أرشيف المقالات

الكائنات والتسبيح

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الكائنات والتسبيح

يقول الله تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].
 
فالله سبحانه تُقدِّسه السموات السبع والأرض ومَن فيهنَّ - أي: مِن المخلوقات - وتُنزِّهه، وتعظِّمه، وتُبجِّله، وتُكبِّره عما يقول هؤلاء المشركون، وقوله: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾؛ أي: وما مِن شيء مِن المَخلوقات إلا يسبِّح بحمد الله، ﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾؛ أي لا تفقَهون تسبيحَهم أيها الناس؛ لأنَّها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنَّباتات، وهذا أشهر القولَين؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمَع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وفي حديث أبي ذرٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسُمعَ لهنَّ تسبيحٌ كحنين النَّحل، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهو حديث مشهور في المسانيد، وقال قتادة عن عبدالله بن أُبيٍّ عن عبدالله بن عمرو أن الرجلَ إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها، وإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشُّكر التي لم يَشكُرِ اللهَ عبدٌ قطُّ حتى يقولها، وإذا قال: الله أكبر، فهي تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: سبحان الله، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدعِ اللهُ أحدًا من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: أسلَمَ عبدي واستسلم"[1].
 
ومن الأحاديث الواردة في تسبيح الكائنات:
1- روى البخاري عن علقمة، عن عبدالله، قال: كنا نعد الآيات بركةً، وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلَّ الماء، فقال: ((اطلبوا فضلةً من ماء)) فجاؤوا بإناء فيه ماء قليلٌ فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ((حي على الطهور المبارك، والبركة من الله)) فلقد رأيتُ الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل[2].
 
2- وروى مسلم في صحيحه عن حذيفة، قال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يُصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: ((سبحان ربي العظيم))، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: ((سمع الله لمن حمده))، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: ((سبحان ربي الأعلى))، فكان سجوده قريبًا من قيامه، قال: وفي حديث جرير من الزيادة، فقال: ((سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد))[3].
 
3- وعن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما أراد الله تبارك وتعالى حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت ألا تَخدشنَّ له لحمًا، ولا تكسرنَّ له عظمًا فأخذه، ثم أهوى به إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسًّا فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه وهو في بطن الحوت؛ أنَّ هذا تسبيح دواب الأرض، فسبَّح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غربة، فقال تبارك وتعالى: ذلك عبدي يونس عَصاني فحبستُه في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يَصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145]))[4].
 
4- عن عبدالله بن مسعود قال: "إنكم تعدُّون الآيات عذابًا، وإنا كنا نعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بركةً، لقد كنا نأكل الطعام مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام، قال: فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، فوضَع يدَه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حي على الوضوء المبارك، والبركة من السماء)) حتى توضَّأنا كلُّنا"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح[5].
 
وإذا كانت الكائنات كله تسبِّح الله سبحانه وتعالى، فهل نَقتدي بها؟ هل ننشغل بذكر الله سبحانه والتسبيح له، والتحميد، والتهليل، كما تفعل باقي الكائنات؟ هل تكون باسم الله، والحمد لله، وباقي التسبيحات شغلنا وعملنا وقيامنا وقعودنا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، وكما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 15، 16]، من أجْلِ أن نَنتفع بهذا التسبيح؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].
 
لنعلم أن "بسم الله" رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال!
فيا نفسي، اعلمي أن هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكـر جميع الموجودات بألسنة أحوالها، فالموجودات أيضًا تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغر تَحمل فـوق رؤوسها باسم الله أشجارًا ضخمة وأثقالاً هائلة؛ أي: إن كل شجرة تقول: "بسم الله"، وتملأ أيديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا، وكل بستان يقول: "بسم الله"، فيغدو مطبخًا للقدرة الإلهية تنضج فيه أنواع من الأطعمة اللذيذة، وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع - كالإبل والمِعزى والبقر - يقول: "بسم الله" فيُصبح ينبوعـًا دفاقـًا للـبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذٍّ وأنظَفه، وجذور كل نبات وعشب تقول: "بسم الله" وتشق الصخور الصلدة باسم الله، وتثقبها بشُعيراتها الحريرية الرقيقة، فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب، وكل شيء صلد، فإن كنتِ، أيتها النفس، راغبة في إدراك مدى ما في "بسم الله " من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب.
 
نعم؛ إن هذه الكلمة الطيبة "بسم الله " كنز عظيم لا يفنى أبدًا؛ إذ يَرتبط "فقرك" برحمة واسعة مُطلَقة أوسع من الكائنات، ويتعلَّق "عجزُك" بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمـام الوجود من الذرات إلى المَجرَّات، حتى إنه يُصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مَقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.
 
إن الذي يتحرَّك ويَسكن، ويُصبح ويُمسي بهذه الكلمة "بسـم الله" لا يخاف أبدًا؛ حيث إنه يتكلَّم باسم الله، فينجز الأعمال ويَثبت أمام كل شيء[6].

[1] أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ): "تفسير القرآن العظيم"، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية، - بيروت - 1419 هـ، 5 / 73.

[2] محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط1، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي)، 1422هـ، 4 / 194، حديث (3579).

[3] مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ): "المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1 / 536، حديث (772).

[4] أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق بن خلاد بن عبيدالله العتكي المعروف بالبزار (المتوفى: 292هـ): "مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار"، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، (حقَّق الأجزاء من 1 إلى 9)، وعادل بن سعد (حقَّق الأجزاء من 10 إلى 17)، وصبري عبدالخالق الشافعي (حقق الجزء 18)، ط1، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، (بدأت 1988م، وانتهت 2009م)، 15 / 34، وقال البزار: "وهذا الحديث لا نَعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".

[5] عبدالحق بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الحسين بن سعيد إبراهيم الأزدي، الأندلسي الأشبيلي، المعروف بابن الخراط (المتوفى: 581 هـ): "الأحكام الشرعية الصغرى "الصحيحة"، تَحقيق: أم محمد بنت أحمد الهليس.
أشرف عليه وراجعه وقدم له: خالد بن علي بن محمد العنبري، ط1، مكتبة ابن تيمية، القاهرة - جمهورية مصر العربية، مكتبة العلم، جدة - المملكة العربية السعودية، 1413 هـ - 1993 م، 2 / 904.

[6] سعيد النورسي: "رسائل النور: الكلمات"، بدون بيانات أخرى، (ص: 1 - 2).

شارك الخبر

المرئيات-١