هم الآخرة [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعــد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

معاشر المؤمنين: كان الحديث في جمعة ماضية حول القصد إلى الدنيا والقصد إلى الآخرة، والاهتمام بالدنيا والاهتمام بالآخرة، والاشتغال بالدنيا والاشتغال بالآخرة، وما المحمود من ذلك والمذموم، وما الصحيح في ذلك وما الخطأ فيه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] ومر بنا ذاك الحديث الجامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه ابن ماجة بسند صحيح؛ يقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له).

أيها الأحبة في الله: هذا حديث عظيم عجيب، فيه دلائل على أن من اهتم واشتغل بأمر الآخرة فإن الله جل وعلا لن يضيعه ولن ينساه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] .. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] ويقول جل وعلا: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت:60] هل رأيتم حشرة معها سلة تجمع في سلتها غذاءها؟ هل رأيتم يرقة معها خزينة تحمل في خزينتها طعامها؟: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت:60] من الذي يرزقها؟ من الذي يعطيها؟ من الذي يسقيها؟ من الذي يحميها؟ من الذي من السقم يعافيها؟ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60].

دخل رجل يقال له بهلول على أحد الخلفاء فقام يحدثه ويعظه؛ فتأثر ذاك الخليفة، وكأنه طمع أن يعطيه وأن يحذيه وأن يمنحه من المال شيئاً، فقال: خذ، فقال: لا حاجة لي به، فقال الخليفة: يا بهلول! من الذي يعطيك طعاماً وشراباً؟ ومن أين تأتي بالمال؟ فالتفت إليه ذلك الذي يظن أنه من المجانين وهو من أعقل العقلاء، التفت إلى الخليفة قائلاً: أتظن أن الذي أعطاك الملك والخلافة ينساني؟

التأثر بمواقف الانتقال إلى الآخرة

أيها الأحبة: إن للاهتمام والاشتغال بالآخرة دلائل، وإن من أهمها وأبرز علامتها التي يعرف بها من كان للآخرة في قلبه اهتمام، ومن كان للآخرة في قلبه منزلة ومكانة:

أولها: أن ترى المهتم بالآخرة متأثراً بمناظر الأموات، مناظر الجنائز، والقبور، تجده متأثراً يوم أن يرى مريضاً يحتضر، أو يرى ميتاً يغسل على نعشه، أو يرى جنازة محمولة، أو يرى كفناً وحنوطاً وسدراً، أو يرى سوراً للمقبرة، أو يرى مشهداً للقبر أو منظراً للّحد، من إذا رأيته اهتم لذلك وأطرق وأخذ يفكر ويتدبر، لينظر ما قدم وأخر، فاعلم أن في قلبه رجاء اهتمام بالآخرة، وما أكثر الذين يرون الحنوط والأكفان، وما يخطر ببالهم أن سيلفون بها! وما أكثر الذين يرون النعش وما يخطر ببالهم أنهم سيحملون عليه! وما أكثر الذين يرون المقابر وما يخطر ببالهم أن سيدفنون فيها! ما أكثر الذين يرون اللحود وما يخطر ببالهم أن سيودعون في ظلمتها! وما أكثر الذين يرون المرضى ينازعون الخلاص، ينازعون الفراق وما يخطر ببالهم أن واحدهم سوف يمر بمثل ما رأى!

أيها الأحبة: إن من علامات الاشتغال والاهتمام بالآخرة أن ترى العبد مطرقاً عند المرض، متدبراً عند المريض، خاشعاً عند القبر، متألماً في رؤية اللحد يتخيل نفسه يوم أن يوضع في لحده أو يغلق اللبن عليه، أو يهيل التراب على قبره أو يشيعوه أو يودعوه، أو يغسلوه أو يحملوه، كم جنازة حملناها! وكم ميت غسلناه! وكم كفن اشتريناه! وكم .. وكم .. وما أقل ما نتدبر ونتأثر!

الحزن للآخرة والاهتمام بها

أيها الأحبة: إن من دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة التي يجزي ربنا جل وعلا عليها، ويجزي بها إقبالاً من الدنيا على صاحبها، واجتماعاً لأمره ولو كان متشتتاً، أن يحزن للآخرة ويتذكر الآخرة ويهتم بها، أن يتذكر الآخرة، أن يهتم بالآخرة، أن يكون عمله دءوباً للآخرة، فإذا رأى في الطريق شوكة أو أذى أو قذى أماطه، وقال: لعل بهذه الحسنة ترجح موازين الحسنات على السيئات، وما يدريك بعد رحمة الله أن تكون تلك الحسنة فيصل في حال العبد إما إلى جنة وإما إلى نار.

أن إذا أقبل إلى قوم بش وهش وابتسم إليهم يريد بذلك صدقة تزحزحه عن النار، إذا رأى محتاجاً أغاثه يريد بذلك حسنة ينجو بها من النار، إذا دعي إلى بذل بذله يريد أن ينجو بعد رحمة الله من النار، أن يهتم للآخرة، لا توفر حسنة ولا تدخرها، ولا تتهاون بمعصية ولا تقم عليها:

خلِّ الذنوب صغيرها     وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض     الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة     إن الجبال من الحصى

أن تحزن للآخرة أو أن تهتم للآخرة، فإذا أظلم عليك ليل تذكرت ظلمة الآخرة، وإذا أسفر صبح تذكرت أنوار الجنة، وإذا لبست خزاً، إذا لبست ناعماً تذكرت ثياب أهل الجنة، وإذا رأيت خشناً تذكرت سرابيل أهل النار، أن تحزن للآخرة وأن تهتم بها وأن تحاسب نفسك أولاً بأول؛ يقول عز وجل: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] ومر معنا كلام الحسن أنها نفس المؤمن، تلومه إن قصر في حسنة عاتبها على التقصير، وإن فرط في معصية حاسبها على التفريط.

أيها الأحبة: إن للاهتمام والاشتغال بالآخرة دلائل، وإن من أهمها وأبرز علامتها التي يعرف بها من كان للآخرة في قلبه اهتمام، ومن كان للآخرة في قلبه منزلة ومكانة:

أولها: أن ترى المهتم بالآخرة متأثراً بمناظر الأموات، مناظر الجنائز، والقبور، تجده متأثراً يوم أن يرى مريضاً يحتضر، أو يرى ميتاً يغسل على نعشه، أو يرى جنازة محمولة، أو يرى كفناً وحنوطاً وسدراً، أو يرى سوراً للمقبرة، أو يرى مشهداً للقبر أو منظراً للّحد، من إذا رأيته اهتم لذلك وأطرق وأخذ يفكر ويتدبر، لينظر ما قدم وأخر، فاعلم أن في قلبه رجاء اهتمام بالآخرة، وما أكثر الذين يرون الحنوط والأكفان، وما يخطر ببالهم أن سيلفون بها! وما أكثر الذين يرون النعش وما يخطر ببالهم أنهم سيحملون عليه! وما أكثر الذين يرون المقابر وما يخطر ببالهم أن سيدفنون فيها! ما أكثر الذين يرون اللحود وما يخطر ببالهم أن سيودعون في ظلمتها! وما أكثر الذين يرون المرضى ينازعون الخلاص، ينازعون الفراق وما يخطر ببالهم أن واحدهم سوف يمر بمثل ما رأى!

أيها الأحبة: إن من علامات الاشتغال والاهتمام بالآخرة أن ترى العبد مطرقاً عند المرض، متدبراً عند المريض، خاشعاً عند القبر، متألماً في رؤية اللحد يتخيل نفسه يوم أن يوضع في لحده أو يغلق اللبن عليه، أو يهيل التراب على قبره أو يشيعوه أو يودعوه، أو يغسلوه أو يحملوه، كم جنازة حملناها! وكم ميت غسلناه! وكم كفن اشتريناه! وكم .. وكم .. وما أقل ما نتدبر ونتأثر!

أيها الأحبة: إن من دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة التي يجزي ربنا جل وعلا عليها، ويجزي بها إقبالاً من الدنيا على صاحبها، واجتماعاً لأمره ولو كان متشتتاً، أن يحزن للآخرة ويتذكر الآخرة ويهتم بها، أن يتذكر الآخرة، أن يهتم بالآخرة، أن يكون عمله دءوباً للآخرة، فإذا رأى في الطريق شوكة أو أذى أو قذى أماطه، وقال: لعل بهذه الحسنة ترجح موازين الحسنات على السيئات، وما يدريك بعد رحمة الله أن تكون تلك الحسنة فيصل في حال العبد إما إلى جنة وإما إلى نار.

أن إذا أقبل إلى قوم بش وهش وابتسم إليهم يريد بذلك صدقة تزحزحه عن النار، إذا رأى محتاجاً أغاثه يريد بذلك حسنة ينجو بها من النار، إذا دعي إلى بذل بذله يريد أن ينجو بعد رحمة الله من النار، أن يهتم للآخرة، لا توفر حسنة ولا تدخرها، ولا تتهاون بمعصية ولا تقم عليها:

خلِّ الذنوب صغيرها     وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض     الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة     إن الجبال من الحصى

أن تحزن للآخرة أو أن تهتم للآخرة، فإذا أظلم عليك ليل تذكرت ظلمة الآخرة، وإذا أسفر صبح تذكرت أنوار الجنة، وإذا لبست خزاً، إذا لبست ناعماً تذكرت ثياب أهل الجنة، وإذا رأيت خشناً تذكرت سرابيل أهل النار، أن تحزن للآخرة وأن تهتم بها وأن تحاسب نفسك أولاً بأول؛ يقول عز وجل: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] ومر معنا كلام الحسن أنها نفس المؤمن، تلومه إن قصر في حسنة عاتبها على التقصير، وإن فرط في معصية حاسبها على التفريط.

أيها الأحبة: إن من واجبنا أن نتعود محاسبة النفس، والحزن من أجل الآخرة، فإن القلوب إذا خلت من الاشتغال والاهتمام والحزن لأمر الآخرة باتت يباباً خراباً يسكنها البوم، وتنعق فيها الغربان، ومن ثم تأوي إليها الهوام من ألوان الشهوات والشبهات، أما إذا ساكن القلب الحزن للآخرة فإن ذاك النوع من الحزن يطرد ألوان الهوام المختلفة بشبهاتها وشهواتها، إننا مرضى ولسنا بصحاح، لكن الواحد منا يبصر أسقام بدنه ولا يدرك أمراض قلبه، فيا ترى ما الذي يحول بيننا وبين تذكر الآخرة والاهتمام بها؟

الاشتغال بالدنيا عن الآخرة

نعم. يحول بيننا وبينها أمور كلنا وقع فيها إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فأول هذه الأمور: طلب الدنيا والاشتغال بها، والتكالب عليها حتى أشغلتنا عن الآخرة، أليس الله جل وعلا يحذرنا من حطام الدنيا ومتاعها الزائل يوم أن يكون صارفاً عن طاعته: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

طلبوا الدنيا لذات الدنيا، طلبوا المال لجمع المال، طلبوا المنصب لأجل المنصب، طلبوا الرياسة لذات الرياسة، طلبوا المتاع لأجل المتاع أمر مذموم، أما من طلب الريال ليفرج به كربة ويفك به أسيراً، ويكفل به غازياً، ويجهز به داعية، ويحفظ به يتيماً، فحينئذ يا حبذا ذاك الشغل ما لم يخرج به عن الاهتمام بما أوجب الله عليه، ما أحد ولا أحد ينكر الثراء في المال، كان عثمان بن عفان من أثرى الأثرياء، وكان الزبير من الأثرياء، وكان عبد الرحمن بن عوف من الأثرياء.

مرت قافلة داخلة المدينة، فسمع أهل المدينة للأرض وجفة ورجفاً وهزاً؛ حتى تساءل الناس ما الذي حل بالأرض؟ فقالوا: قافلة لـعثمان بن عفان قدمت من الشام بألوان التجارات والملابس والقماش، فجاء التجار يهرعون إلى عثمان بن عفان، قالوا شرينا شرينا يا عثمان، فقال: إني بعت، فقالوا: شرينا، فقال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك في الدرهم اثنين، قال: قد أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة، قال: قد أعطيت أكثر، فما زالوا به حتى أعطوه في الدرهم سبعة، فقال: لقد أعطيت فيه عشرة، فقالوا: ما صدقت يا عثمان! من الذي يعطيك عشرة ونحن تجار المدينة ولا ينافسنا أحد؟ فقال: إن ربي عز وجل قد أعطاني في الدرهم عشرة، إن الحسنة بعشر أمثالها.

كانوا تجاراً تجارتهم ترجف بالأرض، كانوا أثرياء ثراؤهم لو قسم على أهل المدينة لربما وسعهم، ومع ذلك ما كانت ثروتهم تشغلهم عن قيام الليل وعن التهجد، ولما تلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول الله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] قال: [ذاك عثمان بن عفان ] الذي يتهجد بالقرآن يرجو رحمة ربه، ويحذر الآخرة، ما منعه الثراء من الجهاد والغزو والبذل والإنفاق في سبيل الله، أما الاشتغال بالدنيا على سبيل الكذب في تحصيلها، والخداع في نوالها، والغش في جمعها، فذاك أمر من أعجب العجب، واعلموا أن الدنيا من عند الله والآخرة من عند الله، فلا ينال ما عند الله إلا برضا الله، ومن استعجل شيئاً حراماً فربما كتب له من الحلال.

قال رجل لأحد العلماء: أرأيت فلاناً سرق مالاً؟ قال: استعجله حراماً، ولو تعفف لبلغه رزقه حلالاً، استعجله حراماً، ولو تعفف وصبر لبلغه الرزق بإذن الله حلالاً.

عدم تدبر آيات القرآن الكريم

الأمر الآخر الذي يحول بيننا وبين الاهتمام والاشتغال بالآخرة: أننا نقرأ آيات الوعد وآيات الوعيد خاصة فلا نتدبر ولا نتذكر، وعجباً لأحوالنا، بل إن من الناس من ربما رأيته ينتقد قائماً متكلماً بعد الفريضة أو في مناسبة أو في اجتماع وليمة أو عرس أو عقيرة أو وكيرة، ينتقد فلاناً يوم أن يتكلم عن الجنة والنار وما حاجتنا بهذه الدنيا لولا رضا الله ثم طلب الجنة والنار؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله كيف تدعو؟ فقال: لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا ومعاذ حولها ندندن

بل الله جل وعلا يصف خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله بقوله عز من قائل: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] رغباً في الجنة، ورهباً من النار، إننا قل أن نتذكر الآخرة، ولو مرت بنا أحوال الآخرة، وأهوال القيامة لقل أن نتدبرها أو نتخيل أحوالنا فيها، انظر إلى الذين يتخيلونها تماما، تقول عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً الرجال والنساء، وا سوأة النساء! وا فضيحة النساء! فقال صلى الله عليه وسلم: الأمر أعظم من ذلك يا عائشة !) الأمر أعظم من أن يسترق رجل نظرة إلى عورة امرأة، أو أن تخطف امرأة نظرة إلى سوأة رجل، ولكن الأمر أعظم من ذلك.

وإني لا أزال متذكراً مكرراً يوم أن حصل لبعض الحجاج ازدحاماً في نفق المعيصم خرج بعضهم عرياناً، خرج بعض الحجاج عارياً لا إزار عليه ولا رداء، يمشي يريد أن يتنفس ذرة من الهواء بعد تخلصه من الزحام والناس يحلقونه من حوله ويرمون عليه إزاراً يستر سوأته، هذا نفق صغير ضيق في زحام من زحامات الدنيا خرج المزحوم فيه ذاهلاً عن سوأته لم ينتبه لها ولم يغطها، فما بالك بأهوال القيامة ترى رجلاً سوف ينظر إلى عورة امرأة أو امرأة تنظر إلى عورة رجل.

مر الحسن البصري برجل يضحك ويقهقه ويستغرق في الضحك لاهياً غافلاً، فقال الحسن: [يا بن أخي! هل جزت الصراط؟ قال: لا. قال: هل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟] نعم. إننا لا ننكر صفة خلقها الله فينا، ولا نريد بهذا أن نكون مقطبين لا نبتسم ولا نضحك أبداً فقد ضحك صلى الله عليه وسلم، وربنا عز وجل خلق فينا صفة فكيف ينكرها قال: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] الله أضحكنا، الله الذي خلق فينا هذه الصفة بهذه الكيفية والهيئة، ولكن أن يكون الضحك باستغراق وغفلة حال كثير من الناس لا يروي لك إلا ما يضحك، ولا يسمع إلا ما يضحك، ولا يقرأ إلا ما يضحك، ولا يشاهد إلا ما يضحك، فويل ثم ويل لمضحك القوم!

قال الحسن البصري: [فضح الموت الدنيا فما أبقى لحي لذة، وما ترك لذي لب فرحاً] حسبنا في هذه الدنيا أننا لا نتلذذ بها إلا حال غفلة، ولو أن الواحد تذكر أحوال الآخرة والفراق لما استطاع أن يتلذذ بطعام ولا شراب، ولا فراش ولا قليل ولا كثير.

الاغترار بالصحة والعافية

أيها الأحبة: ومما يحول بيننا وبين الاشتغال والاهتمام بأمر الآخرة أننا نغتر بالصحة، أن الواحد ربما حمل أثقالاً على رأسه، وحمل على يديه أوزاناً ثقيلة، وتنافس مع القوم في مصارعة ومطارحة مغتراً بعافية بدنه، وما علم أن العافية عارية ربما أخذت ولا يزال الروح باق في البدن، كم من أناس كانوا يهزون الأرض حينما يعدون، وكانوا يسابقون الخيل حينما يستبقون، وكانوا يأكلون ويشربون وينكحون، أتاهم من أقدار الله ما جعلهم معوقين لا يتحركون، فالعاقل لا يغتر بصحته: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].

إن الله جل وعلا قادر أن يسلب هذه الصحة ويبقي البدن؛ ليتدبر الإنسان بنفسه من نفسه، وبقلبه من حاله، وبفكره من مآله، حتى ينظر في أي شيء يغتر الواحد:

فكم من صحيح مات من غير علة     وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

أيها الأحبة في الله! العاقل لا يغتر بما عنده ولا بما أوتي ولا بما بين يديه:

إذا الرجال ولدت أولادها     وبليت من كبر أجسادها

وجعلت أسقامها تعتادها     تيك زروع قد دنا حصادها

إذا الرجل أنجب أولاده، وأصبح جداً بعد أن كان أباً، ثم بات جسده بالياً أو أوشك أن يبلى، وأصبحت الأسقام تعاوده، فليعلم أنه زرع قد دنا حصاده، ولأجل ذلك قال أحد السلف: يا أهل الستين! قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره، ويا أهل السبعين! زرع قد دنا حصاده: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجاوز ذلك) ويا أهل الأربعين! علام الانتظار والأجل قد دنا: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ [الأحقاف:15]؟

العاقل يدرك -أيها الأحبة- أن ما مضى من أيام الغفلة لا يلتفت إليه، وما بقي من أيام العمر لا يعلم ما الله صانع به.

ما مضى فات والمؤمـل غيب     ولك الساعة التي أنت فيها

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.