الروض المربع - كتاب الصلاة [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله في كتاب الصلاة: [ ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما، أي: فيما إذا جحد وجوبها وفيما إذا تركها تهاوناً، فإن تابا وإلا ضربت عنقهما، والجمعة كغيرها، وكذا ترك ركن أو شرط، وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها حتى يصلي، ولا ينبغي السلام عليه ولا إجابة دعوته قاله الشيخ تقي الدين ].

ذكرنا سابقاً حكم تارك الصلاة جحوداً وتهاوناً، وقلنا: إن الراجح والله تبارك وتعالى أعلم أن من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً فهو كافر، أما الشخص المعين فلا نقول بتركه للصلاة تهاوناً وكسلاً: إنه كافر حتى يدعوه الإمام ويُهدد ويصر على الترك، فثمة فرق بين إطلاق الحكم على المسألة التي على الوصف، وبين إطلاقها على المعين، فأما إطلاقها على الوصف فنقول: من ترك الصلاة فقد كفر، لا يُختلف فيه كما قال أيوب السختياني ، وأما على الشخص المعين فلا يُطلق الكفر عليه حتى يدعوه الإمام، وعلى هذا فإطلاق الكفر مسألة للإمام وليست للأعيان، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يقتل حتى يُستتاب ثلاثاً فيهما)، يعني: فيمن ترك الصلاة جحوداً وفي من ترك الصلاة تهاوناً.

والاستتابة اختلف العلماء في (ثلاثاً) هل هي ثلاثة أيام أم ثلاث مرات بأن يقول له الإمام أو نائبه: يا فلان! صل وإلا قتلناك، يا فلان! صل وإلا قتلناك، يا فلان! صل وإلا قتلناك، ويُبين له في كل استتابة حكم الصلاة وأدلتها؟ هذه المسألة فيها قولان:

فالحنابلة يرون أن المقصود بالثلاث في الاستتابة هي ثلاثة أيام، ويستدلون على ذلك بما رواه مالك في الموطأ: أن رجلاً قتل مرتداً في عهد عمر رضي الله عنه فقال عمر : هلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله! اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني. فقالوا: هذا فيه دلالة على أن عمر أمر بالاستتابة ثلاثاً، وأن نطعمه بحق الإسلام، وهذا الحديث في سنده رجل يقال له محمد بن عبد الله لم يوثقه غير ابن حبان ، وفيه انقطاع؛ لأنه لم يسمع من عمر .

وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أن قتل المرتد وطريقة استتابته راجعة إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى الإمام أن يستتيبه ثلاثة أيام فله ذلك، وإن رأى استتابته ثلاث مرات في يوم مع تهديده وتوعده بالقتل فله ذلك لظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من بدل دينه فاقتلوه )، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمها بعد إقرارها، وجائز أن يكون إقرارها فيه شبهة، إما شبهة الجنون أو شبهة عدم الإدراك أو شبهة إرادة قتل النفس أو شبهة عدم وضوح ما المراد بالزنا، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها، كذلك نقول: إن المستتاب يمكن أن يكون جاهلاً بالحكم، ويمكن أن يكون جاحداً، ويمكن أن يكون متهاوناً، ومع ذلك يُقتل، وهذا القول -وهو أنه راجع إلى اجتهاد الإمام- قوي وهو الأظهر والله تبارك وتعالى أعلم، وإطلاق الحديث ( من بدل دينه فاقتلوه ) لا يخالف هذا القول؛ لأن الشارع ذكر الحكم ولم يذكر طريقته، فقوله: (فاقتلوه) حكم، وطريقة القتل لم يذكرها الشارع، فدل على أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال، فهو عام إن رأى الإمام كذا فله ذلك، وإن رأى الاستتابة ثلاثاً فله ذلك.

الاختلاف في قتل تارك الصلاة كفراً أم حداً

قال المؤلف رحمه الله: (وإلا ضُربت عنقهما) هذا قول عامة أهل العلم على أن من ترك الصلاة فإنه يُقتل، والسؤال: هل يقتل حداً أم كفراً؟

الشافعية يرون أنه يقتل حداً، وهذا الذي عناه أبو العباس بن تيمية فقال: وفرض بعض الفقهاء المتأخرين مسألةً وهي: أن الرجل إذا ترك الصلاة ثم عُرض على السيف وهُدد بالقتل فهل يقتل كافراً أم فاسقاً، على قولين، قال: وهذا ممتنع باطله، هذا كلام ابن تيمية ، يقول ابن القيم رحمه الله: والعجب ممن يقول فيمن عُرض عليه السيف ودُعي على رءوس الأشهاد وهو يرى بارقة السيف على رقبته ويقال له: صل وإلا قتلناك، فيأبى ثم يقتل فيقال إنه مسلم، ولهذا نقول: الأقرب أنه إن قُتل فهو قد قُتل كافراً.

حكم تارك الجمعة

قال المؤلف رحمه الله: (والجمعة كغيرها)، يعني: أن من ترك الجمعة متعمداً ولا يصليها إما جحوداً أو تهاوناً، كغيرها، وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى: هل من ترك صلاةً واحدةً يكفر أم لا؟

القول الأول: رواية عند الحنابلة وهو قول ابن مسعود و إسحاق و ابن حزم : إنه يكفر، والقول الآخر وهو قول عامة أهل العلم: إنه لا يكفر حتى يتركها الترك المطلق، ويفترض بعض طلاب العلم في المناظرات مسألة يقول: طيب متى يكفر لو ترك الظهر أو ترك العصر؟ العلماء ما يفرقون في هذا، العلماء يقولون: إنه كافر إذا تركها مطلقاً، هذا بينه وبين الله، أما إذا جاء إلى الإمام وقيل: إن فلاناً لم يصل ولم نره في المسجد، يأخذه الإمام ويقول: لماذا لا تصلي؟ يبين له، فإن قال: أنا أريد أن أصلي، ويصلي أحياناً الحمد لله! فإن أبى أقام عليه حد القتل الذي قلنا في استتابته، وعلى هذا فافتراض واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع، هذه مسألة مبنية على حكم تكفير المعين من غير استتابة الإمام، وهذه معروف رأي العلماء فيها.

أما الجمعة فإن كان قد جحدها فالحكم واحد، وأما تهاوناً فيبين له الإمام ويستتيبه فإن أبى أن يصلي، هدده بالعقوبة والقتل، فدعوة الإمام له دعوة تعزير لا دعوة استتابة.

إذاً الأول ترك الصلاة مطلقاً تهاوناً وكسلاً، فدعوة الإمام له استتابة، وأما الآخر فدعوته لو ترك الجمعة دعوته دعوة تعزير، مثل أن يُعزر من شرب الخمر وغيره.

قال المؤلف رحمه الله: (وكذا ترك ركن أو شرط) فمن ترك استقبال القبلة أو فعل الفواحش وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن الإمام يدعوه من باب التعزير والفعل لا من باب الاستتابة، لكنه إن أصر صار من باب الاستتابة.

التشهير بتارك الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها حتى يصلي) هذا الذي يسميه العلماء المعاصرون: التشهير، ولهذا الصلب نوع من التشهير، كذلك الإشاعة هنا نوع من التشهير، فيقال: إن فلاناً لا يصلي، أو توضع ورقة في المسجد أن فلاناً لا يصلي، وكذلك يعامل بالهجر فلا يُسلم عليه، ويقال للناس: لا تسلموا عليه، واهجروه واهجروا عزائمه وولائمه، وأفراحه وأتراحه، فالأول تشهير والثاني هجر، وكلا هذين الأمرين مبنيان على المصلحة، وعلى حسب الزمان والمكان وليس حكماً عاماً؛ لأنه إذا ضعُف الإسلام وقل المصلون فلا يقال: اهجروهم؛ لأنهم لا يبالون، فبلد لم يكن الإسلام قوياً ظاهراً فلا يقال فيه هذا الحكم؛ لأنه مدعاة إلى أن يتساهل الناس وتكون الأمة صفين، وتأليف القلوب في بعض الأوقات أوجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه الله في النار )، وعلى هذا فـأبو العباس بن تيمية يرى أن الهجر مصلحي وليس حكماً شرعي قضائياً، كذلك السلام عليه أو إجابة دعوته كل ذلك من باب المصلحة، ولهذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية ، ولم يهجر غيرهم مما يدل على أن الهجر مصلحي، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ ويصير مسلماً بالصلاة، ولا يكفر بترك غيرها من زكاة وصوم وحج تهاوناً وبخلاً ].

الآن هو يُخشى عليه الكفر فإن صلى صار مسلماً، يقول أبو العباس بن تيمية : فكل من امتنع من أداء شيء صار مسلماً بفعله ولا يلزم أن يتلفظ بالشهادتين؛ لأنه لم يجحدهما، وإن كان ترك الصلاة نوع خلل في معنى الشهادتين؛ لأن (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) يلزم منه الانقياد لما يؤمر.

الحكم بكفر من ترك غير الصلاة كالزكاة والصوم وغير ذلك

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يكفر بترك غيرها) الراجح والله أعلم أن الإنسان لا يكفر بغير ترك الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة )، فهذا دليل على أن غير الصلاة ليس كحكم الصلاة، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و النسائي وغيرهما من حديث بريدة ، وكذلك قول عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، فمن ترك الصيام أو الحج فإنه لا يكفر، وهذا قول عامة أهل العلم، إلا أن الخلاف في الزكاة أقوى من حيث كفر تاركها أو عدم كفره، وذلك لأن الزكاة قرينة الصلاة، قال ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث لا يقبل الله من ترك واحدة إلا بأن يفعل الثانية، ثم ذكر منهم: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، قال: فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه وهذا الحديث رواه ابن جرير الطبري وهو قول ابن مسعود .

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم، أن الزكاة لا يكفر بتركها؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنم فيُكوى بها جبينه وجنبيه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )، دليل على أنه لو كان كافراً لما كان تحت المشيئة إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهذا القول قوي، وأما دعوى أن عطاء بن يزيد تفرد به فهذا ليس بوجيه؛ لأن بعض المشايخ المعاصرين علل هذا الحديث بأن البخاري لم يروه، وهذا ليس دليلاً على الصحة أو على الضعف، والراجح والله أعلم أن حديث عطاء بن يزيد صحيح، وليس ترك البخاري للحديث دلالة على ضعفه؛ لأن البخاري لم يشترط في صحيحه أن يذكر كل حديث صحيح، فإذا صح الحديث فهو حجة بذاته والله أعلم.

إذاً: قلنا: إن تارك الزكاة لا يكفر؛ لحديث: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة )، ولحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مانعي الزكاة: ( إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا )، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها منه وزيادة، عقوبة على ذلك، ولم يحكم عليه الصلاة والسلام بكفره. أما لو منعوا أداء الزكاة أو أداء الصوم وصاروا ذا شوكة وقاتلوا لأجل منعها تهاوناً وكسلاً، فإن الراجح والله أعلم أنه يجب على ولي أمر المسلمين أن يقاتلهم، فإن قاتلوا الإمام فإنهم يكفرون بمجرد المقاتلة؛ لأنه صار تركهم لها جحوداً.

وقد قسمهم أبو العباس بن تيمية في المجلد السابع ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قوم ارتدوا فهؤلاء كفار.

القسم الثاني: قوم جحدوا الزكاة، وهؤلاء كفار [ بالإجماع ].

القسم الثالث: وقوم منعوها تهاوناً وكسلاً، فهؤلاء لا يكفرون بمجرد التهاون والترك، لكن إن قاتلونا لأجل منعهم الزكاة تهاوناً وكسلاً فبمجرد المقاتلة أصبحوا كفاراً، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وإلا ضُربت عنقهما) هذا قول عامة أهل العلم على أن من ترك الصلاة فإنه يُقتل، والسؤال: هل يقتل حداً أم كفراً؟

الشافعية يرون أنه يقتل حداً، وهذا الذي عناه أبو العباس بن تيمية فقال: وفرض بعض الفقهاء المتأخرين مسألةً وهي: أن الرجل إذا ترك الصلاة ثم عُرض على السيف وهُدد بالقتل فهل يقتل كافراً أم فاسقاً، على قولين، قال: وهذا ممتنع باطله، هذا كلام ابن تيمية ، يقول ابن القيم رحمه الله: والعجب ممن يقول فيمن عُرض عليه السيف ودُعي على رءوس الأشهاد وهو يرى بارقة السيف على رقبته ويقال له: صل وإلا قتلناك، فيأبى ثم يقتل فيقال إنه مسلم، ولهذا نقول: الأقرب أنه إن قُتل فهو قد قُتل كافراً.