عندما يكون لحياتنا معنى


الحلقة مفرغة

الحمد لله؛ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يكتب خطاكم إلى هذه الروضة العبقة من رياض الجنة في موازين أعمالكم، كما أسأله أن يحط عنكم بكل خطوة خطيئة، وأن يرفع لكم بكل خطوة درجة، كما أسأله سبحانه أن يحشرنا وإياكم كما اجتمعنا بكم في هذا المكان الطيب، نسأله أن يحشرنا وإياكم في زمرة نبيه صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

أيها الأحبة! إنه لجمع نباهي به بفضل الله جل وعلا، وإنه لاجتماع يبعث في النفوس الإشراق ويبعث في القلوب الأمل ويستمطر الرحمات بالدعاء من الله جل وعلا أن يسدد هذه الصحوة وأن يجعل مسيرها إلى خير، وأن يجعل عاقبتها إلى رشد وفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يعصمها عن مواقع الزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن.

أيها الأحبة! إن جمعاً كهذا كان قبل اثنتي عشرة سنة نادراً في أكبر المدن، والله لقد كنا في المحاضرات قبل اثنتي عشرة سنة أو قبل ذلك أيضاً، يندر أن تجد اجتماعاً كهذا في مدينة من كبريات المدن، أما ونحن بفضل الله جل وعلا في منطقة من المناطق أو في ضاحية من الضواحي ونرى هذا الجمع الطيب المبارك برجاله ونسائه، بشبانه وشيبه، بذكوره وإناثه، بصغاره وكباره، فهذه نعمة نسأل الله جل وعلا أن يديمها علينا، اللهم لك الحمد كلما قلنا: لك الحمد، اللهم لك الشكر كلما قلنا: لك الشكر، اللهم لك الثناء الحسن كلما قلنا: لك الثناء الحسن.

إذا كان شكري نعمة الله نعمة     علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله     وإن طالت الآماد واتصل الدهر

إذا عم بالسراء أعقب مثلهـا     وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

فذلك فضل من الله عظيم جدا.

أيها الأحبة! موضوع هذا الحديث معكم اليوم (حينما يكون للحياة معنى).

أيها الأحبة! الحياة الحقيقية ليست هي الحياة التي يراها الناس في ظاهر تصرفات بني جنسهم من الذهاب والإياب واليقظة والنوم والحل والترحال والسفر والنزول والوصول، وإنما الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، قال جل وعلا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] إن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، إن الحياة الصادقة هي توجه الأفئدة إلى بارئها إلى الذي خلقها وأنشأها من العدم، إلى الذي قسم أرزاقها وقسم آجالها، إلى الذي يطعمها ويسقيها ويكفيها ويؤويها، إن الحياة الحقيقية أن يتوجه الإنسان بقلبه وقالبه، بظاهره وباطنه، بشكله ومضمونه بجوهره وعرضه، أن يتوجه بهذا كله إلى الله جل وعلا.

البداية الحقيقية للحياة

أيها الأحبة في الله! الحياة الحقيقية أن يدرك الإنسان بدايته الحقيقية، وأن يدرك الإنسان البداية، وأن يدرك الدوام بعد البداية، أما بداية الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت منتقلة بذلك إلى برزخ يكون فيه الواحد من العصاة والمعذبين والأشرار الذين لم يكونوا في عداد عباد الله الصالحين في الدنيا، فأولئك ليست حياتهم بحياة.

المعنى المطلوب للحياة

أيها الأحبة! عندما يكون للحياة معنى فإن هذا يعني أموراً عديدة:

أولها: أن يشعر الإنسان أن حياته ليست لذاته فحسب، يعني هذا أن حياتك ليست لجوفك، وليست لفرجك، وليست لجيبك، وليست لرصيدك، وليست لمالك، وليست لأنانيتك، وليست لأثرتك، وإنما الحياة الحقيقية أن تعيش دائراً مع الحق حيث دار، الحياة الحقيقية ألا تكون حياتك قمة الأنانية في خدمة البدن.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أذهبت عمرك فيما فيه خسرانُ

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

الحياة الحقيقية عندما يكون لها معنى أن يشعر الإنسان بأن بدايته قديمة، وأن نهايته لا تخط أثراً للترحال إلا في رضوان الله جل وعلا، يوم أن تكون من المكلفين فإنك تشعر ببدايتك بداية الحق الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست بدايتك أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى، ليست بدايتك هي ولادتك وإنما بدايتك هي بداية الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم وبشر به الأمة وأنذر به الأباعد والأقارب وكان رسولاً به إلى الثقلين كافة الجن الإنس بشيراً ونذيرا، بدايتك تبدأ مع هذا الحق وتشعر أن نبيك هو قائدك الأول، وأن صحابة نبيك هم المثل وهم القناديل، وهم النجوم الزاهرة الذين تتلألأ كواكبهم في سماء الحق وفي طريق الهداية، وفي جادة الدعوة التي تمضي بها إلى مرضاة الله مروراً بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين وعلماء الإسلام وقادة الأمة المسلمين أجمعين، البداية ليست بداية الميلاد حينما يكون للحياة معنى وإنما هي بداية الحق، والنهاية ليست بخروج الروح من البدن، وإنما خروج الروح من البدن هو أول خطوة تضعها في باب نوال الجزاء والثواب وجميل المغفرة والستر والفوز والفلاح برب العالمين، أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى فإن حياتك لا تنتهي بموتك، وإنما تبدأ رحلة جديدة أوسع آفاقاً وأبعد مدى وأعمق أصولا وأشمل في جميع الجوانب؛ لأن نهاية المؤمن من الحياة هي بداية النعيم إلى مرضاة الله جل وعلا، وكما يقول واحد من دعاتنا وعلمائنا: أيها المسلم أنت موعود بمستقبل مشرق يبدأ بموتك.

الحياة التي لا معنى لها

هذا حينما يكون للحياة معنى، أما الذين لا معنى لحياتهم فأولئك الذين يرون الحياة في لذة الجوف، ومتعة الفرج، ونظرة العين، وحلاوة الطعم، وما يشربون ويأكلون ويلبسون، وتلك وأيم الله فانية، تلك وأيم الله حياة قصيرة، تلك وأيم الله حياة لا معنى لها؛ لأنها يشاركنا فيها الدواب والبهائم والطيور وسائر بهيمة الأنعام.

حياة الذين لا معنى لحياتهم ماذا يجدون فيها؟

مهما بلغ الواحد من الثراء والنعم والأموال فإنه لا يلبس إلا ثوباً واحداً، ولا يرى إلا بعينين اثنتين، ولا يجد إلا أنفاً واحداً في بدن محدود القوة قصير الصحة مهدد بالسقم والآلام تصبحه أو تمسيه، حياة الذين يرون الحياة التي لا معنى لها، الذين يرون الحياة مطعما حياتهم في الحقيقة أيها الإخوة نغص ونكد وآلام.

من ذا الذي قد نال راحة عمره     فيما مضى من عسره أو يسره

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى     أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

فأبو العيال أبو الهموم وحسرة     الرجل العقيم كمينة في صدره

أو ما ترى الملك العظيم بجنده     رهن الهموم على جلالة قدره

ولقد حسدت الطير في أوكارها     فرأيت منها ما يصاد بوكره

ولرب طالب راحة في نومه     جاءته أحلام فهام بأمره

والوحش يأتي موته في بره     والحوت يأتي حتفه في بحره

كيف التخلص يا أخي مما ترى     صبراً على حلو القضاء ومره

الحياة التي تتعلق بالمتع أو بالملك أو بالوزارة أو بالإمارة أو بالجاه أو بالثراء أو بالسلطان هي حياة والله قصيرة، ولذلك عبر عنها إمام أهل السنة صاحب تاج الوقار في المنافحة عن منهج أهل السنة والوقوف عقبة كئوداً أمام البدعة أحمد بن حنبل رحمه الله، لما ابتلي بالقول بخلق القرآن وأوذي أذىً شديداً وعذب عذاباً بليغا، جلد بالسياط فتمزق قميصه، وبقي أثر السياط على جلده، دخل عليه ولده عبد الله بن الإمام أحمد ، جاء ليسأل أباه: أين الحياة؟ أي حياة هذه؟ إمام السنة يعذب، إمام السنة في السجن، إمام السنة يعلق برجليه، إمام السنة يسجن في الجب والبئر، إمام السنة في ضيق والمبتدعة في سعة، إمام السنة في ضنك ونكد وأهل البدع على مفارش الحرير والنمارق والسندس، إمام السنة يبتلى صباح مساء وأولئك يتقلبون كيفما يشتهون، قال عبد الله بن الإمام أحمد : يا أبتي متى الراحة؟ أين الحياة؟ أين طعم الحياة؟ أين لذة الحياة؟ فقال الإمام أحمد : يا بني الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة. فحي على تلك المنازل.

فحي على جنات عدن فإنـها     منازلك الأولى وفيها المخيم

أيها الأحبة في الله! الحياة الحقيقية أن يدرك الإنسان بدايته الحقيقية، وأن يدرك الإنسان البداية، وأن يدرك الدوام بعد البداية، أما بداية الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت منتقلة بذلك إلى برزخ يكون فيه الواحد من العصاة والمعذبين والأشرار الذين لم يكونوا في عداد عباد الله الصالحين في الدنيا، فأولئك ليست حياتهم بحياة.

أيها الأحبة! عندما يكون للحياة معنى فإن هذا يعني أموراً عديدة:

أولها: أن يشعر الإنسان أن حياته ليست لذاته فحسب، يعني هذا أن حياتك ليست لجوفك، وليست لفرجك، وليست لجيبك، وليست لرصيدك، وليست لمالك، وليست لأنانيتك، وليست لأثرتك، وإنما الحياة الحقيقية أن تعيش دائراً مع الحق حيث دار، الحياة الحقيقية ألا تكون حياتك قمة الأنانية في خدمة البدن.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أذهبت عمرك فيما فيه خسرانُ

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

الحياة الحقيقية عندما يكون لها معنى أن يشعر الإنسان بأن بدايته قديمة، وأن نهايته لا تخط أثراً للترحال إلا في رضوان الله جل وعلا، يوم أن تكون من المكلفين فإنك تشعر ببدايتك بداية الحق الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست بدايتك أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى، ليست بدايتك هي ولادتك وإنما بدايتك هي بداية الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم وبشر به الأمة وأنذر به الأباعد والأقارب وكان رسولاً به إلى الثقلين كافة الجن الإنس بشيراً ونذيرا، بدايتك تبدأ مع هذا الحق وتشعر أن نبيك هو قائدك الأول، وأن صحابة نبيك هم المثل وهم القناديل، وهم النجوم الزاهرة الذين تتلألأ كواكبهم في سماء الحق وفي طريق الهداية، وفي جادة الدعوة التي تمضي بها إلى مرضاة الله مروراً بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين وعلماء الإسلام وقادة الأمة المسلمين أجمعين، البداية ليست بداية الميلاد حينما يكون للحياة معنى وإنما هي بداية الحق، والنهاية ليست بخروج الروح من البدن، وإنما خروج الروح من البدن هو أول خطوة تضعها في باب نوال الجزاء والثواب وجميل المغفرة والستر والفوز والفلاح برب العالمين، أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى فإن حياتك لا تنتهي بموتك، وإنما تبدأ رحلة جديدة أوسع آفاقاً وأبعد مدى وأعمق أصولا وأشمل في جميع الجوانب؛ لأن نهاية المؤمن من الحياة هي بداية النعيم إلى مرضاة الله جل وعلا، وكما يقول واحد من دعاتنا وعلمائنا: أيها المسلم أنت موعود بمستقبل مشرق يبدأ بموتك.

هذا حينما يكون للحياة معنى، أما الذين لا معنى لحياتهم فأولئك الذين يرون الحياة في لذة الجوف، ومتعة الفرج، ونظرة العين، وحلاوة الطعم، وما يشربون ويأكلون ويلبسون، وتلك وأيم الله فانية، تلك وأيم الله حياة قصيرة، تلك وأيم الله حياة لا معنى لها؛ لأنها يشاركنا فيها الدواب والبهائم والطيور وسائر بهيمة الأنعام.

حياة الذين لا معنى لحياتهم ماذا يجدون فيها؟

مهما بلغ الواحد من الثراء والنعم والأموال فإنه لا يلبس إلا ثوباً واحداً، ولا يرى إلا بعينين اثنتين، ولا يجد إلا أنفاً واحداً في بدن محدود القوة قصير الصحة مهدد بالسقم والآلام تصبحه أو تمسيه، حياة الذين يرون الحياة التي لا معنى لها، الذين يرون الحياة مطعما حياتهم في الحقيقة أيها الإخوة نغص ونكد وآلام.

من ذا الذي قد نال راحة عمره     فيما مضى من عسره أو يسره

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى     أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

فأبو العيال أبو الهموم وحسرة     الرجل العقيم كمينة في صدره

أو ما ترى الملك العظيم بجنده     رهن الهموم على جلالة قدره

ولقد حسدت الطير في أوكارها     فرأيت منها ما يصاد بوكره

ولرب طالب راحة في نومه     جاءته أحلام فهام بأمره

والوحش يأتي موته في بره     والحوت يأتي حتفه في بحره

كيف التخلص يا أخي مما ترى     صبراً على حلو القضاء ومره

الحياة التي تتعلق بالمتع أو بالملك أو بالوزارة أو بالإمارة أو بالجاه أو بالثراء أو بالسلطان هي حياة والله قصيرة، ولذلك عبر عنها إمام أهل السنة صاحب تاج الوقار في المنافحة عن منهج أهل السنة والوقوف عقبة كئوداً أمام البدعة أحمد بن حنبل رحمه الله، لما ابتلي بالقول بخلق القرآن وأوذي أذىً شديداً وعذب عذاباً بليغا، جلد بالسياط فتمزق قميصه، وبقي أثر السياط على جلده، دخل عليه ولده عبد الله بن الإمام أحمد ، جاء ليسأل أباه: أين الحياة؟ أي حياة هذه؟ إمام السنة يعذب، إمام السنة في السجن، إمام السنة يعلق برجليه، إمام السنة يسجن في الجب والبئر، إمام السنة في ضيق والمبتدعة في سعة، إمام السنة في ضنك ونكد وأهل البدع على مفارش الحرير والنمارق والسندس، إمام السنة يبتلى صباح مساء وأولئك يتقلبون كيفما يشتهون، قال عبد الله بن الإمام أحمد : يا أبتي متى الراحة؟ أين الحياة؟ أين طعم الحياة؟ أين لذة الحياة؟ فقال الإمام أحمد : يا بني الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة. فحي على تلك المنازل.

فحي على جنات عدن فإنـها     منازلك الأولى وفيها المخيم

أيها الأحبة في الله! الحياة حينما يكون لها معنى ألا يكون همك كم تجمع من المال؟ ألا يكون همك ما تلبس من الثياب؟ ألا يكون همك أي مرتبة رقيت عليها؟ ألا يكون همك كم رصدت في رصيدك في البنك؟ ألا يكون همك كم جمعت من الدور والضياع والقصور؟ وإنما الحياة الحقيقية أن يكون همك أن تكون من عباد الله المتقين، أن تكون من المقبولين، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] أن يكون همك أن تكون مع الثلة الذين هم على منابر من نور، أن تكون رفيقاً للأنبياء جليساً للشهداء، قريباً من الصالحين، داخلاً هذه الجنة أول الداخلين، هذه هي الحياة الحقيقية، أيضاً عندما يكون للحياة معنى فإن الفكر يختلف والبصر يختلف والسماع يختلف والخطى تختلف والبطش والأخذ والمد والرد يختلف، حينما لا يكون للحياة معنى سترى أقواماً الجميل في أعينهم ما كان جميلاً في دائرة العقل الضيق، وأما حينما يكون للحياة معنى فالجميل ما كان مرضياً لله جل وعلا، والقبيح ما كان مسخطاً لله جل وعلا، حتى ولو تزخرف الباطل، حتى ولو تزين بألوان الملابس والمراكب والمراتب، والجميل والعالي الطيب النفيس ما كان نفيساً عند الله جل وعلا.

حينما يكون لحياتك معنى فبصرك بنور الله جل وعلا، وسماعك لما يرضي الله لكلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطواتك في الدعوة إلى الله والسير في سبيل الله والسعي في مرضاة الله جل وعلا.

حينما يكون لحياتك معنى فإن نَفَسَك تسبيح، ونومك عبادة، وأكلك عبادة، وشربك عبادة، وبذلك عبادة، وأخذك عبادة، وقبضك عبادة، هذا حينما يكون للحياة معنى أن تجد النية لصيقة لا تفارقك بأي حال من الأحوال، فإذا خرجت من بيتك سألت القدم: إلى أين؟ وسألت القلب: من المقصود بهذا؟ فتقول القدم: إلى روضة من رياض الجنة، ويقول القلب: لكي نكون مع الذين غشيتهم الملائكة، وحفتهم السكينة، ونزلت عليهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ففي القلب إخلاص لله جل وعلا، وفي القدم سير صحيح على صراط الله المستقيم.

الصبر من مظاهر الحياة الحقة

حينما يكون للحياة معنى فإن نَفَس المسلم في هذه الدنيا طويل، حتى وإن وجد شيئاً من الآلام، حتى وإن رأى شيئاً من الأذى، أو قوبل بشيء من السخرية، أو لقي شيئاً من الاستهزاء، لأن هذا كله لا يعدل شيئاً أمام نفحة من نفحات الرحمة، ولحظة من لحظات القبول إذا قال الله: يا عبدي سعيك لأجلي وذهابك لأجلي وبصرك لأجلي ومجيئك وكلامك وصمتك وفكرك وذكرك ونطقك وحركاتك وسكناتك لأجلي، حينئذٍ يهون كل شيء حينما يكون للحياة معنى.

انظر إلى اثنين في المستشفى أحدهما إذا انقلب قال: يا الله، وإذا أحس بالألم استعان بالله، وإذا وجد مرارة السقم احتسب هذا عند الله جل وعلا؛ لأنه يعلم أن نبيه قد بلغه عنه: (ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه) هذا لحياته معنى وإن كان على سرير المرض، وآخر على سرير المرض إذا انقلب انقلب بالويل، وإذا تجافى تجافى بالثبور، وإذا تحرك تحرك بالسخط، وإذا قام قام بالاعتراض على قدر الله جل وعلا، فشتان بين هذا وهذا، حياة سقيم رضا وحياة سقيم سخط، حياة سقيم عبادة وحياة سقيم تعجيل للعقوبة في الدنيا، وإن لم يتداركه الله برحمته ففي عقوبة الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حينما يكون للحياة معنى ترى الواحد منا يحدد البداية والغاية والنهاية والوسيلة، البداية بهذا الحق، والغاية مرضاة الله جل وعلا، والوسيلة إلى هذا الدعوة إلى دين الله جل وعلا، سواء في الوظيفة أو في المسجد أو في السيارة أو في المنتدى أو في المعسكر أو في المركز أو في النادي أو في السوق أو في المستشفى أو في الذهاب أو في الإياب، هذه عبادة، الدعوة إلى الله غاية لنيل رضوان الله جل وعلا.

الفرق بين الحياتين

أيها الأحبة! شتان بين من هذه حياته وبين من حياته إنما هي لفرجه وجوفه ومشربه ومأكله، اسألوا الذين لا يعرفون للحياة معنى إلا في شهواتهم هل يشربون شراباً يبقى في أجوافهم لا يتحدق؟ وما الظن لو أن أحدهم شرب شربةً احتبست، وما الظن لو أن أحدهم أكل أكلةً احتبست، وما الظن لو أن أحدهم أُغلقت عليه سبل بدنه فلم يستطع أن يُخرج أو يُدخل شيئاً، أليست هذه حياةٌ قصيرة؟! بلى والله، حياة تافهة، فمن أراد أن يجعل الحياة بالجسوم والرسوم فهي حياة تافهة، سواء افتخر صاحب الحياة فيها بملكه فإن فرعون كان ملكاً ومع ذلك فهو من أهل النار، وإن افتخر فيها بوزارته فإن هامان كان وزيراً ومع ذلك فهو من أهل النار، ومن افتخر بحياته بماله فإن قارون كان من الأثرياء ومع ذلك عد من أهل النار، من افتخر بنسبه فإن أبا لهب من جرثومة قريش ومن عظمتها ومن وسطها وسوائها ومع ذلك قال الله فيه: سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] إذاً الحياة إنما هي بالقلوب، إنما هي بالأرواح، إنما هي بالتعلق بالله جل وعلا، فـأبو لهب النسيب الرفيع من أهل قريش يقول الله فيه: سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3] هذا أبو لهب من جرثومة قريش، وأما بلال بن رباح العبد الحبشي، كان مملوكاً اشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يا بلال أخبرني أي عمل ترجوه فإني سمعت دفي نعليك في الجنة) وهو بلال العبد الحبشي الأسود، فإن كانت معاني الحياة بالنسب فأهل لذلك أبو لهب، وإن كانت معاني الحياة بالملك فأهل لذلك الطواغيت من الذين سادوا وشادوا وملكوا، ولكنهم كانوا في كفر بالله وعصيان لأمر الله جل وعلا، لو كانت الحياة بالوزارات لكان هامان من أقرب أهل الأرض منازل، ولو كانت بالأموال لكان قارون والذين جمعوها على نحو ما جمع ملحدين منكرين نعم الله، واقفين بما أوتوا من هذه النعم في صراط الله يصدون عن صراط الله المستقيم لكانوا أسبق بذلك، لكن هذه ليست هي الحياة، إنما الحياة في قلب يتعلق بالله جل وعلا.

قيل لـبلال بن رباح: كيف كنت تصبر على حر الرمضاء يا بلال ؟! كيف تصبر والحجر يوضع على ظهرك ويوضع على بطنك وتسحب في الرمضاء، والحجارة تنكب جسدك، كيف كنت تصبر؟ قال: [والله أما إني كنت أجد ألماً عظيماً، ولكني مزجت حرارة الألم بلذة الرضا في ما أرجوه من عند الله فغلب ذلك ما أجد من آلامها] إنه قلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

التميز عن الأنعام من مظاهر الحياة الحقة

الحياة الحقيقية ليست حياة الجسوم والرسوم، لقد ذكر الله حال الكافرين وما فتح لهم وما زخرف بين أيديهم وما سخر بينهم، ومع ذلك قال الله جل وعلا في شأنهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

وذكر الله جل وعلا شأن المعرضين وإن كانوا أحياء على وجه الأرض شأن المعرضين عن ذكر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] تلك حياة الذين لا يستجيبون لله ورسوله، وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ [الأحقاف:17] فيكون جوابه العناد والاستكبار ويقول لهما: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأحقاف:17] ليست الحياة أن يرمق الطرف، أو أن تمشي الخطى، أو أن يخفق القلب، أو أن يضخ الدم، أو أن تتحرك الجوارح، هذا عرض من أعراض الحياة، لكن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، كما مر أحد السلف برجل من الذين ابتلوا بالأمراض والأسقام فقيل له: يا فلان كيف تجد حالك؟ قال: أحمد الله الذي آتاني لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وبدناً على البلاء صابراً. هذه حياة القلوب ليست حياة الجوارح التي لا تنقاد ولا تستجيب لأمر الله جل وعلا.

حرية القلب من مظاهر الحياة الحقة

أيها الأحبة في الله! إذا عرفنا ذلك جيداً فليسأل كل واحد منا نفسه: أين أنت من الحياة الحقيقية؟ هل تشق طريقاً إلى حياة أبدية طويلة؟ هل تشق حياة إلى دار ينادي الله عباده إليها: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] هل تشق طريقك الآن إلى حياة ترجو أن تلقى الله جل وعلا بعد فراغك من الدنيا لتحط عصا الترحال في بداية نعيم: (لا أذن سمعت به، ولا عين بصرت به، ولا خطر على قلب بشر)؟ هل نحن نشق طريقنا إلى هذه الحياة الأبدية؟!

أيها الأحبة! أيضاً حينما يكون للحياة معنى فإن القلب يكون حراً حتى وإن غلت الأيدي إلى الأعناق وإن القلب يكون حراً وإن كُبلت الأقدام بالسلاسل، وإن القلب يكون حراً وإن هدد البدن بالموت، وإن القلب يكون حراً حتى وإن هدد الإنسان بقطع رزقه أو أجله، لماذا؟ لأن الحياة بالقلب والقلوب بيد الله جل وعلا.

تالله ما الدعوات تهدم بالأذى     أبداً وفي التاريخ بر يميني

والدعوة هي الحياة الحقيقية.

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي     بالسوط ضع عنقي على السكينِ

لن تستطيع حصار فكري ساعةً     أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنـور في قلبي وقلبي في يدي     ربـي وربي حافظي ومعيني

الحياة الحقيقية أن يكون القلب حراً حتى وإن كان الجسد محبوساً، أن يكون القلب غنياً حتى وإن قطعت موارد المال، أن يكون القلب عزيزاً بالله حتى وإن مس بألوان الأذى والبلى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، وطردي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟!

الإيمان بحقيقة الرزق والأجل

هذه حياة لها معنى أيها الأحبة، أما الحياة التي يرتاح صاحبها، وحينما ينقص ماله بتهديد بشر أو بخسارة مال يرتعد وينقلب هلوعاً جزوعاً، الحياة التي يتردد صاحبها يخشى أن يقول كلمة حق أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر خوفاً على رزقه وأجله.

الحياة الحقيقية حينما يكون لها معنى فإنها ترتبط بالبداية كما في حديث ابن مسعود : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله ..).

الحياة الحقيقية أن تعرف أن الرزق مقسوم وأنت جنين صغير تتحرك في رحم أمك، الحياة الحقيقية أن تعرف أن الأجل محدود، والنفس معدود، وأنت جنين مضغة مخلقة في رحم أمك، هذه هي الحياة الحقيقية ليست حياة الجبناء.

ترددت أستبقي الحياة فلم أجد     لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا     ولكن على أعقابنا تقطر الدما

الارتباط بالله من مظاهر الحياة الحقة

الحياة الحقيقية أن ترتبط النفس بالله جل وعلا، الحياة الحقيقية كما عبر عنها عبد الله بن حذافة السهمي لما بعثه عمر بن الخطاب رسولاً إلى الأكاسرة فماذا فُعل به؟ لما بعث رسولاً إلى الروم ماذا فُعل به؟ عرضوا عليه أن يتنصر فأبى فدعاه ملك الروم، وقال: أعطيك نصف ملكي وتدع دين محمد قال: لا، قال: أعطيك ملكي كله وتدع دين محمد، قال: لا، قال: فإنا نزوجك أجمل بناتنا، قال: لا، فعرض عليه المال, والجاه، والجمال، والشهرة، والمنصب، والمرتبة، فلما استنفدت وسائل الترغيب أغراضها وانتهت صلاحيتها بدأ التلويح بوسائل الترهيب والتخويف، فجاءوا برجل وقد أوقدوا ناراً عظيمة ونصبوا عليها قدراً يغلي بالماء والزيت فقذفوا واحداً من المسلمين لما ثبت على دينه ولم يرتد فأصبح لحمه يتطاير في هذا القدر وهو يراه، فلما رأى ذلك عبد الله بن حذافة السهمي بكى، فأُخبر القيصر بذلك فرد عليه: فقال: بلغني أنك لما رأيت صاحبك ألقي به في القدر، أخذت تبكي فما الأمر؟ أتعود عن دين محمد ونعطيك ما وعدناك به؟ انظروا إلى الذين يعرفون معنى الحياة، انظروا إلى الذين يعرفون حقيقية الحياة، ماذا قالوا؟ قال عبد الله بن حذافة : بكيت لأنه ليس لي إلا نفس واحدة وكم تمنيت أن لي مائة نفس تموت هذه الميتة في سبيل الله.

هذا حينما يكون للحياة معنى، كما قال صلى الله عليه وسلم في موقفه وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) ما قال فانتصر أو فأغنم أو فتفتح لي.. قال: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) القتل هو بداية الحياة، (ثم أغزو ثم أُقتل ثم أغزو ثم أُقتل) ثلاث مرات يرددها صلى الله عليه وسلم، هذه هي الحياة الحقيقية حينما ترتبط النفوس بالله جل وعلا، ولكن أيها الأحبة من الذي يعرف قيمة الحياة؟ هل يعرف معنى الحياة من استهلك نور البصر والبصيرة بالأفلام والمسلسلات على ألوان الشاشات؟ هل يعرف قيمة الحياة من لا يجد للسماع مذاقاً إلا في الأغاني والملاهي والطرب والزمر والدندنة؟ هل يعرف للحياة معنى من لا يجد السعي إلا إلى مجالسة البطالين والعاطلين الذين تفنى أيامهم وتنقضي ساعاتهم وتشهد عليهم ملائكة الليل والنهار بغفلتهم وإعراضهم وإدبارهم وتشهد الأرض عليهم بما يقترفون ويشهد الناس عليهم بصدهم عن سبيل الله جل وعلا؟ أهذا هو معنى الحياة؟! لا والله، الحياة الحقيقية إما أن تكون في علم وتعليم، أو في بذل ومال ترضي به وجه الله، تسلطه على هلكته في الحق، أو تكون في جهاد في سبيل الله، أو تكون في عدل وقسط بين الناس، أو تكون في ركوع وسجود وما أطيبها إذا اجتمعت جميعاً.