليل، لكن الإنسان الذي لم يبلغه الدليل ولم يعرف الحكم في المسألة ثم دار بين هذا وهذا فالاحتياط له بأن يترك ولا يقدم على ذلك الشيء المحتمل للحل والتحريم.

وأما إذا عرف الدليل على أن ذلك سائغ وليس بحرام فإنه يأخذ بالدليل، والذي لا يعرف هذا الدليل ولا يعرف شيئاً يدل على حل لحوم الخيل، ولا يدري هل ثبت أم لم يثبت، فإن الاحتياط والورع -كما جاء في الحديث- هو الترك وليس الإقدام على الفعل؛ لأن الإنسان إذا فعل، ذلك فيحتمل أن يكون قد فعل أمراً محرماً أو أن يكون فعل أمراً حلالاً، ولكنه إذا ترك ذلك سلم من أن يكون فعل أمراً محرماً.

قوله: (وبينهما أمور مشتبهات) يعني: مشتبهة في كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، فهذه لا يعلمها كثير الناس وبعضهم يعلمها؛ لأن المفهوم معناه: أن بعض الناس يفهمها وقد يقف على الدليل الذي خفي على بعض الناس، فمن وقف على الدليل أخذ به، ومن لم يقف عليه وكان متردداً بين أن يكون حلالاً أو حراماً، فالاحتياط والمطلوب في حقه أن يتركه وألا يقدم عليه.

قوله: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس).

معنى ذلك: أن بعض الناس يعلمها، وهناك أمور أخرى تشتبه ولا يعلم الناس حقيقتها، مثل: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة وكان لا يدري هل هي من الصدقة أو من غير الصدقة، ولذلك تركها فلم يأكلها لأن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، ومن المعلوم أن مثل هذا من علم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله، فإذا وجد إنسان من أهل البيت تمرة وقعت في الطريق فلا يدري هل هي من الصدقة أم لا؟ فهذا لا يمكن الوصول إلى معرفته؛ لأنه شيء مجهول، لكن ما دام أن فيه احتمال ولم يتبين فيه لا هذا ولا هذا فالسلامة إنما تكون في الترك وليست في الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأقسام الثلاثة فرع الكلام الذي يأتي متعلقاً بالقسم الثالث وهو: الأمور المشتبهة، فبين عليه الصلاة والسلام حكم الأمور المشتبهة فقال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

الشبهات أي: الأشياء المشتبهة التي لا يدرى أهي حلال أم حرام.

قوله: (فقد استبرأ لدينه وعرضه) أي: عمل على براءة نفسه من أن يكون عليه نقص في دينه، وأيضاً سلم من أن يعرض نفسه للوم الناس ووقوعهم في عرضه، والإنسان يحرص على أن تحصل له السلامة في دينه وعرضه، فدينه لا يكون فيه نقص، وعرضه لا ينال أحد منه ولا يتكلم فيه بسوء.

فالاستبراء للدين يتعلق بما بينه وبين الله.

والاستبراء للعرض يتعلق بما بينه وبين الناس.

قوله: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي: الذي يتساهل في الوقوع في أمر مشتبه لا يعلم حله وحرمته قد يؤدي به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم.

أقسام الناس في الأمور المشتبهة

والناس بالنسبة للأمور المشتبهة ينقسمون إلى قسمين:

الأول: قسم يستبرىء منها ولا يقع فيها، وهذا يسلم دينه وعرضه.

الثاني: (من وقع في الشبهات) يعني: أقدم على هذا الأمر المشتبه، ولم يتركه مع اشتباهه واحتماله لأن يكون حلالاً وأن يكون حراماً، بل هان عليه أن يقدم على شيء لا يطمئن إلى كونه حلالاً، وإذا أقدم الإنسان على مثل هذا وتساهل فيه فقد يؤدي به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم.

وهذا لم يستبرئ من الشبهات، بل وقع فيها واستهونها وأقدم عليها، فإن ذلك قد يجره إلى أن يقع في الأمر المحرم؛ لأنه دخل في شيء لم يتبين له حله، وقد يكون هذا الشيء حراماً، فإذا سهل عليه ذلك فإنه قد يسهل عليه أن يقدم على الأمر المحرم.

فالقسم الأول محمود والثاني مذموم.

المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للوقوع في الشبهات

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر هذين القسمين من الناس في موقفهم من الأمور المشتبهة ضرب لذلك مثلاً يقرب فيه الأمور المعنوية، بحيث تكون مشابهة للأمور الحسية، وذلك من كمال البيان والنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يضرب الأمثال لأصحابه ولأمته حتى يظهر الأمر المعنوي في صورة الأمر الحسي الذي هو مشاهد ومعاين، فضرب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) لأن الرعاة الذين يرعون الغنم والإبل لهم حالتان بالنسبة للحمى، والإنسان إذا قرب منه صار عرضة لوقوع ماشيته فيه؛ لأنها ترى الخضرة أمامها، فتنطلق إليها، وتصل إلى هذه الخضرة التي قد حميت، ومنع الناس والبهائم من الوصول إليها فمن يرعى حول الحمى الذي حمي ومنع من الوصول إليه، وصارت أرضه معشبة ومخصبة، فإن الراعي الذي يكون حول الحمى قد يغفل فتنطلق دوابه وتصل إلى ذلك المكان الأخضر فترعى فيه، فيتعرض للعقوبة.

وأما الذي يبتعد عن الشبهات فإنه كالراعي الذي يرعى بعيداً عن الحمى ويجعل غنمه أو إبله في مكان بعيد عن الحمى بحيث لا تصل إليه؛ لأنه بذلك احتاط وابتعد، فلم يعرض نفسه لأن يقع في أمر يعود عليه بالمضرة، وأما من تهاون وقرب من الحمى وصار على حافته وليس هناك شيء يحجب عنه كجدار أو شيء يمنع من وصول الدواب إليه، فإنها تنطلق وتقع في ذلك الشيء الذي منع منه.

والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضح هذا لمن يتهاون في الأمر ويقع في الأمور المشتبهة، وجعله كالراعي الذي يرعى حول الحمى، فذلك يؤدي به إلى الوقوع في الأمر الممنوع.

وأما الذي يبتعد عن الحمى، وتكون غنمه أو ماشيته في أماكن بعيدة بحيث لو نبت واحدة منها فلن تصل إلى الحمى؛ لأن بينها وبينه مسافة يستطيع أن يردها وأن يلحقها بنظيراتها ومثيلاتها، فإنه يكون بذلك سلم وعمل على الاحتياط والسلامة.

إذاً: هذان القسمان أو الصنفان اللذين مضيا -وهما: الذي اتقى الشبهات والذي وقع في الشبهات- مثلهما كمثل راعيين:

أحدهما: يأتي إلى مكان محمي ويجعل غنمه على حافته، فتكون بذلك عرضة لأن تقع في الأمر الممنوع.

والثاني: الذي ابتعد عن الحمى ورعى غنمه في أماكن بعيدة، فإنه بذلك يسلم من أن تصل غنمه إلى هذا الأمر الممنوع منه.

وهذا التمثيل للأمور المعنوية بالأشياء الحسية يعتبر من نصحه صلى الله عليه وسلم وبيانه وفصاحته وبلاغته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

والأمثال يكون فيها تقريب الأمر المعنوي بقياسه وإلحاقه بالأمر الحسي المشاهد المعاين مثلاً: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، الشبهات: مثلاً لما حول الحمى، والحرام مثلاً للحمى، فالذي يقرب من الحمى ويصير في الشبهات التي هي حول الحمى يصل إلى الممنوع منه (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأشياء المعنوية والحسية التي ضربها في المثل هي: أن لكل ملك من ملوك الدنيا حمى، يعني: قد يحمي له مكاناً يختص به، وسواء كان له أو لما يتعلق بالمنفعة العامة كأن يجعل مكاناً للصدقة أو لماشية الصدقة، فالإنسان إذا قاربه فإنه يقع في ذلك الشيء الذي حمي ومنع، وإذا ابتعد عنه فإنه يكون قد سلم وابتعد عن المشتبهات.

قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى): الحمى: هو ما يحميه الإنسان من أرض خصبة لا يأتي إليها أحد، وهذا حمى حسي.

قوله: (ألا وإن حمى الله محارمه): وهذا حمى معنوي، وهو الذي أريد تقريبه بضرب المثل بالحمى الحسي عندما ذكر الراعي يرعى حول الحمى، وهذا هو المشبه به.

وأما المشبه فهو محارم الله عز وجل، والمحارم: الحرام البين الذي لا يجوز الوقوع فيه.

وأن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عنها وعن الشبهات التي توصل إليها.

فقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى) هذا هو التشبيه الحسي، والذي ذكر فيه أن الراعي يرعى حول الحمى.

وقوله: (ألا وإن حمى الله محارمه) هذا هو المشبه، لأن الأمور المعنوية التي هي حرام لا يجوز للإنسان أن يقدم عليها أو أن يكون قريباً منها بالشبهات التي ليست من الحلال البين ولا من الحرام البين، فمن تساهل في الوصول إليها والوقوع فيها -أي: المشتبهات- سهل عليه أن يقع في المحرم، كما تقدم في أثناء الحديث: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).

أهمية القلب في سائر أعضاء الجسم

ثم بين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك عظم شأن القلب، وأنه بمثابة الملك للأعضاء، وأنها تابعة له، وأنه بصلاحه تصلح الأعضاء، وبفساده تفسد الأعضاء.

فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقد ذكر هذه الجملة بعدما تقدم من ذكر وجوب ترك المحرمات وترك الأمور المشتبهة؛ لئلا يصل الإنسان إلى الأمر المحرم، وهذا فيه إشارة إلى أن سلامة المكاسب الطيبة والحرص على أن تكون بعيدة من المحرمات ومن الأمور المشتبهات -كل ذلك- له دخل في صلاح القلب وفساده؛ لأن استعمال الحرام والوقوع فيه مما يؤدي إلى فساد القلب، وكسب الحلال والابتعاد عن الحرام هو الذي يكون به صلاح القلب؛ لأن القلب يصلح باستقامة صاحبه على طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يفعل المأمورات ويجتنب المنهيات، وهذه هي تقوى الله عز وجل؛ لأن تقوى الله: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وعذابه وقاية تقيه منه، وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذه هي مناسبة ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للقلب بعد ذكر الحلال والحرام.

فإن ترك المحرم والمشتبه يعتبر من أسباب صلاح القلب، والعكس بالعكس، فإن الوقوع في الحرام والمشتبهات وترك المأمورات من أسباب فساد القلب، فعلى الإنسان أن يجعل بينه وبين الحرام مسافة بأن يترك الشيء الذي لا بأس به حذراً مما به بأس، ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بذكر القلب بعد هذه الأمور، وهذا هو وجه ذكره بعدها.

ثم فيه بيان عظم شأن القلب وأنه ملك الأعضاء، وأنها بصلاحه تصلح وبفساده تفسد، وقد مهد لذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيان عظم شأن القلب بهذا التمهيد، لأن الإنسان إذا سمع هذا التمهيد وهذا التقديم -(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)- فإنه يتطلع ويحرص على معرفة هذه المضغة.

ثم ما هي هذه المضغة؟

قال: (ألا وهي القلب) فبعد أن بين عظم شأنها وعظم فائدتها في حال صلاحها، وشدة خطورتها في حال فسادها، بعد ذلك جاء البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها القلب، وأتى في ذلك بأداة التنبيه التي هي: (ألا) لأن (ألا) في حد ذاتها أداة تنبيه (ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة .. ألا وهي القلب) فهذه أداة تنبيه تجعل الإنسان يتنبه ويعرف أهمية ما بعدها؛ لأن ذلك مما ينبغي الالتفات إليه والاهتمام والعناية به.

وبهذا يتبين لنا أن حديث النعمان بن بشير حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد اشتمل على هذا الإيضاح وهذا البيان وهذا الحصر للأشياء إلى ما هو حلال بين، وإلى ما هو حرام بين، وإلى ما هو مشتبه، ثم بيان الذي على الإنسان أن يسلكه لسبيل المشتبه، وأنه إذا تركه فقد أخذ بأسباب السلامة لدينه وعرضه، وإذا لم يفعل ذلك فإنه قد عرّض عرضه للقدح، وعرض دينه للنقص، وأدى به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم، ثم هذا البيان والإيضاح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لضرب هذا المثل العظيم الذي قرب فيه الأمر المعنوي بتشبيهه بهذا الأمر الحسي، وهو من كمال بيانه ونصحه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

والله تعالى أعلم.

دل الحديث على أن الأشياء -من حيث الحِلّ والحرمة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: حلال بيّن واضح لا خفاء في حِلّه، وكل يعرف أنه حلال؛ وذلك لوضوحه، -من حيث الحِلّ والحرمة- مثل: الزروع، والحبوب، والثمار، وبهيمة الأنعام.. ، فإن هذه من الأمور التي يشترك الناس في معرفة أنها حلال، فما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام، فهذه من الحلال البين الواضح الذي لا إشكال فيه، ولكنها لا تكون حلالاً إلا إذا كان وصولها إلى الإنسان بطريق مشروع، بأن يكون بعمل يده، أو وصلت إليه بشراء أو بميراث، أو ما إلى ذلك، فإنها حينئذٍ من الحلال البين.

وأما إذا وصلت بطريق غير مشروع كسرقة أو اغتصاب فإنها لا تكون حلالاً، إذ ليس للإنسان أن يستعمل بهيمة الأنعام أو ينتفع بها أو يذبحها ويأكلها وقد سرقها، فإن هذا من الحرام البين؛ لأن هذا المال الذي هو في أصله حلال إذا وصل بطريقة محرمة فإنه يكون حراماً، ولكنه إذا وصل إلى الإنسان بطريق من الطرق المشروعة لوصول الشيء إلى الإنسان فإنه يكون حلالاً.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الأربعين النووية [30] 2558 استماع
شرح الأربعين النووية [17] 2542 استماع
شرح الأربعين النووية [32] 2454 استماع
شرح الأربعين النووية [25] 2332 استماع
شرح الأربعين النووية [11] 2303 استماع
شرح الأربعين النووية [23] 2267 استماع
شرح الأربعين النووية [33] 2204 استماع
شرح الأربعين النووية [5] 2197 استماع
شرح الأربعين النووية [20] 2137 استماع
شرح الأربعين النووية [31] 2136 استماع