أرشيف المقالات

سيرة طلحة بن عبيد الله

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
سيرة طلحة بن عبيد الله
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
 
وبعدُ:
فهذه مقتطفات مِنْ سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبطلٍ مِن أبطالها، صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقتبس مِنْ سيرته العطرة الدروسَ والعِبر، هذا الصحابي شهد المشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا غزوة بدر، فقد غاب عنها لعارضٍ ما، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه، وكان من السابقين إلى الإسلام، فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وقد اشتهر بالفروسية والشجاعة، وأبلى في معركة أُحُد بلاءً عظيمًا، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَوْجَبَ))؛ يعني: وجبت له الجنة، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذَكر يوم أُحُد يقول: هذا اليوم كله لفلان؛ يعني: طلحة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، آخى بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، وأحد السِّتَّة الذين توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
 
إنه فارس الإسلام، طلحة بن عبيدالله بن عثمان القرشي التيمي، ويُكنى أبا محمد، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض؛ لكَرَمِه وجُوده، وصفه ابنه موسى فقال: كان أبي أبيضَ يضرب إلى الحمرة، مربوعًا إلى القصر هو أقرب، رحب الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم القدمَيْن، وقد لقي في بداية إسلامه أذًى شديدًا، فقد أخذه نوفل بن خويلد هو وأبا بكر الصديق فشدَّهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، وكان يعذبهما تعذيبًا شديدًا، فلم يجيباه إلى ما أراد من الرجوع عن الإسلام إلى الكفر.
 
وكانتْ لهذا الصحابي مواقفُ بطوليةٌ رائعة، تدلُّ على شجاعته ونصرته لهذا الدين، فمن أعظم تلك المواقف ما بذَلَه يوم أُحد من دفاعٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكاثر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحميه بجسده عن النبال والسيوف أن تصيبه، حتى إنه جرح يوم أُحُد أربعةً وعشرين جرحًا، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وشلَّت أصابعه.
 
روى البخاري في صحيحه من حديث قيس بن أبي حازم، قال: "رأيت يد طلحة بن عبيدالله شلاء[1]، وقى بها النبيَّ - صلى الله عليه وسل"[2]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كُسرت رباعيته[3]، وجُرحت شفته، وسال الدم على وجهه، فجعل طلحة يكرُّ على المشركين حتى يدفعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقلب إلى النبي ليرقى به إلى الجبل.
 
روى الترمذي في سننه من حديث الزبير رضي الله عنه قال: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد درعان، فنهض إلى صخرة فلم يستطع (من الثقل والإعياء)، فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة))؛ أي: وجبتْ له الجنة[4]، وروى البخاري ومسلم من حديث أبي عثمان قال: لَم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرُ طلحة وسعد، عن حديثهما[5].
 
ومِنْ فضائله العظيمة: ما رواه الترمذي في سننه من حديث جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سرَّه أن ينظر إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيدالله))[6].
 
وروى الترمذي في سننه من حديث موسى بن طلحة، قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشِّرك؟ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طلحة ممن قضى نحبه))[7].
 
قال شراح الحديث: أي بذَلَ نفسه في سبيل الله، حتى لم يبقَ بينه وبين الهلاك شيءٌ، فهو كمَن قُتل وإن كان حيًّا.
وقد اشتهر رضي الله عنه بالكرم والإنفاق والبذل؛ لذلك سُمِّي طلحة الخير، وطلحة الفياض.
 
يقول قبيصة بن جابر رضي الله عنه: صحبت طلحة، فما رأيتُ أعطى لجزيل مالٍ منه من غير مسألة، وذكر الحافظ في الإصابة: "أن قتْله كان على يد مروان بن الحكم في معركة الجمل"، روى يعقوب بن سفيان في كتابه "المعرفة والتاريخ" عن قيس بن أبي حازم، أن مروان بن الحكم رأى طلحة، وقال: هذا ممن أعان على قتْل عثمان، فرماه بسهم فأثبته في ركبته، فجعل الدم ينزف منه حتى مات[8]، قال الذهبي: نُشهد الله على بُغض قتلة الصحابة أمثال: طلحة، والزبير، وعلي، ونبرأ إلى الله مِنْ فعلهم، ونكل أمرهم إلى الله[9].
اهـ.
 
ودخل عمران بن طلحة بعد معركة الجمل على علي بن أبي طالب، فرحَّب به وأدناه، وقال: إنِّي لأرجو أن يجعلني الله وأباك والزبيرَ بن العوام ممن قال فيهم: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].
 
وكان قتله سنة ست وثلاثين من الهجرة في جمادى الآخرة، وله أربع وستون سنة.
رضي الله عن طلحة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
 



[1] ص 711، برقم 3724.


[2] شلاء؛ أي: مشلولة.


[3] الرباعية: هي السنُّ التي بين الناب والثنية.


[4] ص 583، برقم 3738، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.


[5] ص 711، برقم 3722.


[6] ص 584، برقم 3739، وصححه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (3/216)، برقم 2940.


[7] ص 584، برقم 3740، وصححه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (3/216)، برقم 2942.


[8] "الإصابة" (3/292)، وقال ابن حجر: إسناده صحيح.


[9] "تاريخ الإسلام" ص 654، عهد الخلفاء الراشدين بتصرف.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢