الروض المربع - كتاب الصلاة [97]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب صلاة الكسوف.

يقال: كسفت بفتح الكاف وضمها ومثله خسفت، وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه. وفعلها ثابت بالسنة المشهورة، واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37] ].

المقصود بالكسوف والخسوف والفرق بينهما

قول المؤلف رحمه الله: (باب صلاة الكسوف)، أي: باب صفة الصلاة والأحكام المتعلقة بالكسوف والخسوف، وقوله: (يقال: كسفت بفتح الكاف وضمها)، كَسفت وكُسفت، (ومثله) خَسفت وخُسفت، ومن المعلوم أنه يجوز إطلاق الكسوف على كسوف الشمس والقمر، والخسوف على خسوف الشمس والقمر، إلا أن الأجود لغة أن يقال: كسفت الشمس وخسف القمر؛ وذلك لأن الكسوف في اللغة بمعنى: السواد، فيقال: كسفت الشمس؛ إذا أسود لونها، والشمس إنما تسود حال حجب القمر عن بعضها؛ وذلك لأن كسوف الشمس إنما يكون إذا توسط القمر بين الشمس وبين أبصارنا، يعني: وبين الأرض، وأما الخسوف فهو توسط الأرض بين الشمس والقمر، فالكسوف السواد والخسوف النقصان؛ نقصان ضوئه أو ذهاب ضوئه، وإن كان يجوز إطلاق المعنيين.

أسباب كسوف الشمس وخسوف القمر

قال المؤلف رحمه الله: (أن الكسوف وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه) وهو: انحجاب ضوء الشمس أو القمر بسبب غير معتاد، وكسوف الشمس والقمر له سببان لا يجوز إغفال سبب عن سبب، وإن كان السبب الأعظم هو السبب الأول وهو السبب الشرعي، فسبب الخسوف والكسوف سببان:

السبب الأول: سبب شرعي، وهو تخويف الله عباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده )، وقال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، بل بعض أهل العلم يقول: إن الخسوف والكسوف إنما يقع حال نذر عقاب على العباد، ومتى ما فعلوا ما أمرهم الله به من التوبة والاستغفار والصدقة والعتاقة والصلاة رفعه الله عنهم، وهذا معنىً حسن.

السبب الثاني: سبب كوني، وهو أنه إذا كان ثمة كسوف للشمس فإن القمر يتوسط بين الشمس والأرض، وأما إذا كان هناك خسوف فإن الأرض تتوسط الشمس والقمر وهذا أمر معلوم، وقد أشار ابن القيم رحمه الله و أبو العباس بن تيمية وغير واحدٍ من سلف هذه الأمة إلى أن هذا مما تعرفه الناس في هذا الأمر.

والعجب أن في الخسوف والكسوف مبالغة في السبب الكوني، ومن المعلوم أن الله لا يعذب قوماً بسنة كونية إلا ولها سبب كوني وسبب شرعي؛ فإغراق أو إهلاك قوم بالخسف إنما كان بسبب شرعي، وهو كذلك بسبب كوني، وغرق فرعون وغيره كان بسبب شرعي وهو أيضاً بسبب كوني، فلا يمكن أن يعاقب قوم بسنة كونية إلا ولها تفسير كوني بسبب شرعي، فإذا قيل: تسونامي غرق فله تفسير كوني، وإذا قيل: أغرق الله فرعون وقومه حينما انشق البحر فهذا له تفسير كوني، وحينما رجع فله تفسير كوني؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقضي ما يشاء وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

الأدلة على مشروعية صلاة الكسوف والخسوف

قال المؤلف رحمه الله: (وفعلها ثابت بالسنة المشهورة) يعني: صلاة الكسوف سنة مؤكدة بل حكى النووي أنها سنة مؤكدة بالإجماع، وذهب بعض السلف إلى أنها واجبة -أعني بها: الصلاة- حكي عن مالك ، ونقل بعضهم عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وقال ابن القيم في كتاب الصلاة: وهو قول قوي جداً يعني: وجوب الصلاة. وقال: إن الله فرض على العباد في اليوم والليلة خمس صلوات، وفرض عليهم في السنة صلاتين وهما: العيدان، وفرض عليهم حال وجود سبب بعض الصلاة كصلاة الكسوف والخسوف.

والذي يظهر والله أعلم أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة، وهي أولى صلاة التطوع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها، ومثلها صلاة العيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بالخروج لها، وأمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، وهي آكد -أعني: صلاة الكسوف- من صلاة الوتر.

قال المؤلف رحمه الله: (واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت:37]).

يعني: أن الشمس آية من آيات الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان موت أحد ولا لحياته ).

فمن قال: إنها فرض عين يقول: إن حديث: ( خمس صلوات كتبهن الله ) هذا فيما فرضه الله في اليوم والليلة، أما فيما فرضه في السنة أو ما فرضه لسبب فغير داخل، وهذا جمع قال به بعض أهل العلم، والأحوط هو قول الجمهور، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يدعها أو يتركها.

ومما يدل على ذلك -أي: عدم الوجوب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا رأيتم ذلك فادعوا وصلوا وتصدقوا )، فمن المعلوم أن الصدقة ليست واجبة.

إذاً: استنبط من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37] أن الشمس والقمر آية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ) ويقول الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] فصارت الشمس آية وتخويفاً، هذا القصد فيها.

قال المؤلف رحمه الله: [تسن صلاة الكسوف جماعة وفي جامع أفضل لقول عائشة: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه ) متفق عليه].

صلاة الكسوف تسن وهذا حكاه النووي إجماعاً، وقال ابن قدامة : لا خلاف في مشروعيتها وأوجبها بعضهم كما حكي عن مالك وعن أبي حنيفة ، وقواه ابن القيم ، والذي يظهر أن ذلك سنة مؤكدة للرجال والنساء فرادى وجماعات، وإن كانت الجماعة أفضل.

ومن السنن الغائبة صلاة النساء في بيوتهن، فإن بعض النساء إما أن تصلي في المسجد أو لا تصلي، والسنة هي الصلاة؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى عائشة قالت: فوجدتها تصلي والناس قيام يصلون فقلت: ما شأنك؟ فأشارت إلى السماء وقالت: سبحان الله! فقلت: آية. فأشارت برأسها أن نعم. قالت: فجعل الخوف يتجلاني ويتغشاني حتى جعلت أصب الماء على رأسي من شدة الخوف والفزع، وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر حتى جعل يجر إزاره بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله: (وفي جامع أفضل) وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، قالت عائشة رضي الله عنها: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه ) والحديث متفق عليه.

قال المؤلف رحمه الله: [وفرادى كسائر النوافل، إذا كسف أحد النيرين الشمس والقمر، ووقتها من ابتدائه إلى التجلي، ولا تقضى كالاستسقاء، وتحية المسجد، فيصلي ركعتين، ويسن الغسل لها].

قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وفرادى) يعني: يصلونها (كسائر النوافل).

المفاضلة بين أداء صلاة الخسوف والكسوف فرادى أو جماعة

قال المؤلف رحمه الله: (إذا كسف أحد النيرين) يعني: أن الصلاة جماعة وفرادى تستحب إذا كسفت (الشمس) أو خسف (القمر)، وذهب مالك و أبو حنيفة إلى أن صلاة الكسوف تفعل جماعة، وصلاة الخسوف تفعل فرادى، فأمس عندما كسفت الشمس على مذهب المالكية والحنفية فإنها تصلى جماعة، أما إذا خسف القمر فذهب الحنفية والمالكية إلى أن يصلي كل واحد وحده؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخسوف ونقل في الكسوف، والراجح والله أعلم هو مذهب الشافعية والحنابلة أن خسوف القمر ككسوف الشمس تصلى جماعة ولا فرق، والله أعلم.

وقت صلاة الخسوف والكسوف ابتداءً وانتهاءً

قال المؤلف رحمه الله: (ووقتها من ابتدائه) سواد الشمس ولو بجزء منها أو لذهاب ضوء القمر ولو لجزء منه (إلى التجلي) يعني: إلى أن ينكشف ما بكم، قال صلى الله عليه وسلم: ( فادعوا وصلوا، حتى ينكشف ما بكم ) أو ( حتى ينجلي ما بكم ).

قضاء صلاة الخسوف والكسوف وتكرارها باستمرار سببها

قال المؤلف رحمه الله: (ولا تقضى كاستسقاء) يعني: أن صلاة الكسوف لها سبب، فإذا زال السبب زال المسبب، وعلى هذا فإنها لا تقضى؛ لأنها إنما شرعت لحكمة فإذا زالت هذه الحكمة فلا تصلى، وأما قوله: (لا تقضى) بمعنى: أنك لا تصليها مرة ثانية فقد قال بعض أهل العلم: إن صلاة الكسوف لا تصلى إلا مرة، فإن قضيت الصلاة والشمس ما زالت كاسفة أو القمر ما زال خاسفاً فإنك لا تعيد الصلاة مرة ثانية، ولكنك تدعو وتتصدق، وقال بعضهم: لا حرج في إعادة الصلاة مرة ثانية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ) .

إن قوله: ( حتى ينجلي ) يفيد أنه: لو صلى والشمس ما زالت كاسفة قال بعضهم: لا يعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ إلا مرة، وقال بعضهم: يعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعل لأنه أطال الصلاة إطالة قوية، حتى إنه في الركعة الأولى قرأ قدر سورة البقرة بأبي هو وأمي وهذا القول قوي؛ لكن لو صلوا فرادى أفضل خروجاً من الخلاف يعني: إذا صلوا وأتموا الصلاة وما زالت كاسفة فكل واحد يصلي في بيته، أو في المسجد أو يدعون أو يتصدقون أو يبتهلون فرادى، وهذا القول قوي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى ينكشف ما بكم ) فدل على أن الصلاة مشروعة سواء كانوا صلوا جماعة، أو صلوا فرادى، وعلى هذا فالذي يظهر أنه إن صلوا جماعة والشمس ما زالت كاسفة حتى انتهوا جاز أن يصلى كل واحد وحده، والله أعلم، ولو صلوا جماعة لا حرج إن شاء الله، والله أعلم.

الاغتسال لصلاة الكسوف والخسوف

قال المؤلف رحمه الله: (ويسن الغسل لها) هذا المذهب، والمذهب يرون أن كل صلاة شرعت جماعة يستحب الاغتسال لها، كصلاة العيدين وصلاة الجمعة، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس خرج يجر إزاره، فلم يكن عنده بأبي هو وأمي وقت لأن يلبس ثوبه؛ فكيف له بالغسل؟! فالظاهر والله أعلم أنها لا يشرع لها الاغتسال، وأنها متى ما وجد ذهاب ضوء القمر أو سواد الشمس فإنه يخرج مسرعاً؛ ولأن الاغتسال يخالف أمره بالمبادرة بقوله: ( فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة )، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، والله أعلم.

قول المؤلف رحمه الله: (باب صلاة الكسوف)، أي: باب صفة الصلاة والأحكام المتعلقة بالكسوف والخسوف، وقوله: (يقال: كسفت بفتح الكاف وضمها)، كَسفت وكُسفت، (ومثله) خَسفت وخُسفت، ومن المعلوم أنه يجوز إطلاق الكسوف على كسوف الشمس والقمر، والخسوف على خسوف الشمس والقمر، إلا أن الأجود لغة أن يقال: كسفت الشمس وخسف القمر؛ وذلك لأن الكسوف في اللغة بمعنى: السواد، فيقال: كسفت الشمس؛ إذا أسود لونها، والشمس إنما تسود حال حجب القمر عن بعضها؛ وذلك لأن كسوف الشمس إنما يكون إذا توسط القمر بين الشمس وبين أبصارنا، يعني: وبين الأرض، وأما الخسوف فهو توسط الأرض بين الشمس والقمر، فالكسوف السواد والخسوف النقصان؛ نقصان ضوئه أو ذهاب ضوئه، وإن كان يجوز إطلاق المعنيين.