الشهود


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين: لا يخفاكم ولا يجهل أي واحد منكم أن الله ما خلقكم عبثا، ولن يترككم سدى، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، وآتاكم الأبصار والأسماع والأفئدة، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

معاشر المؤمنين: إن كثيراً من المسلمين انطلقوا في هذه الدنيا غير ملتفتين للغاية التي من أجلها خلقوا، ولا مبالين لهذه الشريعة التي بها أمروا، فانطلقوا يتفننن في ألوان الملذات، والمعاصي والشهوات، متجاهلين أو جاهلين أن الله رقيب حسيب عليهم.

شهادة الله على عباده

أيها الأحبة في الله: من استقرأ كتاب الله جل وعلا أدرك شيئاً على حسب فهمه وقدراته وإدراكه، أدرك علماً على حسب ما آتاه الله جل وعلا من الفهم، ومن ذلك يدرك أن هناك سبعة من الشهود على بني آدم، هناك شهود عليكم -يا معاشر المؤمنين!- وأعظم وأجل وأكبر شهادة هي شهادة الله جل وعلا على عباده، فهو الذي خلقهم من العدم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً، وهداهم إلى الإسلام، ووفقهم وآتاهم النعم التي لا تحصى، فالله شهيد على عباده، ومن أجل هذا جاءت الآيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً [النساء:33] فالله شهيد على أعمالكم، وشهيد على كل صغير وكبير من الأعمال التي تفعلها جوارحكم، ويقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] مطلع على أعمالكم: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3]، ويقول الله جل وعلا: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، ويقول جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16] علم الله عمل العبد سابقاً لابتدائه واستئنافاً لفعله، علم الله لأعمالنا سابقاً لها، فهو عالم بأعمالنا وما نجترحه، وهو يعلم ما توسوس به نفوسنا، وما تحدث به قلوبنا قبل أن يصل الأمر إلى حركة الشفاه أو أفعال الجوارح، فهذه شهادة عظيمة جليلة من الله عليكم يا معاشر المؤمنين، فمن تيقن هذا وراقب الله سبحانه وتعالى وأدرك أن الله شاهد شهيد مطلع رقيب حسيب عليه لم يجترئ على معصية من المعاصي، ولم يجترئ على أن يقابل نعم الله بالجحود والكفران.

شهادة الملائكة

أما الشاهد الثاني: فهم الملائكة -يا عباد الله!- إن الله جل وعلا جعل عليكم ملائكة حافظين، كراماً كاتبين، يكتبون كل أعمالكم وكل تصرفاتكم وحركاتكم، وسنجد هذا يوم العرض الأكبر على الله، يوم لا تخفى من العباد خافية، كل صغيرة وكبيرة مسطورة في الكتاب، كل دقيق وجليل مقيد في هذه الصحائف والسجلات: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويقول جل وعلا: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] فالملائكة شهود عليكم يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، ويقول جل وعلا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ... [ق:17-18] ليس الأمر عند حد الفعال، ليس الأمر عند حد الحركات والتصرفات، بل الأقوال محسوبة مكتوبة: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول جل وعلا: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61] فهل بعد علم عبد من عباد الله أن الله شهيد شاهد مطلع على أعماله، وأن الملائكة كاتبة للدقيق والجليل من أفعاله، يتجاهل أمر ربه؟! أم ينسى زواجر خالقه؟! أم يتغافل عما أوجب الله عليه؟! حاشا وكلا يا عباد الله، ولكن المعصية تأتي إلى العباد في حين غفلة عن مراقبة هؤلاء الشهود.

شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم

معاشر المؤمنين: واعلموا أن رسولكم صلى الله عليه وسلم شهيد عليكم، يقول الله جل وعلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41]، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: قال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (يا بن أم عبد ! أو يا بن مسعود ! اقرأ عليّ القرآن، قال: أأقرأه عليك وعليك أُنزل يا رسول الله؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فافتتح قول الله جل وعلا من أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] حتى وصل قول الله جل وعلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] فقال: حسبك، حسبك، فالتفت إليه ونظرت فإذا عيناه تذرفان) فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان بالدموع من قوله جل وعلا: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41].

يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو العالم بكلام ربه جل وعلا: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا ربي! أمتي أمتي؟ فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا شهادة نبيكم صلى الله عليه وسلم عليكم، يقول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] أنتم يا أمة محمد! جعلكم الله أمة وسطاً عدولاً لتكونوا شهداء على الناس، وعليكم شهيد من الله وملائكته وكتبه ورسله، ويكون الرسول عليكم شهيداً، ويقول الله جل وعلا: َيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ [النحل:89] فهل بعد هذه الشهادة؛ شهادة الله على خلقه، وكتابه، والملائكة على أفعالهم، وشهادة الأنبياء على أممهم، هل بعد هذا يا عباد الله! نغرق في الذنوب والمعاصي؟! أو ننسى واقعنا وما نحن فيه من اللهو والغفلة عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟!!

شهادة النفس

وإليكم شهيد رابع من أنفسكم يا عباد الله: تلكم هي شهادة أنفسكم على أنفسكم، شهادة جوارحكم على أنفسكم، إن أول شهادة منكم على أنفسكم: أنكم شهدتم وأقررتم بأن الله خلقكم، أنتم شهدتم بأن الله واحد خلقكم: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] قد أخرجكم الله من أصلاب الرجال، أخرج الله ذرية آدم من أصلاب الرجال كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربهم فشهدوا على أنفسهم، ومع ذلك فالله جل وعلا يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وفطرتكم ناطقة حية بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فأنتم شهود على أنفسكم، وجوارحكم شهود عليكم، يقول الله جل وعلا: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، ويقول جل وعلا: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت:20-21] كل مجرم، كل عاص، كل رجل يحاسب نفسه يوم القيامة إلا من نجاه الله وكتب له الفوز والسعادة، يقول لجوارحه: لم شهدت يا يدي عليَّ؟ لم شهدت يا سمعي عليَّ؟ لم شهدت يا لساني عليَّ؟ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:21-22] ومن ذا يستتر عن علم الله وملائكته والله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ومن ذا الذي لا يستتر عن ملائكة الله وهم على يمينه وشماله لا يلفظ أو يفعل أو يكتب أو يقول إلا وهم شهود على فعله، فتنبهوا لهذه الشهادة من أنفسكم على أنفسكم يا عباد الله! وليحاسب كل واحد منا نفسه، وليتذكر أنه سيقف خصيماً لجلده، خصيماً لجارحته, خصيماً لسمعه، خصيماً لبصره، وقد نسي أن الله جل وعلا ينطق هذه الجوارح وينطق الجلود والأجسام فهي شهادة رابعة عليكم .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

شهادة الأعمال

الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والمثيل، والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتجنبوا سخط ربكم فإن أجسامكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.

اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

معاشر المؤمنين: إن عليكم شهادة عظيمة من خالقكم، وملائكة ربكم، ومن أنفسكم، ومن الرسول الذي بعث في أمتكم، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوا أنفسكم في أفعالكم وأعمالكم وأقوالكم، واعلموا يا عباد الله! أن أعمالكم شاهدة عليكم، اعلموا أن العمل شاهد على صاحبه، وأن الأعمال هي من أعظم الشهادات على صاحبها، وشهادة العمل هي: شهادة المآل والمنقلب والنتيجة، فمن كان مآله ومنقلبه وخاتمة أمره إلى السعادة، والخلود في الجنة والرضوان والنعيم المقيم فعمله شاهد له بهذا، ونال فضل الله ونعيمه برحمة الله ثم بعمله، ومن كان من أهل الشقاوة والعذاب المقيم، والخلود في الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، فإن عمله شاهد عليه بحكم المنقلب والمآل بأفعاله وأعماله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] ما الذي جعل المجرمين في سقر؟ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:43-47].

إذاً يا عباد الله! أعمالهم سبب وشاهدة على مآلهم ومنقلبهم، فاتقوا الله في أعمالكم وأفعالكم.

شهادة العباد

عباد الله: واعلموا أن عباد الله شهود عليكم أجمعين: (يقول النبي صلى الله عليه وسلم وكان جالساً ذات يوم مع صحابته وقد مرت جنازة فأثنى الصحابة عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مرت جنازة فأثنى الصحابة رضوان الله عليهم شراً، فقال: وجبت، قالوا: يا رسول الله! مرت الأولى فقلت: وجبت، ومرت الثانية فقلت: وجبت؟ قال: أما الأولى فأثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وأما الثانية فذكرتم عنها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهود الله في أرضه، أنتم شهود الله في أرضه، أنتم شهود الله في أرضه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

إذاً يا عباد الله! ففوزوا بشهادة إخوانكم المؤمنين، عليكم بالصلاح والاستقامة، وإن الناس ليشهدون في هذا الزمان وفي كل زمان ومكان لأهل الخير بالخير، ولأهل الفساد بالفساد، ولأهل الباطل بالباطل، ولأهل المعاصي بالمعاصي.

إذاً يا عباد الله! اغتنموا الأعمال الصالحة تنالوا رضا ربكم، وشهادة الملائكة عليكم، وكتابة الحسنات لكم، ومضاعفة الثواب والأجور لكم يوم القيامة، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لكم، وتفوزوا بأن تكونوا في زمرته يوم القيامة، وشهادة الأعمال لكم، وشهادة أنفسكم وجوارحكم لكم، وشهادة إخوانكم المسلمين أجمعين لكم.

شهادة الأرض

واعلموا يا عباد الله! أن الأرض التي نمشي عليها هي والله أيضاً شاهدة بأعمالنا وأفعالنا، إن الأرض إذا زال الرجل الصالح منها بكت عليه وافتقدته، وإذا مشى الرجل المجرم فيها تمنت أن تنفتح فجاجها لتبتلعه إلى أسفل سافلين.

إذاً يا عباد الله! فكونوا من الذين تشهد لهم السماوات والأرضون بأفعالهم، يقول الله جل وعلا: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29] إذاً فالسماء تبكي والأرض تبكي؛ تبكي على فراق الصالحين المحسنين، على فراق الأتقياء المخبتين، على فراق الخاشعين الساجدين، أما المجرمون، أما الفاسقون، والظالمون، والمعاندون فإن السماء والأرض لا تبكي عليهم: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ [الدخان:29].

إذاً يا عباد الله! اغتنموا هذه الشهادة في الأعمال الصالحة، وراقبوا أنفسكم، فاليوم عمل ولا جزاء، وغداً جزاء ولا عمل، وحقيقة الأمر يا عباد الله! أن الناس يجزون على أعمالهم في الدنيا والآخرة، ولكن قد يؤخر الجزاء ليكون أغلظ وأشد عقوبة على صاحبه، اعلموا أن كل من حولكم يشهد لكم حتى الجمادات، حتى النباتات، إنها لتشهد للصالحين بالصلاح، ولتشهد على الفاسقين بالإجرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا كنت في راعيتك أو في غنمك فحضرت الصلاة فارتفع صوتك بالأذان أو أذنت -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فإنه ما من شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد للمؤذن يوم القيامة) الأشجار نباتات، والأحجار والمدر جمادات، كلها تشهد لكم معاشر المؤمنين! فاغتنموا شهادة الشهود السبعة، واغتنموا أعظم وأجل وأكرم شهادة شهادة الله عليكم، والله شهيد عليكم: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98]، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:9].

اللهم اجعلنا ممن شهدت لهم بالعمل الصالح، والسعادة والفوز والنجاة، اللهم اجعلنا ممن شهدت لهم ملائكتك وأنبياؤك ورسلك، والخلق أجمعون بالصلاح والسعادة والأعمال التي ترضيك يا رب العالمين.

اللهم لا تجعلنا من المشهود عليهم بالفسق والإجرام، والمعصية والعناد، والمكابرة والإصرار، اللهم وفقنا إلى أسباب مرضاتك، وجنبنا سبل سخطك.

اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الحي القيوم، اللهم إن كثرت ذنوبنا فإن فضلك أكثر وأعظم، وإن عظمت معاصينا فإن رحمتك أكبر وأعم.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، اللهم ومن أراد بولاة أمورنا فتنة، اللهم ومن أراد بعلمائنا مكيدة، اللهم ومن أراد بشبابنا وفتياتنا اختلاطاً في التعليم والوظائف اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوأ من ذلك يا جبار السماوات والأرض! فإنهم لا يعجزونك.

اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم ارفع إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وأعوانه وإخوانه على كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تفرح عليهم حاسداً، ولا تشمت بنا ولا بهم عدواً، وسخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك.

اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً ومنّاً وغفراناً، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فاجعل اللهم الرحمة على قبره، وأفسح له في قبره مد بصره، وافتح له أبواباً إلى النعيم والجنان، وآنس وحشته وغربته برحمتك يا أرحم الراحمين.

إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماَ، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك! اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لك الحمد على ما أغثتنا به، اللهم اجعله صيباً نافعاً، وانفع به اللهم عموم المسلمين، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا فلا غنى لنا عن فضلك ومنك ورحمتك يا رب العالمين.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.