واقعنا بين الأمس واليوم [2،1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله الذي جمعنا وألف بين قلوبنا، ولو أُنفِق ما في الأرض جميعاً ما ألف بين قلوبنا إلا بفضله ومنته ورحمته، الحمد لله الذي خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي لهم ولا مؤوي، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الأحبة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وخير ما أبدأ به كلمتي هذه أن أتوجه إلى الله بدعاء وأنتم تؤتمنون عليه:

وأسأل الله أن يكون هذا الدعاء مستجاباً لنا جميعاً؛ لأنه ما جاء بنا إلا ابتغاء رحمته، وما جمعنا إلا ابتغاء مرضاته وجنته، فنسأله أن لا يردنا خائبين ولا محرومين.

اللهم إنا نسألك أن تكفينا بحلالك عن حرامك، اللهم بارك لنا فيما أبحت لنا، وحبب إلينا ما شرعت لنا، وبغض إلى نفوسنا ما حرمت علينا، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا لكل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، ونسألك اللهم الوفاة على التوحيد شهداء، والحياة على الإسلام سعداء، والحشر يوم المحشر مع الأنبياء، اللهم إنا نسألك أن تتوفانا وأنت راضٍ عنا، راكعين ساجدين هداة مهديين راضين مرضيين، ونسألك اللهم ألا تفاجئنا ملائكة الموت ونحن على معصية.

أيها الأحبة في الله! حديثنا اليوم إليكم بعنوان: "واقعنا بين الأمس واليوم".

أيها الأحبة! ماذا نستفيد إذا حدثناكم عن الأمس، وماذا نجني لو حدثناكم عن اليوم، هل الفائدة أن نسرد عليكم الأقاصيص والروايات؟

لا والله. إن حديثنا عن الأمس مقارنة باليوم، إن حديثنا عن واقعنا وأمسنا وإن تأملنا في مستقبلنا أمر ضروري، والله جل وعلا في كتابه الكريم ذكر آيات دلت على ذلك، فينبغي أن نعلم أن من أهم الأمور التي نستفيدها من دراستنا لأمسنا وليومنا أن نعلم أموراً مهمة عديدة:

أن لله سنناً كونية لا تتغير

أولها: أن السنن الكونية التي أودعها الله في عباده وجعلها في هذا الكوكب من مخلوقاته التي هي بالأمس لا تزال هي باليوم، السنن الكونية التي كانت قبل ألف وأربعمائة سنة لا تزال هي السنن في زمننا؛ لأن سنن الله باقية، وسنن الله ثابتة، وسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، سنة الله في الذين خلوا من قبل فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

فحينما نتحدث عن الأمس واليوم فإننا نتحدث في إطار سنن ثابتة لا تتغير أبداً، وإن من أهم السنن التي هي ثابتة لا تتغير ويهمنا أن نتناولها في موضوعنا اليوم: أن نعلم عداوة الكافرين للمؤمنين، والفاسقين للصالحين أنها عداوة باقية وعداوة أبدية.

يقول الله جل وعلا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105].

سنة العداوة من الكافرين لنا معاشر المؤمنين سنة باقية، إن أعداءنا الكفار الذين عادوا رسول الله، وعادوا صحابة نبيه، وعادوا خلفاءه الراشدون، وعادوا أئمة الإسلام وعلمائه لا يزالون هم الأعداء إلى هذا الزمان.

العداوة باقية وإن اختلفت أساليبها وتلونت أشكالها وتنوع وتغير رجالها وأبطالها، المهم أن نعلم أن حديثنا بين الأمس واليوم لا يلغي السنن، السنن باقية، فمنها هذه العداوة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول جل وعلا: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].

فيا معاشر المؤمنين! إن أعداء الدين الذين كانوا فيما مضى من الأزمنة هم على مدار الأزمنة والأمكنة موجودون، وهذه سنة التدافع: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].

فحديثنا عن الأمس أو حديثنا عن اليوم هو حديث عن الظواهر، أما السنن فهي لا تزال سنن باقية.

أن الزمان لا يتغير ولكن نحن نتغير

كذلك أيها الأحبة نعلم أن حديثنا عن الأمس واليوم لا يتناول الزمان:

والليل فاعلم والنهار كلاهـما     أرواحنا فيها تعد وتحسب

الليل والنهار منذ زمن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أربعة وعشرون ساعة، واليوم يتراوح طوله وقصره بين الليل والنهار، هل زاد النهار في هذا الزمان وقصر في ذلك الزمان؟

لا، الزمان هو هو كما كان.

واعلموا كذلك أن صفات أهل الزمان الخلقية الأصلية كما كانت في ذلك الزمان هي موجودة أيضاً في هذا الزمان؛ كي تقوم الحجة علينا.

إن الصحابة كان لهم عينان وأنف واحد ويدان ورجلان، ولكل واحد منكم عينان ويدان ورجلان وأنف واحد لم يتميز ذلك التاريخ السابق، أو الأمس الذي نتحدث عنه، لم يتميز بأن أصحابه كانوا أولو عشرات الأعين ونحن ليس لنا إلا عينين فقط، لا، بل اتفقنا معهم أعيننا كأعينهم، وأنوفنا كأنوفهم، وأبصارنا كأبصارهم، وأقدامنا كأقدامهم، وأيدينا كأيديهم.

إذاً ما الخلاف؟

اختلفت البصائر: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

والذين حينما تحدثهم عن واقعهم، أو انحراف أو تساهل أو ضعف في سلوكهم وتمسكهم بدينهم، وتهاون بالغيرة في حرمات الله وأوامر الله ومناهي الله جل وعلا، قام يحدثك ويقلب لك الأمر ويفرقع الأصابع: ذاك زمان مضى وهذا زمان اختلف، لا.

أرى حللاً تصان على أنـاس     وأخلاقاً تداس فلا تصان

يقولون الزمان به فساد     وهم فسدوا وما فسد الزمان

نعيب زماننا والعيب فينا     وما لزماننا عيب سوانا

وقد نهجو الزمان بغير جـرم     ولو نطق الزمان بنا هجانا

فيا أحبتي في الله! ينبغي أن نعلم أننا يوم أن نتحدث عن الأمس واليوم، أننا نتحدث عما جنت واجترحت وفعلت واكتسبت أنفسنا وجوارحنا، أما السنن فإنها لم تتغير أبداً.

هذا الكلام أقوله لكي لا يزداد بعدنا عن الزمان الأول وإغراقنا في الزمان الآخر، ولكي نتمسك بما كان عليه الصدر الأول: (أفلا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).

مهما كانت البشرية في القرن الخامس عشر الهجري أو العشرين -بعد أيام قليلة ندخل في عام ألف وأربعمائة وأحد عشر- أو لو بلغنا عام ألف وتسعمائة أو ألفين للهجرة فإن عام ألفين للهجرة لا يعني أن نتهاون بحرف واحد من كتاب الله جل وعلا، مهما تقدمنا وتطورنا ومضت بنا العصور والأزمنة فإن ذلك لا يغنينا ولا يجعلنا في غنىً عن آية واحدة من كتاب الله، فضلاً عن كتاب الله كله، لماذا؟

لأن السنة واحدة، والسنة باقية، وسنة الله في هذا الكون لا تتبدل ولا تتحول، أراد الله لهذا الدين أن يكون خاتماً ومهيمناً على سائر الأديان والرسالات إلى يوم القيامة، فكانت معجزة الدين خاتمة ومهيمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

منفعة الحديث عن الماضي

ثم اعلموا أيها الأحبة! أنه ينبغي قبل أن نفصل عن الحديث عن الأمس واليوم أن نسأل: ماذا ينفعنا الحديث عن الماضي؟

ينفعنا الحديث عن الماضي أن نتأسى وأن نتثبت، وإذا ابتلينا بواقعة في زمننا، تأملنا تاريخنا، وتاريخ أسلافنا، بل وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، لنعلم أن فيها عظة وعبرة، ودواء وعلاجاً، وشفاءً ومنهجاً وترياقاً، وتجربة صادقة من تمسك بها نال الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، هكذا حينما ندرس الماضي، لا لكي نقرأ كان يوم كان، أو لكي نعرف الحكايات الممتعة، والبطولات المتنوعة، لا، إنما ندرس الماضي لكي نستلهم العبر، ولكي نفتش ولكي نقلب الأحرف والأسطر من التاريخ والسيرة، عند ذلك نجد أن لكل واقعة جديدة علاقة بحدث قديم، لو استطعنا أن نستنبط وأن ندقق وأن نعرف الطريق الصحيح إلى الفهم والاستيعاب.

كذلك في هذا القرآن ما يدل على ذلك، إن الله جل وعلا قد جمع لنبيه أخباراً عن الأولين السابقين السالفين، نحن الآن نتكلم عن الماضي، ونتكلم عن اليوم والله جل وعلا قد قص على نبيه أحداث وأخبار وأنباء أقوام كانوا في الماضي، وأخبره عن كيد قومه في زمنه، لماذا يا ربنا قصصت على نبينا على أخبار أقوام مضوا وسلفوا، لماذا؟

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10]، وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

فإذاً: الله جل وعلا قد ذكر لنبيه وبيَّن أن أقواماً غير من قصصنا عليك لهم أخبار ولهم أحداث وشأن مع أنبيائهم، إلا أن الله جمع لنبيه فيمن لم يفصل له قصتهم وأنباءهم جمع له شأنهم فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وفي القرآن تفصيل وإيجاز وبيان وتوضيح لأخبار من سلف من الأنبياء والرسل لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، يضير قلبك، يجرح خاطرك، يحز في فؤادك أن قومك يستهزئون بك، يسخرون بك، يستهزئون من دعوتك، يسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صناديد الكفر والشر: أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر هذا الصابئ، فيقوم أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، ثم يأخذ سلا الجزور -وهو بقايا الناقة بعد نتاجها- ويضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه فيها عبرة يا إخواني لكل داعية ولكل تائب إلى الله يوم أن نجد الاستهزاء والسخرية، تضيق وتتبرم وتنزعج وتتكدر يوم أن تجد من يستهزئ ويسخر بك؛ لأنك التزمت وتبت إلى الله واستقمت على نهج الله، لن تكون أفضل من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي هو أفضل من وطئت قدمه الثرى، ومع ذلك وضع نجاسة وبول ودم الناقة على ظهره صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أوذيت فتذكر من قبلك، وإذا ابتليت فتذكر من قبلك، من هنا يكون حديثك عن الأمس فائدة لك في اليوم، أما أن يكون الحديث مجرداً من دون فائدة ولا عبرة ولا تثبيت للفؤاد، فلا فائدة في كان يوم كان، أو فُعل أو حصل أو قيل أو قال.

كيف ننتفع بحديثنا عن الواقع

كذلك أيها الأحبة! ينبغي أن نعلم أن حديثنا عن الواقع لا ينفعنا بشيء ما لم يكن حديثاً مبنياً على خطوات علمية.

تكلمنا عن الأمس بإيجاز، ونتكلم عن فوائد الكلام في اليوم بإيجاز.

حينما نتحدث عن واقعنا من دون ثمرة عملية للواقع ماذا نستفيد؟ أحدثكم عن الواقع، أحدثكم عن غفلة الناس عن ذكر الله، أحدثكم عن بعد بعض الناس عن طاعة الله، أحدثكم عن إهمال بعض الآباء لأبنائهم في التربية على منهج الله، أحدثكم عن ضيعة من تولوا مسئولية البيوت والأسر والبنات والزوجات، ضيعوا ما ولاهم واسترعاهم الله، ثم ماذا؟

أطيل الحديث لكم، وأنبئكم بأشجان ومصائب، وما يحز في قلبي مما أرى في واقعي ثم ماذا بعد ذلك؟

لو حدثتكم عشر ساعات، ثم أخذتم تبكون وتنشجون، وتصيحون وتهزون الرءوس، هذا لا فائدة منه، هذا شأن النساء وليس شأن الرجال، إن شأن الرجال يوم أن يتحدثوا عن واقعهم يتحدثون عن الواقع لكي يفعلوا أمام الواقع أمراً يصلحه، هل تنتهي مهمة مراجعتك للمستشفى بمجرد دخولك على الطبيب وتصف له الواقع، أيها الطبيب عندي قلة شهية واضطراب في الأمعاء، وصداع في الرأس، وخمول في المفاصل، ووجع في الأعصاب، ثم يقول الطبيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتخرج من باب المستشفى؟! هل سمعتم أن هذا طب، أو أن هذا عقل، أو أن هذا علاج؟ لا، هذا جزء بسيط أن تصف الأعراض، أن تصف الحالة، لكن أنت جئت واصفاً لحالتك من أجل أن تنال الدواء والعلاج، من أجل أن يقول لك الطبيب: اترك كذا، وافعل كذا، واجتنب كذا، وتجنب مصاحبة كذا، واحرص على أداء كذا، وعند ذلك يكون وصفك لحالتك مجدياً أمام جواب نافع، أما أن نصف الواقع بدون فعل وبدون عمل، فهذا لا ينفعنا بشيء أبداً.

وقديماً قالت العرب في أمثالها: أوسعتهم سباً وأوردو بالإبل. أنا أخبركم بقصة هذا المثل:

راعٍ من الرعاة، استودعوه أذواداً -جمع ذود من الإبل- يرعاها، فغزا قوم المرعى، فاستاقوا الإبل وضربوا الراعي، وأخذ الراعي يرفع يديه ويلعنهم ويشتمهم ويسبهم وهم يسوقون الإبل هاربين غانمين بها، فلما جاء أصحاب الأباعر قالوا: أين النوق؟ قال: والله غزانا بنو فلان فأخذوا النوق والأباعر، قالوا: وأنت أين كنت؟ قال: والله كنت أشتمهم وأسبهم وألعنهم، هل هذا يكفي؟ لا.

أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل

فهذا شأننا إن كنا نتحدث عن واقعنا اليوم بدون عمل، فنحن أوسعناهم شتماً وساروا بالإبل.

لو انطفأ النور في هذا المسجد الآن، كلكم يقول: انقطع التيار الكهربائي؟ فماذا نفعل؟ انطفأت الأنوار، انطفأت الأنوار، ثم نردد هذه العبارة، ماذا استفدنا؟

يعثر بعضنا في بعض، يطأ بعضنا بعضاً، يموت بعضنا بسبب تدافع بعض بدون فائدة؛ لأننا لم نزد على أن وصفنا الواقع، لكن لو قام واحد ذكي واشترى شمعة بنصف ريال وأشعلها لرأينا جميعاً، فهنا استفدنا بعد ذكر الواقع أن نوقد شمعة، وكما قال: لأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة.

إخواني! واقع كثير من الصالحين أو الطيبين أو المستقيمين أو الدعاة -فضلاً عن سائر إخواننا الذين نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية، وأن يذيقهم لذة الاستقامة- أنهم يحسنون وصف الأشياء ولا نعرف كيف نتعامل بعد ذلك، فأمثالنا أمثال من وقفوا في تقاطع الطريق، والسيارات ذاهبة غادية رائحة، واحد يجلس في الطريق، ويقول: هذه (التريلة) قربت.. وصلت فسوف تدعسنا.. دعستنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهل ينفع الوصف؟

لكن ينفع أن نبتعد عن طريق (التريلة) قليلاً حتى نسلم وتمر هذه السيارة أو الشاحنة بسلام.

إذاً: وصف الواقع من الأساليب التي اجتهد الأعداء أن يشغلونا بها.

نجيد وصف الواقع ولا نجيد الحلول له

عشنا فترة من الزمن ما كنا نعرف واقعنا، ما كنا نعرف حقيقة ما يراد بنا، ما كنا نعلم المخططات اليهودية والاستعمارية والشيوعية الحاقدة التي حسدتنا على خيرات نحن فيها، أخذنا زمناً طويلاً ونحن نجهلها، فلما بدأنا نتنور وبدأنا نعرف هذه المخططات وتلك الحروب الفكرية والعلمية والميدانية، حينما بدأنا نعرفها أشغلنا الأعداء بحسن وصفها، ويقف جهدنا عند هذا الأمر، نقف عند وصف مخططات الأعداء.

مثلاً: أنا أصلي جمعة في مسجد فيقول الخطيب: يا معاشر المؤمنين! إن مخططات أعداء اليهود قد نفذت في هذا الزمان حرفاً حرفاً، وإن برتوكولات حكماء صهيون قد نفذ منها البرتوكول السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر على التوالي والمصلين يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا بعد ذلك؟ نفذوا السابع عشر أو السابع والعشرين، ما دام أن ليس عندنا إلا هز الرءوس، فمعنى ذلك: أن لا فائدة، لكن لو قلنا: ماذا قدمنا؟ لكي نقف بالمرصاد أمام البرتوكول الأول من مخططات حكماء صهيون؟ عند ذلك نقف وقفة المحاسبة، ووقفة المراجعة، ووقفة التأمل مع أنفسنا لنعلم إلى أي درجة نحن نفهم هذا الواقع.

أيها الأحبة! نحن نعيش في مواجهة عدو تمرس في مختلف الأساليب النفسية، والفكرية، والتجريبية، والعلمية، والفنية وفي شتى المجالات، نحن نواجه عدواً ذكياً يستطيع أن يشغل الكثير من شبابنا من حيث لا يشعر.

لذلك أيها الأحبة! أقول: إن من أهم واجباتنا فيما يتعلق بذكر واقعنا: أن نعرف قاعدة قبل أن نتكلم عن الواقع، ماذا سنفعل بعد أن نعرف الواقع؟

أيها الأحبة! حديثنا عن واقعنا وأمسنا نقسمه إلى ثلاثة جوانب: واقعنا الاقتصادي وماضينا الاقتصادي، واقعنا السياسي وماضينا السياسي، واقعنا الاجتماعي وماضينا الاجتماعي، وأرجو أن لا تخافوا من كلمة السياسة؛ لأني سأتحدث عن نظريات.

أولها: أن السنن الكونية التي أودعها الله في عباده وجعلها في هذا الكوكب من مخلوقاته التي هي بالأمس لا تزال هي باليوم، السنن الكونية التي كانت قبل ألف وأربعمائة سنة لا تزال هي السنن في زمننا؛ لأن سنن الله باقية، وسنن الله ثابتة، وسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، سنة الله في الذين خلوا من قبل فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

فحينما نتحدث عن الأمس واليوم فإننا نتحدث في إطار سنن ثابتة لا تتغير أبداً، وإن من أهم السنن التي هي ثابتة لا تتغير ويهمنا أن نتناولها في موضوعنا اليوم: أن نعلم عداوة الكافرين للمؤمنين، والفاسقين للصالحين أنها عداوة باقية وعداوة أبدية.

يقول الله جل وعلا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105].

سنة العداوة من الكافرين لنا معاشر المؤمنين سنة باقية، إن أعداءنا الكفار الذين عادوا رسول الله، وعادوا صحابة نبيه، وعادوا خلفاءه الراشدون، وعادوا أئمة الإسلام وعلمائه لا يزالون هم الأعداء إلى هذا الزمان.

العداوة باقية وإن اختلفت أساليبها وتلونت أشكالها وتنوع وتغير رجالها وأبطالها، المهم أن نعلم أن حديثنا بين الأمس واليوم لا يلغي السنن، السنن باقية، فمنها هذه العداوة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول جل وعلا: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].

فيا معاشر المؤمنين! إن أعداء الدين الذين كانوا فيما مضى من الأزمنة هم على مدار الأزمنة والأمكنة موجودون، وهذه سنة التدافع: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].

فحديثنا عن الأمس أو حديثنا عن اليوم هو حديث عن الظواهر، أما السنن فهي لا تزال سنن باقية.

كذلك أيها الأحبة نعلم أن حديثنا عن الأمس واليوم لا يتناول الزمان:

والليل فاعلم والنهار كلاهـما     أرواحنا فيها تعد وتحسب

الليل والنهار منذ زمن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أربعة وعشرون ساعة، واليوم يتراوح طوله وقصره بين الليل والنهار، هل زاد النهار في هذا الزمان وقصر في ذلك الزمان؟

لا، الزمان هو هو كما كان.

واعلموا كذلك أن صفات أهل الزمان الخلقية الأصلية كما كانت في ذلك الزمان هي موجودة أيضاً في هذا الزمان؛ كي تقوم الحجة علينا.

إن الصحابة كان لهم عينان وأنف واحد ويدان ورجلان، ولكل واحد منكم عينان ويدان ورجلان وأنف واحد لم يتميز ذلك التاريخ السابق، أو الأمس الذي نتحدث عنه، لم يتميز بأن أصحابه كانوا أولو عشرات الأعين ونحن ليس لنا إلا عينين فقط، لا، بل اتفقنا معهم أعيننا كأعينهم، وأنوفنا كأنوفهم، وأبصارنا كأبصارهم، وأقدامنا كأقدامهم، وأيدينا كأيديهم.

إذاً ما الخلاف؟

اختلفت البصائر: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

والذين حينما تحدثهم عن واقعهم، أو انحراف أو تساهل أو ضعف في سلوكهم وتمسكهم بدينهم، وتهاون بالغيرة في حرمات الله وأوامر الله ومناهي الله جل وعلا، قام يحدثك ويقلب لك الأمر ويفرقع الأصابع: ذاك زمان مضى وهذا زمان اختلف، لا.

أرى حللاً تصان على أنـاس     وأخلاقاً تداس فلا تصان

يقولون الزمان به فساد     وهم فسدوا وما فسد الزمان

نعيب زماننا والعيب فينا     وما لزماننا عيب سوانا

وقد نهجو الزمان بغير جـرم     ولو نطق الزمان بنا هجانا

فيا أحبتي في الله! ينبغي أن نعلم أننا يوم أن نتحدث عن الأمس واليوم، أننا نتحدث عما جنت واجترحت وفعلت واكتسبت أنفسنا وجوارحنا، أما السنن فإنها لم تتغير أبداً.

هذا الكلام أقوله لكي لا يزداد بعدنا عن الزمان الأول وإغراقنا في الزمان الآخر، ولكي نتمسك بما كان عليه الصدر الأول: (أفلا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).

مهما كانت البشرية في القرن الخامس عشر الهجري أو العشرين -بعد أيام قليلة ندخل في عام ألف وأربعمائة وأحد عشر- أو لو بلغنا عام ألف وتسعمائة أو ألفين للهجرة فإن عام ألفين للهجرة لا يعني أن نتهاون بحرف واحد من كتاب الله جل وعلا، مهما تقدمنا وتطورنا ومضت بنا العصور والأزمنة فإن ذلك لا يغنينا ولا يجعلنا في غنىً عن آية واحدة من كتاب الله، فضلاً عن كتاب الله كله، لماذا؟

لأن السنة واحدة، والسنة باقية، وسنة الله في هذا الكون لا تتبدل ولا تتحول، أراد الله لهذا الدين أن يكون خاتماً ومهيمناً على سائر الأديان والرسالات إلى يوم القيامة، فكانت معجزة الدين خاتمة ومهيمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ثم اعلموا أيها الأحبة! أنه ينبغي قبل أن نفصل عن الحديث عن الأمس واليوم أن نسأل: ماذا ينفعنا الحديث عن الماضي؟

ينفعنا الحديث عن الماضي أن نتأسى وأن نتثبت، وإذا ابتلينا بواقعة في زمننا، تأملنا تاريخنا، وتاريخ أسلافنا، بل وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، لنعلم أن فيها عظة وعبرة، ودواء وعلاجاً، وشفاءً ومنهجاً وترياقاً، وتجربة صادقة من تمسك بها نال الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، هكذا حينما ندرس الماضي، لا لكي نقرأ كان يوم كان، أو لكي نعرف الحكايات الممتعة، والبطولات المتنوعة، لا، إنما ندرس الماضي لكي نستلهم العبر، ولكي نفتش ولكي نقلب الأحرف والأسطر من التاريخ والسيرة، عند ذلك نجد أن لكل واقعة جديدة علاقة بحدث قديم، لو استطعنا أن نستنبط وأن ندقق وأن نعرف الطريق الصحيح إلى الفهم والاستيعاب.

كذلك في هذا القرآن ما يدل على ذلك، إن الله جل وعلا قد جمع لنبيه أخباراً عن الأولين السابقين السالفين، نحن الآن نتكلم عن الماضي، ونتكلم عن اليوم والله جل وعلا قد قص على نبيه أحداث وأخبار وأنباء أقوام كانوا في الماضي، وأخبره عن كيد قومه في زمنه، لماذا يا ربنا قصصت على نبينا على أخبار أقوام مضوا وسلفوا، لماذا؟

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10]، وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

فإذاً: الله جل وعلا قد ذكر لنبيه وبيَّن أن أقواماً غير من قصصنا عليك لهم أخبار ولهم أحداث وشأن مع أنبيائهم، إلا أن الله جمع لنبيه فيمن لم يفصل له قصتهم وأنباءهم جمع له شأنهم فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وفي القرآن تفصيل وإيجاز وبيان وتوضيح لأخبار من سلف من الأنبياء والرسل لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، يضير قلبك، يجرح خاطرك، يحز في فؤادك أن قومك يستهزئون بك، يسخرون بك، يستهزئون من دعوتك، يسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صناديد الكفر والشر: أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر هذا الصابئ، فيقوم أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، ثم يأخذ سلا الجزور -وهو بقايا الناقة بعد نتاجها- ويضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه فيها عبرة يا إخواني لكل داعية ولكل تائب إلى الله يوم أن نجد الاستهزاء والسخرية، تضيق وتتبرم وتنزعج وتتكدر يوم أن تجد من يستهزئ ويسخر بك؛ لأنك التزمت وتبت إلى الله واستقمت على نهج الله، لن تكون أفضل من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي هو أفضل من وطئت قدمه الثرى، ومع ذلك وضع نجاسة وبول ودم الناقة على ظهره صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أوذيت فتذكر من قبلك، وإذا ابتليت فتذكر من قبلك، من هنا يكون حديثك عن الأمس فائدة لك في اليوم، أما أن يكون الحديث مجرداً من دون فائدة ولا عبرة ولا تثبيت للفؤاد، فلا فائدة في كان يوم كان، أو فُعل أو حصل أو قيل أو قال.

كذلك أيها الأحبة! ينبغي أن نعلم أن حديثنا عن الواقع لا ينفعنا بشيء ما لم يكن حديثاً مبنياً على خطوات علمية.

تكلمنا عن الأمس بإيجاز، ونتكلم عن فوائد الكلام في اليوم بإيجاز.

حينما نتحدث عن واقعنا من دون ثمرة عملية للواقع ماذا نستفيد؟ أحدثكم عن الواقع، أحدثكم عن غفلة الناس عن ذكر الله، أحدثكم عن بعد بعض الناس عن طاعة الله، أحدثكم عن إهمال بعض الآباء لأبنائهم في التربية على منهج الله، أحدثكم عن ضيعة من تولوا مسئولية البيوت والأسر والبنات والزوجات، ضيعوا ما ولاهم واسترعاهم الله، ثم ماذا؟

أطيل الحديث لكم، وأنبئكم بأشجان ومصائب، وما يحز في قلبي مما أرى في واقعي ثم ماذا بعد ذلك؟

لو حدثتكم عشر ساعات، ثم أخذتم تبكون وتنشجون، وتصيحون وتهزون الرءوس، هذا لا فائدة منه، هذا شأن النساء وليس شأن الرجال، إن شأن الرجال يوم أن يتحدثوا عن واقعهم يتحدثون عن الواقع لكي يفعلوا أمام الواقع أمراً يصلحه، هل تنتهي مهمة مراجعتك للمستشفى بمجرد دخولك على الطبيب وتصف له الواقع، أيها الطبيب عندي قلة شهية واضطراب في الأمعاء، وصداع في الرأس، وخمول في المفاصل، ووجع في الأعصاب، ثم يقول الطبيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتخرج من باب المستشفى؟! هل سمعتم أن هذا طب، أو أن هذا عقل، أو أن هذا علاج؟ لا، هذا جزء بسيط أن تصف الأعراض، أن تصف الحالة، لكن أنت جئت واصفاً لحالتك من أجل أن تنال الدواء والعلاج، من أجل أن يقول لك الطبيب: اترك كذا، وافعل كذا، واجتنب كذا، وتجنب مصاحبة كذا، واحرص على أداء كذا، وعند ذلك يكون وصفك لحالتك مجدياً أمام جواب نافع، أما أن نصف الواقع بدون فعل وبدون عمل، فهذا لا ينفعنا بشيء أبداً.

وقديماً قالت العرب في أمثالها: أوسعتهم سباً وأوردو بالإبل. أنا أخبركم بقصة هذا المثل:

راعٍ من الرعاة، استودعوه أذواداً -جمع ذود من الإبل- يرعاها، فغزا قوم المرعى، فاستاقوا الإبل وضربوا الراعي، وأخذ الراعي يرفع يديه ويلعنهم ويشتمهم ويسبهم وهم يسوقون الإبل هاربين غانمين بها، فلما جاء أصحاب الأباعر قالوا: أين النوق؟ قال: والله غزانا بنو فلان فأخذوا النوق والأباعر، قالوا: وأنت أين كنت؟ قال: والله كنت أشتمهم وأسبهم وألعنهم، هل هذا يكفي؟ لا.

أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل

فهذا شأننا إن كنا نتحدث عن واقعنا اليوم بدون عمل، فنحن أوسعناهم شتماً وساروا بالإبل.

لو انطفأ النور في هذا المسجد الآن، كلكم يقول: انقطع التيار الكهربائي؟ فماذا نفعل؟ انطفأت الأنوار، انطفأت الأنوار، ثم نردد هذه العبارة، ماذا استفدنا؟

يعثر بعضنا في بعض، يطأ بعضنا بعضاً، يموت بعضنا بسبب تدافع بعض بدون فائدة؛ لأننا لم نزد على أن وصفنا الواقع، لكن لو قام واحد ذكي واشترى شمعة بنصف ريال وأشعلها لرأينا جميعاً، فهنا استفدنا بعد ذكر الواقع أن نوقد شمعة، وكما قال: لأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة.

إخواني! واقع كثير من الصالحين أو الطيبين أو المستقيمين أو الدعاة -فضلاً عن سائر إخواننا الذين نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية، وأن يذيقهم لذة الاستقامة- أنهم يحسنون وصف الأشياء ولا نعرف كيف نتعامل بعد ذلك، فأمثالنا أمثال من وقفوا في تقاطع الطريق، والسيارات ذاهبة غادية رائحة، واحد يجلس في الطريق، ويقول: هذه (التريلة) قربت.. وصلت فسوف تدعسنا.. دعستنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهل ينفع الوصف؟

لكن ينفع أن نبتعد عن طريق (التريلة) قليلاً حتى نسلم وتمر هذه السيارة أو الشاحنة بسلام.

إذاً: وصف الواقع من الأساليب التي اجتهد الأعداء أن يشغلونا بها.

عشنا فترة من الزمن ما كنا نعرف واقعنا، ما كنا نعرف حقيقة ما يراد بنا، ما كنا نعلم المخططات اليهودية والاستعمارية والشيوعية الحاقدة التي حسدتنا على خيرات نحن فيها، أخذنا زمناً طويلاً ونحن نجهلها، فلما بدأنا نتنور وبدأنا نعرف هذه المخططات وتلك الحروب الفكرية والعلمية والميدانية، حينما بدأنا نعرفها أشغلنا الأعداء بحسن وصفها، ويقف جهدنا عند هذا الأمر، نقف عند وصف مخططات الأعداء.

مثلاً: أنا أصلي جمعة في مسجد فيقول الخطيب: يا معاشر المؤمنين! إن مخططات أعداء اليهود قد نفذت في هذا الزمان حرفاً حرفاً، وإن برتوكولات حكماء صهيون قد نفذ منها البرتوكول السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر على التوالي والمصلين يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا بعد ذلك؟ نفذوا السابع عشر أو السابع والعشرين، ما دام أن ليس عندنا إلا هز الرءوس، فمعنى ذلك: أن لا فائدة، لكن لو قلنا: ماذا قدمنا؟ لكي نقف بالمرصاد أمام البرتوكول الأول من مخططات حكماء صهيون؟ عند ذلك نقف وقفة المحاسبة، ووقفة المراجعة، ووقفة التأمل مع أنفسنا لنعلم إلى أي درجة نحن نفهم هذا الواقع.

أيها الأحبة! نحن نعيش في مواجهة عدو تمرس في مختلف الأساليب النفسية، والفكرية، والتجريبية، والعلمية، والفنية وفي شتى المجالات، نحن نواجه عدواً ذكياً يستطيع أن يشغل الكثير من شبابنا من حيث لا يشعر.

لذلك أيها الأحبة! أقول: إن من أهم واجباتنا فيما يتعلق بذكر واقعنا: أن نعرف قاعدة قبل أن نتكلم عن الواقع، ماذا سنفعل بعد أن نعرف الواقع؟

أيها الأحبة! حديثنا عن واقعنا وأمسنا نقسمه إلى ثلاثة جوانب: واقعنا الاقتصادي وماضينا الاقتصادي، واقعنا السياسي وماضينا السياسي، واقعنا الاجتماعي وماضينا الاجتماعي، وأرجو أن لا تخافوا من كلمة السياسة؛ لأني سأتحدث عن نظريات.

اعلموا أيها الأحبة أن ماضينا من الناحية السياسية؛ كان المسلمون يعتقدون فيه أن لا غلبة ولا حياة ولا نفس للهواء إلا بسلطان المسلمين على سائر الأمم أجمع، كل مسلم في ذلك الزمان الماضي كان يرى أن المسلم ينبغي أن يكون المهيمن والحاكم والمسيطر على هذه الدنيا بأكملها، من خليجها إلى محيطها، هكذا كان فكر المسلم، وهكذا كان فكر خلفاء الإسلام، أن الإسلام لا بد أن يسيطر على جميع جوانب وأجزاء المعمورة أجمع، ولا يمكن أن نتنازل عن شبر فضلاً عن مترٍ، أو كيلو، أو بلدان، أو بقاع، أو أراضي للمسلمين أجمعين.

هذا فيما مضى، كل مسلم حتى وإن كان خبازاً، أو حائكاً، أو بناءً، أو فلاحاً، هو في عمله، لكن يعتقد أن العزة للمسلمين، ولا يمكن أبداً أن يكون لكافر على مسلم سلطان أبداً، لقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].

نظريتنا السياسية في العهد القديم: أنه لا يمكن أنه يوجد كافر يستعلي على مسلم، هكذا كانوا يفهمون وهكذا كانوا يتعاملون، ولذلك فلا يرضون أن يكون للكفار أدنى رفعة أو أدنى علو أو زهو أو مكانة أبداً هكذا عقيدتهم، هكذا تربوا، وهكذا شربوا ورضعوا.

أما واقعنا اليوم عندكم أنتم وعندي أنا وعند كثير من المسلمين في هذا الزمان: أن الأرض فرصة متساوية لطوائف من البشر يمكن أن يستعلي فيها من يستعلي، وأن يعيش فيها من يعيش.

نحن لا نحرم الناس حق العيش، أرجو أن لا أفهم فهماً خاطئاً، إن الإسلام جاء بحفظ كرامة الذميين من اليهود والنصارى، إن الإسلام جاء بحفظ حقوقهم، إن الإسلام جاء بحقوق وواجبات لهم وعليهم، لكن بشرط أن يكون الإسلام هو الأعلى.

أما في هذا الزمان فأين المسلم الذي إذا زار الأندلس قال: كيف أصبحت هذه الأرض بأيدي الكفار؛ لأن النظرية السياسية انتكست، تجد الكثير من المسلمين يزور برشلونا، وبهو السباع، قصر الحمراء، غرناطة، وهو يتمتع بهذه المظاهر الجميلة، لكن أن تجده يحترق فلا؛ لأن النظرية انعكست بدلاً من أن يكون المسلمون هم على هذه الأرض، أصبح النصارى يجعلون صورة الصليب والعذراء والمسيح على مداخل المساجد في تلك المناطق، لا، هذه الدنيا فرص، وهذه الآن فرصة الأسبان أن يعيشوا على هذه الأرض لا أقل ولا أكثر.

من هنا انتكس مفهوم النظرية السياسية، ففي القديم كان المسلم لا يرضى أبداً أن يتملك كافر شبراً من أراضي المسلمين، لكن في زماننا هذا صار هَمُّ كل مسلم أن ينال قطعة أرض على شارعين، وسيارة لا بأس بها، إما نقداً أو بالتقسيط المريح، وزوجة على المواصفات المطلوبة حسب الإمكان، ومستقبل مادي لا بأس به، هنا يعيش حد وفكر كثير من المسلمين، وأنا لا ألومهم أيها الإخوة لأن النفوس درجات، من الناس من لا يقنع إلا بدرجة أولى، ومن الناس من لا يقنع إلا بطيران خاص، ومن الناس من يقنع بالقطار المسمكر، كل يضع نفسه حيث شاء، فمن المسلمين الذين تنسموا وتنفسوا روائح العزة لا يرضون بل لا يطيقون أن يروا كفاراً على معقل من معاقل المسلمين.

هذا فيما يتعلق بالنظرية السياسية أو بالواقع السياسي بين الأمس واليوم.

السلام العالمي المزعوم

إن الذي تتبع منكم العام الماضي بالذات ما يتعلق بالصحف والمجلات والجرائد الأجنبية كلها، والإذاعات الأجنبية كلها، ماذا تقول؟ عام السلام الدولي، عام الطمأنينة، عام الأمن والأمان، يغرسون في القلوب أنه يجب أن يعيش الناس مرحلة إلقاء السلاح ومرحلة هدوء تام، ورضى كل بما حصل له، المهم ألا تفكر بأكثر مما عندك وهذا مبدأ يريد الأعداء من خلال أبواقهم ووسائلهم، أن يقرروه في نفوس المسلمين، أن يقولوا لكل مسلم: لا تتحرك أكثر من كذا لا يمكن، حتى بلغ بالمسلمين من الهوان والضعف ما بلغ.

يقول لي أحد الدعاة وهو ألماني الجنسية مصري الأصل قال: كنت في زيارة لأهلي في مدينة المنصورة فسألت جارة لنا، تعيش في بيت خرب للغاية، مصر التي كانت تصدر للدنيا خيرات عظيمة، وكانت شوارعها تغسل بالصابون، القاهرة كانت تغسل بالصابون، ماذا حصل؟ كيف الحال يا أم سيد؟ وهي تعيش في بيت خرب أوشك على السقوط، وتطلب من جارتها أن تسكن في حضيرة الفراخ، فيقول لها: يا أم سيد كيف الحال؟ فتقول: يا بني لو أحسن من كذا (حتبوز) أي: لو وجد أحسن من البيت الخربان وحضيرة الفراخ فستخرب، أين همة المسلمين؟ أين الهمم التي لا ترضى إلا بالأعالي؟ أين الأم المجاهدة التي كانت تقول: لا تدخل هذا البيت حتى تأتيني برأس عدو الله؟

أصيب المسلمون بما يسمى بالتطبيع والهدوء، وعام السلام وعام الأمن وعام الطمأنينة، ينبغي لكل أن يقنع بهذا، وكما يقول الفاجر قباني:

بالسلم قانعون بالحرب قانعون

بالحر قانعون بالبرد قانعون

وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون

يصف ويستهزئ وهو من النصارى، شهد شاهد من أهلها، يصف حال أمته ومن حوله، يقول: إنهم قنعوا بما أراد الأعداء.

والله -يا إخوان- حينما ترى، ويتفاءل الرئيسان العظيمان بعد الخروج من قمة مالطا للحد من الأسلحة طويلة المدى، ونزع الصواريخ متوسطة المدى، والاتفاق بين حلف الناتو والأطلسي و.. و.. إلى أن يكون هذا العام عاماً جديراً بالسلام الدولي والأمني.

ما هذا السلام؟

سلام وفلسطين عند اليهود؟! سلام وأفغانستان عند الشيوعية؟! سلام وبورما تسيل من دماء المسلمين؟! سلام وأثيوبيا ستة آلاف امرأة يزنى بهن في السجون؟! سلام والفليبين يذبح المسلم فيها كما تذبح الشاه، وفي مانيلا وفي منديناو؟ كيف تطوف اللعبة على المسلمين، لأن النظرية السياسية والواقع السياسي اختلف، كنا بالأمس لا نرى راحة ولا طمأنينة حتى نتربع على الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

أما الآن فغاية الطمأنينة عندنا أن نملك قطعة من الأرض على شارع أو اثنين، وسيارة صغيرة وزوجة صغيرة، .. إلى آخر ذلك.

لا يا إخوان! حينما نعرف الموال والعزف الموسيقي على وتر السلام فلنعرف ما هو السلام، سيحدثونك يا بني عن السلام: لكن ما هو هذا السلام الذي يتحدثون عنه، سلام يعيش فيه المسلمون أعزاء كرماء؟! سلام ينال به المسلمون أبسط حقوقهم كبشر؟!

والله لقد عاملوا إخوانكم في أفغانستان وفي جنوب السودان وفي إريتريا وفي الفليبين وفي كثير من مواقع الأرض التي كانت السلطة والدولة والقوة فيها للمسلمين، عاملوهم أقل مما يعاملون البهائم والكلاب والدواب والحشرات، هل سمعتم بالإبادات الجماعية، والأسلحة الكيماوية؟!

لا والله يا معاشر المؤمنين، أي سلام هذا الذي يراد أو يتحدث عنه، والمسلمون هكذا دماؤهم رخيصة، فحينما تسمعون العزف على وتر السلام اسألوا: ما هو السلام؟

أكلت يوم أكل الثور الأبيض، كانت فلسطين لا يتربع فيها إلا الفلسطينيون، وكذلك كل دولة من دول الإسلام، وأفغانستان لا يتربع فيها إلا الأفغان، كان أهل سجستان فيها، وأهل ترمذ فيها، وأهل بخارى فيها، وأهل طشقند فيها، وأهل جوزجان فيها، وأهل دوشمبي، وأهل طاجكستان كل أمة متمتعة، لكن جاء الدب الروسي الملحد فنهب قطعة من الأرض، فقال الذي بجواره: الحمد لله، ما دمت سليماً فالمسألة سهلة، فجاء الدب الروسي الشيوعي الملحد فنهب القطعة الثانية فقال الثالث: الحمد لله أنا سليم، فأخذ الثالثة، قال الرابع: أنا سليم، فأخذ الخامسة قال السادس: أنا سليم، حتى أكلت أراضي المسلمين وبلدانهم، بسبب التخلف في النظرية السياسية والانتكاس لماذا؟ أصبحنا فكرياً فضلاً عن عملياً نوافق أن يكون للكفار قائمة، وأن يكون للكفار دولة، وأن يكون للكفار أمة.

ما خلفته دعوى السلام من أثر علينا

قد يقول بعضكم: ما هذا التحمس العاطفي، يريد أن يقول: هكذا بـأمريكا وهكذا بـروسيا ، ويضرب رأسهما ببعض؟ لا، أقول: وإن كان الواقع يدل على أن للكفار دولة، وعلى أن للكفار أمة، فينبغي أن العقول والقلوب ترفض هذا الواقع، إن المسلمين في عصور أذلوا فيها على أيدي المغول والتتار، مع ذلك كانوا يقولون: أنت كافر ذليل، والمسلم يقتل ويقول: أنت كافر ذليل، يعني: الواقع يشهد أن المغولي والتتري يذبح المسلم لكن الفكر الإسلامي كان نظيفاً، كان يحمل سياسة تقول: إن الكافر خسيس ذليل لا يمكن أن يتربع على مسلم حتى ولو مسك السيف وقطع رقبة المسلم، لكن الآن لا.

ولذلك لاحظوا كم عدد الذين يتمنون أن تنتهي قضية أفغانستان بالحل السلمي وسنفونية الأمن والأمان والسلام؟ ليس لدينا مانع، والكثير يردد أن تنتهي القضية الأفغانية من خلال مسلكين: منظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي، تتولى منظمة الأمم المتحدة الانتخابات في المناطق التي يسيطر عليها الشيوعيون، ومنظمة المؤتمر الإسلامي تتولى الانتخابات في مناطق المهاجرين، والمناطق التي يسيطر عليها المسلمون، هذا المبدأ تقترحه الدول الكافرة.

نحن لا نتهم الآن منظمة المؤتمر الإسلامي أو نقول هي عميلة أو دخيلة، لا تفهموا خطأً أو تنقلوا خطأً، لكن أقول هكذا يفكر الأعداء أن ينهوا القضية، وللأسف بفكر ومنطلق ومفهوم الأعداء في إنهاء القضية وحسمها على هذا الواقع المرير يوجد آلاف بل مئات الآلاف من المسلمين، بل ملايين يريدون أن تنتهي القضية، تنتهي على ماذا؟

بعد مليون وستمائة ألف رقبة وروح أزهقت، وثمانمائة ألف يتيم، دموعهم تزرع الأشجار الباسقة، ما مسحت أبداً، بعد قرابة المليون معوق، يد، رجل، عين، وجه، جذع أنف، إعاقة، شلل ثلاثي أو رباعي أو نصفي، بعد هذا كله نجد مسلماً يوافق أن تكون الدولة والحكومة للشيوعيين مشتركة مع المسلمين بهذا الاقتراح الذي يقترحه الأعداء والعملاء؟! لا.

فيا معاشر الأحبة! أعلموا أنه ينبغي أن نعتقد أنه كما لنا في هذه المملكة الطبية وهذه الجزيرة المباركة، كما أن للمسلمين فيها ولولاة أمرهم السلطة والقوة والدولة والغلبة، فينبغي أن تكون الدولة والسلطة والغلبة للمسلمين في كل بقاع الأرض، لا أن تقول: الحمد لله نحن بخير، ولا نبالي بأي مسلم في أي وادٍ هلك، هذا من الجهل ومن الخطر ومن الاتكالية القاتلة.

إن الذي تتبع منكم العام الماضي بالذات ما يتعلق بالصحف والمجلات والجرائد الأجنبية كلها، والإذاعات الأجنبية كلها، ماذا تقول؟ عام السلام الدولي، عام الطمأنينة، عام الأمن والأمان، يغرسون في القلوب أنه يجب أن يعيش الناس مرحلة إلقاء السلاح ومرحلة هدوء تام، ورضى كل بما حصل له، المهم ألا تفكر بأكثر مما عندك وهذا مبدأ يريد الأعداء من خلال أبواقهم ووسائلهم، أن يقرروه في نفوس المسلمين، أن يقولوا لكل مسلم: لا تتحرك أكثر من كذا لا يمكن، حتى بلغ بالمسلمين من الهوان والضعف ما بلغ.

يقول لي أحد الدعاة وهو ألماني الجنسية مصري الأصل قال: كنت في زيارة لأهلي في مدينة المنصورة فسألت جارة لنا، تعيش في بيت خرب للغاية، مصر التي كانت تصدر للدنيا خيرات عظيمة، وكانت شوارعها تغسل بالصابون، القاهرة كانت تغسل بالصابون، ماذا حصل؟ كيف الحال يا أم سيد؟ وهي تعيش في بيت خرب أوشك على السقوط، وتطلب من جارتها أن تسكن في حضيرة الفراخ، فيقول لها: يا أم سيد كيف الحال؟ فتقول: يا بني لو أحسن من كذا (حتبوز) أي: لو وجد أحسن من البيت الخربان وحضيرة الفراخ فستخرب، أين همة المسلمين؟ أين الهمم التي لا ترضى إلا بالأعالي؟ أين الأم المجاهدة التي كانت تقول: لا تدخل هذا البيت حتى تأتيني برأس عدو الله؟

أصيب المسلمون بما يسمى بالتطبيع والهدوء، وعام السلام وعام الأمن وعام الطمأنينة، ينبغي لكل أن يقنع بهذا، وكما يقول الفاجر قباني:

بالسلم قانعون بالحرب قانعون

بالحر قانعون بالبرد قانعون

وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون

يصف ويستهزئ وهو من النصارى، شهد شاهد من أهلها، يصف حال أمته ومن حوله، يقول: إنهم قنعوا بما أراد الأعداء.

والله -يا إخوان- حينما ترى، ويتفاءل الرئيسان العظيمان بعد الخروج من قمة مالطا للحد من الأسلحة طويلة المدى، ونزع الصواريخ متوسطة المدى، والاتفاق بين حلف الناتو والأطلسي و.. و.. إلى أن يكون هذا العام عاماً جديراً بالسلام الدولي والأمني.

ما هذا السلام؟

سلام وفلسطين عند اليهود؟! سلام وأفغانستان عند الشيوعية؟! سلام وبورما تسيل من دماء المسلمين؟! سلام وأثيوبيا ستة آلاف امرأة يزنى بهن في السجون؟! سلام والفليبين يذبح المسلم فيها كما تذبح الشاه، وفي مانيلا وفي منديناو؟ كيف تطوف اللعبة على المسلمين، لأن النظرية السياسية والواقع السياسي اختلف، كنا بالأمس لا نرى راحة ولا طمأنينة حتى نتربع على الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

أما الآن فغاية الطمأنينة عندنا أن نملك قطعة من الأرض على شارع أو اثنين، وسيارة صغيرة وزوجة صغيرة، .. إلى آخر ذلك.

لا يا إخوان! حينما نعرف الموال والعزف الموسيقي على وتر السلام فلنعرف ما هو السلام، سيحدثونك يا بني عن السلام: لكن ما هو هذا السلام الذي يتحدثون عنه، سلام يعيش فيه المسلمون أعزاء كرماء؟! سلام ينال به المسلمون أبسط حقوقهم كبشر؟!

والله لقد عاملوا إخوانكم في أفغانستان وفي جنوب السودان وفي إريتريا وفي الفليبين وفي كثير من مواقع الأرض التي كانت السلطة والدولة والقوة فيها للمسلمين، عاملوهم أقل مما يعاملون البهائم والكلاب والدواب والحشرات، هل سمعتم بالإبادات الجماعية، والأسلحة الكيماوية؟!

لا والله يا معاشر المؤمنين، أي سلام هذا الذي يراد أو يتحدث عنه، والمسلمون هكذا دماؤهم رخيصة، فحينما تسمعون العزف على وتر السلام اسألوا: ما هو السلام؟

أكلت يوم أكل الثور الأبيض، كانت فلسطين لا يتربع فيها إلا الفلسطينيون، وكذلك كل دولة من دول الإسلام، وأفغانستان لا يتربع فيها إلا الأفغان، كان أهل سجستان فيها، وأهل ترمذ فيها، وأهل بخارى فيها، وأهل طشقند فيها، وأهل جوزجان فيها، وأهل دوشمبي، وأهل طاجكستان كل أمة متمتعة، لكن جاء الدب الروسي الملحد فنهب قطعة من الأرض، فقال الذي بجواره: الحمد لله، ما دمت سليماً فالمسألة سهلة، فجاء الدب الروسي الشيوعي الملحد فنهب القطعة الثانية فقال الثالث: الحمد لله أنا سليم، فأخذ الثالثة، قال الرابع: أنا سليم، فأخذ الخامسة قال السادس: أنا سليم، حتى أكلت أراضي المسلمين وبلدانهم، بسبب التخلف في النظرية السياسية والانتكاس لماذا؟ أصبحنا فكرياً فضلاً عن عملياً نوافق أن يكون للكفار قائمة، وأن يكون للكفار دولة، وأن يكون للكفار أمة.

قد يقول بعضكم: ما هذا التحمس العاطفي، يريد أن يقول: هكذا بـأمريكا وهكذا بـروسيا ، ويضرب رأسهما ببعض؟ لا، أقول: وإن كان الواقع يدل على أن للكفار دولة، وعلى أن للكفار أمة، فينبغي أن العقول والقلوب ترفض هذا الواقع، إن المسلمين في عصور أذلوا فيها على أيدي المغول والتتار، مع ذلك كانوا يقولون: أنت كافر ذليل، والمسلم يقتل ويقول: أنت كافر ذليل، يعني: الواقع يشهد أن المغولي والتتري يذبح المسلم لكن الفكر الإسلامي كان نظيفاً، كان يحمل سياسة تقول: إن الكافر خسيس ذليل لا يمكن أن يتربع على مسلم حتى ولو مسك السيف وقطع رقبة المسلم، لكن الآن لا.

ولذلك لاحظوا كم عدد الذين يتمنون أن تنتهي قضية أفغانستان بالحل السلمي وسنفونية الأمن والأمان والسلام؟ ليس لدينا مانع، والكثير يردد أن تنتهي القضية الأفغانية من خلال مسلكين: منظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي، تتولى منظمة الأمم المتحدة الانتخابات في المناطق التي يسيطر عليها الشيوعيون، ومنظمة المؤتمر الإسلامي تتولى الانتخابات في مناطق المهاجرين، والمناطق التي يسيطر عليها المسلمون، هذا المبدأ تقترحه الدول الكافرة.

نحن لا نتهم الآن منظمة المؤتمر الإسلامي أو نقول هي عميلة أو دخيلة، لا تفهموا خطأً أو تنقلوا خطأً، لكن أقول هكذا يفكر الأعداء أن ينهوا القضية، وللأسف بفكر ومنطلق ومفهوم الأعداء في إنهاء القضية وحسمها على هذا الواقع المرير يوجد آلاف بل مئات الآلاف من المسلمين، بل ملايين يريدون أن تنتهي القضية، تنتهي على ماذا؟

بعد مليون وستمائة ألف رقبة وروح أزهقت، وثمانمائة ألف يتيم، دموعهم تزرع الأشجار الباسقة، ما مسحت أبداً، بعد قرابة المليون معوق، يد، رجل، عين، وجه، جذع أنف، إعاقة، شلل ثلاثي أو رباعي أو نصفي، بعد هذا كله نجد مسلماً يوافق أن تكون الدولة والحكومة للشيوعيين مشتركة مع المسلمين بهذا الاقتراح الذي يقترحه الأعداء والعملاء؟! لا.

فيا معاشر الأحبة! أعلموا أنه ينبغي أن نعتقد أنه كما لنا في هذه المملكة الطبية وهذه الجزيرة المباركة، كما أن للمسلمين فيها ولولاة أمرهم السلطة والقوة والدولة والغلبة، فينبغي أن تكون الدولة والسلطة والغلبة للمسلمين في كل بقاع الأرض، لا أن تقول: الحمد لله نحن بخير، ولا نبالي بأي مسلم في أي وادٍ هلك، هذا من الجهل ومن الخطر ومن الاتكالية القاتلة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2831 استماع
حقوق ولاة الأمر 2699 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2659 استماع
توديع العام المنصرم 2652 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2555 استماع
من هنا نبدأ 2511 استماع
أنواع الجلساء 2464 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2463 استماع
الغفلة في حياة الناس 2449 استماع
إلى الله المشتكى 2447 استماع