شرح الأربعين النووية [8]


الحلقة مفرغة

الإحسان أعلى درجات الدين

انتهى الكلام في شرح حديث جبريل إلى درجة الإحسان، وقد ذكر قبل ذلك درجة الإسلام والإيمان، فالدرجات ثلاث:

أولها: درجة الإسلام، ثم تليها درجة الإيمان، ثم تليها درجة الإحسان.

وكل درجة أكمل من الدرجة التي قبلها، وكل درجة داخلة في التي قبلها، فكل مؤمن مسلم، وكل محسن مؤمن ومسلم؛ لأن درجة الإحسان هي درجة كمال، وأقل منها درجة الإيمان، وأقل منهما درجة الإسلام.

فالإنسان بمجرد دخوله في الإسلام وإتيانه بما يعصم به دمه من الدخول في الإسلام يقال له: مسلم. ويلي ذلك درجة الإيمان.

ولهذا فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، وقد جاء في القرآن في قصة الأعراب الذين ذكر قصتهم في سورة الحجرات قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

فالإيمان أكمل من الإسلام؛ لأن الإسلام يحصل لكل من دخل في الإسلام، وأما الإيمان فيكون لمن حصل منه شيء من الكمال في إسلامه، فهي درجة أعلى، وأعلى منها درجة الإحسان.

وكذلك الحديث الذي فيه قصة الجماعة الذين جاءوا -كما في حديث سعد بن أبي وقاص - أن جماعة أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم إلا رجلاً، وكان ذلك الرجل أمثلهم عنده، فقال له سعد بن أبي وقاص : أعطيت الجماعة الفلانية وفيهم فلان لم تعطه وهو مؤمن. فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم؟!) أي أنه يرشده إلى أن يقول الدرجة الدنيا، فكرر عليه سعد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أو مسلم؟!) ثم ذكر أنه يعطي أقواماً يرجو تألفهم لما عندهم من الضعف، وأنه يترك أناساً لما عندهم من قوة الإيمان، فلا يعطيهم مثلما يعطي من كان إسلامهم يحتاج إلى أن يرسخ في قلوبهم وأن يؤلفوا على الإسلام وأن يتمكن الإيمان من قلوبهم.

والإحسان هو أكمل الدرجات الثلاث، وقد ذكر الله عز وجل الإحسان في القرآن وأن جزاءه الإحسان فقال: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] والحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل، كما جاء ذلك مفسراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي أخرجه مسلم في صحيحه.

وفي القرآن أن الحسنى إنما تكون للمحسنين، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

وفي مقابل ذلك فإن السوأى للمسيئين، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى [الروم:10].

فقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]يقابله قوله تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى [الروم:10]، والسوأى هي النار، والمراد أنهم أساءوا أعمالهم حتى أوصلتهم إلى النار، فكانوا من أهلها، والآية في حق الكفار؛ لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

مراتب الإحسان

لقد سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة التي يريد من ورائها تعليم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمور التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها الدين، فقال في آخر الحديث: (هذا جبريك أتاكم يعلمكم دينكم).

وكان السؤال الثالث الذي سأله عنه قوله: (أخبرني عن الإحسان؟) فقال صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه)، أي: أن تكون مقبلاً عليه بقلبك وقالبك، وأن تكون مستحضراً عظمة الله وكأنك واقف بين يديه سبحانه.

ومعلوم أن الإنسان إذا كان بهذه المنزلة والدرجة، ويدخل في العبادة بهذا الوصف وبهذه الهيئة التي يستشعر فيها أنه واقف بين يدي الله فلاشك في أنه سيحسن فيما يقوم في قلبه، وفيما يجري على لسانه، وفيما يقوم بجوارحه، بحيث تسير هذه الأمور والأحوال كلها على السداد وعلى الاستقامة؛ لأنه يعبد الله عز وجل وكأنه بين يديه سبحانه وتعالى، وينظر إلى الله عز وجل وكأنه بين يديه، فهو مستحضر لعظمته وجلاله.

وقوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي: فإذا كان الإنسان لا يعبد الله بهذه الطريقة والهيئة التي تجعله وكأنه واقف بين يدي الله، فيحسن عمله ويتقنه ويؤديه على التمام والكمال لأنه واقف بين يدي الله فإن عليه أن يستشعر بأن الله تعالى يراه، وأن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه خافية، وأنه سيثيبه إن أحسن، ويعاقبه إن أساء، فذلك يكون دافعاً له إلى الخوف والرهبة من الله، وعلى البعد من الوقوع في معاصي الله تعالى.

فالحالة الأولى هي الحالة التي يؤدي فيها الإنسان الأعمال على التمام والكمال وكأنه واقف بين يدي الله، فإن لم تكن فيه هذه الهيئة والصفة فإن عليه أن يستشعر أن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه خافية، وأنه يحاسبه ويجازيه على ما يحصل منه، فتكون هاتان الجملتان الأولى منهما في مقام الترغيب، والثانية في مقام الترهيب.

أنواع الإحسان

ثم إن الإحسان قد يكون لازماً للإنسان لا يتعداه إلى غيره، وذلك بأن يحسن في عمله، وقد يكون متعدياً إلى غيره، وذلك بأن يحسن إلى غيره، وكل ذلك يدخل تحت الإحسان، وعلى الإنسان في عمله -سواءٌ أكان في العبادات البدنية، أم العبادات المالية المتعدية إلى غيره- أن يفعل ذلك وهو يرجو ثواب الله عز وجل ويخشى عقابه سبحانه وتعالى.

والإحسان يكون بعدة وجوه: يكون بالمال، ويكون بالجاه، ويكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون بالدلالة على الخير، كل ذلك من الإحسان المتعدي، فيكون النفع للفاعل ولغيره؛ لأنه أحسن إلى نفسه وأحسن إلى غيره.

علم الساعة ومرده إلى الله تعالى

ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: (أخبرني عن الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وفي هذا بيان أن علم الساعة مما اختص الله تعالى به.

وقد جاء في القرآن ما يدل على أن علم الساعة من خصائص الله سبحانه وتعالى، وجاء -أيضاً- أنها من جملة الخمسة الأمور التي هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى، فقد أخفاها عن الناس ولم يعلمهم بها، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة في أي سنة، ولا في أي شهر، ولا في أي يوم من الشهر، لكن جاء في السنة أن الساعة تقوم يوم الجمعة، وعلى هذا فالساعة لا تقوم في الأيام الأخرى غير يوم الجمعة، فلا تقوم يوم السبت أو الأحد أو الأيام الأخرى، وإنما تقوم في يوم الجمعة فقط كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما في أي سنة، وفي أي شهر، وفي أي جمعة من الشهر فهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

وكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل أن قال له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي أن الخلق استوى علمهم فيها، وهو أنهم لا يعلمون وقت قيامها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لست أعلم بها منك. وإنما قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وهذا كلام عام يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، ويشمل غيرهما.

ثم سأل جبريل النبي عليهما السلام فقال: (فأخبرني عن أماراتها؟ فقال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

أشراط الساعة

وللساعة أشراط، فبعض أشراطها تكون قريبة من قيامها، وبعض الأشراط تكون قبل ذلك، وهذه الأشراط التي قبل ذلك منها ما قد مضى، ومنها ما لم يأت، وكل هذا قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يديها، مثل طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وكذلك خروج المهدي ، فهذه من الأشراط التي هي قريبة من قيام الساعة.

وأما العلامات الأخرى فهناك علامات أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما قد مضى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصري)، وقد ذكر في كتب التاريخ أنه في سنة ستمائة وأربع وخمسين خرجت هذه النار، وحصل هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل سقوط بغداد بسنتين على أيدي التتار، فقد كان سقوط بغداد على أيدي التتار سنة ستمائة وست وخمسين، ذكر ذلك ابن كثير وغيره.

وهناك أمور أخرى أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقع إلى الآن، كقوله في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل عليه الناس، فينجو من كل ألف رجل واحد، ويهلك تسعمائة وتسعة وتسعون). وهؤلاء المقتتلون يعلمون بأن النجاة تكون لواحد من ألف، وأن الهلاك سيكون حليف تسعمائة وتسعة وتسعين، ومع ذلك يقتتلون ويرجو كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الفائز الناجي، وهذا من شدة الحرص على الدنيا في ذلك الوقت، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن، وأما تفسير بعض الناس لذلك الجبل من ذهب بالبترول الذي في العراق فهو كلام باطل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه جبل من ذهب، والبترول ليس بذهب، فالذهب -كما هو معروف- معدن من المعادن، وهو مع الفضة يكونان العملة التي يتعامل بها الناس، والذهب هو أنفس هذين النوعين.

وهذا كله قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يدي الساعة.

ونسمع بين الحين والآخر الناس يتحدثون عن خروج المهدي ، وبعض هؤلاء المدّعين لذلك من المجانين وأشباه المجانين، فيزعم بعض الناس أنه المهدي ، وهذا كله من الخطأ البين الواضح.

وقد حصل هذا في أزمان مختلفة من التاريخ، وآخر شيء حصل ووقعت فيه فتنة هلاك وقتل ما كان في سنة 1400هـ في الحرم المكي، وكل ذلك بسبب هذا السفه، وهو ادعاء المهدوية، فتكون هناك عواطف وحماسة مبنية على غير أساس، وقد يبنى ذلك على منامات ورؤى تحصل من الشيطان ليزج بهؤلاء إلى ما يكون فيه هلاكهم وهلاك أتباعهم.

وأذكر أنه قبل أن تحصل الفتنة التي وقعت في الحرم في غرة محرم سنة 1400هـ كان الناس يتحدثون قبل ذلك عن أن المهدي سيخرج، وأذكر أنه جاء إلي طالب لا أعرفه وأنا في مكتبة الدراسات العليا، وقال: إنهم يقولون: إن المهدي سيخرج. وكانوا يذكرون أن قحطان محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي ، وأنه سيخرج.

وهناك كتاب اسمه (كتاب المتألهين والمتنبئين والمتمهدين) فقلت: إنه سيضاف إلى هذا الكتاب إن خرج.

ثم إنه خرج فصار ممن ذكر في هذا الكتاب، ويحصل بين وقت وآخر محاولة من بعض الناس إدعاء المهدوية، وكل هذا سفه من بعض العقول.

وأذكر أنه مرة من المرات جاءني كتاب من رجل في لندن، وقال: إني المهدي، وإنني أرى أن علامات المهدي موجودة فيّ، فماذا تقترح علي؟ وبماذا تشير علي؟ فقلت له: لا يسمع أحد أبداً هذا الكلام منك حتى تموت؛ لأنك إن حدثت به أحداً فستتهم بضعف في عقلك، فأرى من الخير لك أن تترك هذا الأمر، وأن لا يخطر منك على بال، فكتبت له هذا الكتاب، ولا أدري ما حصل له، ولعله استفاد من هذا الإرشاد.

فالحاصل أن الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولكنه سيقع في الوقت الذي يشاء الله عز وجل أن يقع فيه، وأما تلك الأمور التي تحصل بين حين وآخر ممن يدعي أنه المهدي ، أو يدعى فيه أنه المهدي فكل هذه الأمور لا تأتي بخير، وإنما تأتي بالضرر، وتدل على سفه من حصلت منه، وتدل على قلة عقله وبصيرته.

فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر بأمور عديدة، والإنسان إذا قرأ الكتب التي رتبت على الحروف، كالجامع الصغير، أو صحيح الجامع الصغير فإنه يجد عدة أحاديث كلها مبدوءة بـ: (لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا).

فمن هذه الأمور ما حصل، ومنها مالم يحصل، والمسلم يصدق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجر ولا يسوق الأحاديث أو النصوص التي وردت إلى شيء لا يصلح أن تساق إليه، أو يفسرها بشيء وقع على أن اعتبار أن هذا هو ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كالمثال الذي ذكرته في قصة الكنز الذي في الفرات، وتفسيره بالبترول، فكل هذا من التخرص، وهو كلام على غير هدى وبصيرة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن أماراتها أخبره بأمارتين، أخبره بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، وكان عليه الصلاة والسلام يُسأل أسئلة متعددة عن الساعة، فكان أحياناً يجيب بشيء من أماراتها، وأحياناً يجيب بما هو أهم من السؤال عن الساعة.

فمما سئل عنه وكان الجواب بلفت النظر إلى ما هو أهم من المسئول عنه ذلك الحديث الذي فيه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها)، أي: أن الساعة قائمة، وكل آت قريب، ولكن ما الذي أعددته لنفسك إذا قامت الساعة؟ فالسائل صدقه في الجواب (فقال: أعددت لها حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)، فصرفه عن السؤال، ولفت نظره إلى الأمر الذي ينبغي أن يشتغل به، وهو أن يستعد للساعة وللموت، فالإنسان لا يجد أمامه إلا ما قدم، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

وهذا من كمال بيانه ونصحه عليه الصلاة والسلام لهذا السائل الذي سأله.

ومن ذلك -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه يحدثهم، فجاء رجل ووقف على الحلقة وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر فيما هو فيه من تحديث أصحابه، فلما فرغ قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله. فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

قال الحافظ ابن حجر وهو يتكلم على استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم في الكلام مع أصحابه، وإعراضه عن هذا السائل، وفي هذا دليل على أن أخذ العلم بالسبق. أي أن الذي كان الحديث معه أولى بالتحديث من شخص يأتي بعده ويقطع الحديث.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن جرير الطبري في (لسان الميزان) أن ابن جرير الطبري رحمه الله كان يجلس في مجلس العلم، فحضر مجلسه مرة من المرات ابنُ الوزير ابن الفرات ، فتوقف الذي له الدور والنوبة هيبة من ابن الوزير، وظن أن ابن جرير سيقدم ابن الوزير، فقال له ابن جرير : إذا كانت النوبة لك فابدأ ولا تعبأ بدجلة ولا بالفرات. يعني بالفرات ابن الفرات ، ومعنى ذلك أن صاحب السبق والأولية أولى من غيره.

وهذا هو الذي يسمونه في هذا الزمن الطوابير، أي: أن يكون الناس بعضهم وراء بعض، فهذا موجود في الإسلام قبل أن يوجد في هذا الزمان عند المسلمين أو عند الكفار.

علامات الساعة

فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يجيب في بعض الأوقات ببعض الأمارات كما أجاب في حديث جبريل فقال: (أن تلد الأمة ربتها)، وفُسِّر ذلك بأنه يكون عند كثرة الفتوح، وأن الأسياد يطئون الإماء، فإذا ولدت الأمة فإنها تكون أم ولد، وأحكام أمهات الأولاد معروفة، والقول الصحيح أنها لا تباع، وأنها تعتق بموت سيدها، ولهذا فإنهم كانوا يكرهون أن تلد الإماء؛ لأن الأمة إذا ولدت لم يتمكن سيدها من بيعها، فتضيع عليه ماليتها، ولذا فإنهم كانوا يعزلون عنهن عند الجماع.

فمعنى (أن تلد الأمة ربتها)، هو أن تلد لسيدها ولداً يكون الولد بمنزلة أبيه، فكأنه بمنزلة سيدها.

وهذه الأمارة والعلامة ليست مذمومة، فليست كل أمارات الساعة فيها ذم، فمنها ما هو مذموم، ومنها ما ليس مذموماً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز) ليس فيه ذم، وهو أمر سيقع، ولا يعتبر من قبيل الأشياء المذمومة.

ومن هذا الوجه -أيضاً- ما جاء من أن المسلمين يجاهدون الكفار، فتكثر الفتوحات ويكثر السبي، فهذا شيء جيد، ولا يعتبر مذموماً، وإنما الذم فيما يحصل من كون الولد يعامل أمه معاملة لا تليق، لذلك قال بعض أهل العلم: إن المقصود من الحديث السابق هو العقوق. وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، فذهب إلى أن المراد أنه يكثر العقوق، فيكون الولد بمنزلة السيد، فلا يعامل أمه معاملة لطيفة، بل يكون بمنزلة الآمر الناهي، فتنعكس الأمور والأحوال، فيصير من هو أهل للاحترام والتوقير يسعى إلى أن يوقر من كان يجب عليه أن يوقره هو، فيكون على هذا التفسير مذموماً.

فالحاصل أن هذه العلامة على التفسير السابق ليست مما يُذم، وقيل: إن المقصود من ذلك أن يكثر السبي، فيترتب عليه أن الولد يملك ثم يعتق، ثم بعد ذلك يشتري أمّه وهو لا يدري أنها أمّه، فيسيء إليها، ويكون سيداً لها، فيكون مذموماً على هذا التفسير.

وقيل في معناه: إن الأمة تلد ابن سيدها، ثم يصير ذلك المولود ملكاً، فيكون رئيساً عليها وعلى غيرها ممن هو تحت ولايته.

وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان)، أي أن الذين كانوا فقراء وعراة الأجسام وحفاة الأرجل، وكانوا لا يجدون من النعال واللباس ما يكفيهم تتغير بهم الأحوال، وتكثر الأموال، فينتقلون من الحالة التي كانوا عليها إلى أن يتطاولوا في البنيان ويتباهوا به، فكل واحد يريد أن يكون أطول من غيره، وهذا فيه ذم، فقد كان مقصودهم المباهاة والتطاول، وهاتان الخصلتان مذمومتان، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بهاتين الأمارتين والعلامتين من علامات الساعة.

ثم قال عمر: (فلبث ملياً) وفي بعض الروايات (فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ردوا السائل. فذهبوا فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وجاء في قصة عمر أنه كان بعد ثلاث، أي: بعد ثلاثة أيام، ويجمع بين هذا وبين ما جاء من أنه أخبره في الحال أن عمر لم يكن في ذلك المجلس بعد انصرافه وانتهائه، وإنما خرج ولقي النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث عن الرجل الذي جاء وسأل هذه الأسئلة.

حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الأسئلة

وتقديم السؤال بهذه الطريقة فيه تمكين للسؤال في وعي وذهن المسئول، ففي ذلك لفت لنظره، بخلاف ما لو قيل: إن السائل هو فلان. فإنه لا يكون له ذلك الوقع في نفس من وجّه إليه السؤال، فإذا جاء الجواب بعد ذلك فإنه يكون أوقع في نفسه، وأثبت في قلبه، وأمكن في استيعاب الشيء الذي يُخبَر به.

وهذا من الأساليب التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها مع أصحابه ليمكنهم من استيعاب ما يصدر منه، ومثل ما جاء في قصة معاذ بن جبل لما كان راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال له: (يا معاذ ! فقال له معاذ : لبيك -يا رسول الله- وسعديك. فقال: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إن حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق الله على العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فمهد للجواب بهذه الأسئلة وهذا الخطاب حتى يكون عند معاذ الحرص والاهتمام تتلقي ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالنسبة لـعمر رضي الله عنه هنا، فقد قال له: (أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليل على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيعطيهم الجواب، وأما بعد ذلك فليس لأي إنسان إذا سئل عن أي شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم. فقد يسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم. لأن الرسول صلى عليه وسلم لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال الله عز وجل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم كل غيب، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، فلا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فأضاف إليه التعليم؛ لأنه متسبب فيه وإن لم يكن مباشراً للتعليم، فالذي باشر التعليم هو رسول صلى الله عليه وسلم، فصار المتسبب في حكم المباشر.

فسؤال الإنسان لا يكون دائماً عن الأشياء المجهولة فقط، بل قد يسأل عن الشيء يعلمه من أجل أن يسمع الناس جواب هذا السؤال، فهذا من الأمور المستحسنة، وليس هذا من الأمور التي لا تنبغي، بل هذا مما ينبغي؛ لأن فائدته أن يعلم غيره مثلما علم، ولهذا فقد أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم التعليم إلى جبريل -مع أنه إنما كان سائلاً- لكونه حصلت الفائدة للصحابة من جراء سؤاله.

ولقد كان سؤال جبريل وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمور كلية وقواعد عامة، وهذه هي أصول الدين، وأما تفاصيله وجزئياته فلا تنحصر، ولكن هذه هي الأمور الكلية والقواعد العامة، وذلك في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان، مثل تفسير الإسلام بأنه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وكذلك أيضاً تفسير الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإحسان وبيان معناه، وكذلك السؤال عن الساعة، وبيان أنه لا يعلمها إلا الله، فلتقطع الآمال عن التفكير فيها والبحث عن وقتها؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأماراتها وعلاماتها كثيرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من علاماتها.

وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام على حديث جبريل الطويل من رواية عمر بن الخطاب رضي الله، وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنتكلم على حديث: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) والكلام عليه داخل في الكلام على حديث جبريل السابق؛ لأن هذه الأمور الخمسة هي التي اشتمل عليها جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا أرجأنا الكلام عليها إلى الحديث الآتي؛ لأنه مشتمل عليها، ولم نجعل الكلام عليها ضمن هذا الحديث، فيعتبر الكلام على الحديث الآتي ضمن الكلام على حديث جبريل، والله تعالى أعلم.

انتهى الكلام في شرح حديث جبريل إلى درجة الإحسان، وقد ذكر قبل ذلك درجة الإسلام والإيمان، فالدرجات ثلاث:

أولها: درجة الإسلام، ثم تليها درجة الإيمان، ثم تليها درجة الإحسان.

وكل درجة أكمل من الدرجة التي قبلها، وكل درجة داخلة في التي قبلها، فكل مؤمن مسلم، وكل محسن مؤمن ومسلم؛ لأن درجة الإحسان هي درجة كمال، وأقل منها درجة الإيمان، وأقل منهما درجة الإسلام.

فالإنسان بمجرد دخوله في الإسلام وإتيانه بما يعصم به دمه من الدخول في الإسلام يقال له: مسلم. ويلي ذلك درجة الإيمان.

ولهذا فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، وقد جاء في القرآن في قصة الأعراب الذين ذكر قصتهم في سورة الحجرات قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

فالإيمان أكمل من الإسلام؛ لأن الإسلام يحصل لكل من دخل في الإسلام، وأما الإيمان فيكون لمن حصل منه شيء من الكمال في إسلامه، فهي درجة أعلى، وأعلى منها درجة الإحسان.

وكذلك الحديث الذي فيه قصة الجماعة الذين جاءوا -كما في حديث سعد بن أبي وقاص - أن جماعة أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم إلا رجلاً، وكان ذلك الرجل أمثلهم عنده، فقال له سعد بن أبي وقاص : أعطيت الجماعة الفلانية وفيهم فلان لم تعطه وهو مؤمن. فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم؟!) أي أنه يرشده إلى أن يقول الدرجة الدنيا، فكرر عليه سعد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أو مسلم؟!) ثم ذكر أنه يعطي أقواماً يرجو تألفهم لما عندهم من الضعف، وأنه يترك أناساً لما عندهم من قوة الإيمان، فلا يعطيهم مثلما يعطي من كان إسلامهم يحتاج إلى أن يرسخ في قلوبهم وأن يؤلفوا على الإسلام وأن يتمكن الإيمان من قلوبهم.

والإحسان هو أكمل الدرجات الثلاث، وقد ذكر الله عز وجل الإحسان في القرآن وأن جزاءه الإحسان فقال: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] والحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل، كما جاء ذلك مفسراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي أخرجه مسلم في صحيحه.

وفي القرآن أن الحسنى إنما تكون للمحسنين، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

وفي مقابل ذلك فإن السوأى للمسيئين، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى [الروم:10].

فقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]يقابله قوله تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى [الروم:10]، والسوأى هي النار، والمراد أنهم أساءوا أعمالهم حتى أوصلتهم إلى النار، فكانوا من أهلها، والآية في حق الكفار؛ لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.