الروض المربع - كتاب الطهارة [16]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

المسائل التي سوف نطرحها تتعلق كثيراً من حيث القول الراجح من عدمه على صحة الحديث, وصحة الحديث لا بد فيها من بيان علته, وأحياناً طالب العلم لو قيل له: إن الحديث صحيح، أو إن الحديث ضعيف، ربما بعد زمن يجد أن هذا الكلام لا يكفي, فمثلاً ربما نذكر حديثاً أكثر الناس الآن يتداولونه على أنه صحيح, لكن الإنسان ربما يجد له علة، ربما ذكرها الإمام أحمد في ترجمة من التراجم، لم تكن مشهورة في الكتب، فإذا قال: إن الحديث فيه ضعف؛ لأن فيه انقطاعاً، ودون ذلك في كتاب، ربما بعد زمن يعلم أن ما قيل عنه صحيح ربما يكون فيه علة ولو لم يكن إلا أن يبحث، فيعلم أن ما قيل صحيح أو أن ما قيل خطأ، في ذلك نفع.

ومسألة الحديث والفقه أنا أقول: ليس بينهما انفصال ولا انفصام، بل هما سيان، وطالب العلم الذي يكون فقيهاً لا بد أن يكون محدثاً، والذي يكون محدثاً لا بد أن يكون فقيهاً؛ ولهذا يا إخوان تحملوا في مسألة بيان علة الحديث، فإن بعضهم أراه أحياناً ما يحب هذا, فأقول:

دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار

لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار

ولربما نسي الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوار

فالحديث لا بد منه لطالب العلم وللفقيه، وإنه لمن الشين أن يكون فقيهاً ويقلد عالماً في الحديث, أو أن يكون محدثاً ويقلد عالماً في الفقه, لكنه إذا كان قد جمع هاتين البضاعتين صار قوله حجة، كما هو معلوم عند أئمة الشأن.

وأذكر أني عندما كنت صغيراً ذهبت إلى درس من دروس بعض مشايخنا، ولم أكن بعد أعي علم الحديث، فلما ذكر حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ), قال: الحديث أخرجه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن أبي شيبة ، فكنت أول مرة أسمع هذه الأسماء المعجمة، فأحببت هذه النغمة, فمن يومها بدأت أحب علم الحديث.

وأنا أقول: ما يجري للإنسان إذا قلت له: أخرجه ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: أيش صالح مولى التوأمة ؟ ابن أبي ذئب ؟ وبعد ذلك يحب الحديث، ورب كلمة لا يلقي الإنسان لها بالاً، ربما تقع في قلب أحدكم فيكون إماماً يقتدى به في علم الحديث وعلم الفقه.

وإذا قلت: وهذه القاعدة مبنية على أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، فأحب علم القواعد الفقهية، وهلم جراً.

فأقول: أيها الإخوة! تحملوا بعض الشيء، ففي طلب العلم خير عظيم إن شاء الله، وجزاكم الله خيراً.

غسل الميت

قال المؤلف رحمه الله: [ وينقض غسل ميت مسلماً كان أو كافراً, ذكراً كان أو أنثى, صغيراً كان أو كبيراً, لما روي عن ابن عمر و ابن عباس : أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء, والغاسل هو من يقلبه ويباشره ولو مرة, لا من يصب عليه الماء، ولا من ييممه، وهذا هو السادس ].

المؤلف رحمه الله ذكر الناقض السادس من نواقض الوضوء، وهو غسل الميت, بأن يغسل الغاسل الميت, وهذا من مفردات الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ), وهذا الحديث لا يصح، وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله وابن المديني والإمام الذهلي إلى أنه لا يصح في الباب حديث مرفوع, كما أشار إلى ذلك عنهم الإمام الترمذي وغيره, وفي سند هذا الحديث صالح مولى التوأمة ، وهو لا يحتج به.

ومن الأدلة على ما ذهبوا إليه ما قاله المؤلف: [ روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء ]، وأثر ابن عمر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من طريق عبد الله بن عمر العمري , وهذا له أخ اسمه عبيد الله بن عمر العمري , فيقولون: عبد الله -المكبر- ضعيف، وعبيد الله -المصغر- ثقة, فهذا فرق بينهما، هما أخوان، لكن الصغير الذي اسمه مصغر أوثق من الأكبر الذي اسمه مكبر, فالأثر هو عن عبد الله العمري -المكبر- عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا غسلت الميت فأصابك منه شيء -أو قال: فأصابك منه أذى- فاغتسل، وإلا إنما يكفيك الوضوء، وهذا الأثر ضعيف.

وأصح منه ما روي عن ابن عمر وهو خلافه, فقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر أغتسل من الميت؟ قال: أمؤمن هو؟ قلت: أرجو, قال: فتمسح من المؤمن ولا تغتسل منه, وهذا دليل على أن ابن عمر لا يرى الوضوء من غسل الميت.

إذاً: ما قاله المؤلف رحمه الله مما روي عن ابن عمر الصحيح خلاف ما ذكر, وأما ما روي عنه بالوضوء فهو ضعيف.

أما أثر ابن عباس فقد أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح، أنه سئل: أعلى من غسل ميتاً غسل؟ قال: لا, قد إذاً نجسوا صاحبكم، ولكن وضوء.

وذهب جمهور الفقهاء رحمهم الله إلى خلاف ذلك من حنفية وشافعية ومالكية، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله وابن قدامة ، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد : أن غسل الميت لا ينقض الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الطهارة بيقين، ولا نخرج من اليقين إلا بيقين, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن المؤمن لا ينجس ), فإذا غسل الحي الحي فلا ينقض وضوءه، فكذلك إذا غسل الحي الميت فلا ينتقض وضوءه ما لم يمس العورة كما مر معنا.

ابن تيمية رحمه الله يقول: يحمل على الاستحباب، أقول: لو توضأ فحسن, أما سنة فالمسألة تحتاج إلى ثبوت، وقد اختلف الصحابة فيه، وقد روى الخطيب البغدادي من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل, وهذا يدل على أنه ليس فيه كبير شيء, وأما ابن تيمية فيرى أنه مستحب، ولكن لم يكن هناك شيء مرفوع يمكن أن يستند إليه، وهنا نقول: كل ما ثبت عن الصحابة ففعل المسلم ذلك اقتداء فحسن إذا كان له وجه.

أكل لحم الجزور

قال المؤلف رحمه الله: [ والسابع أكل اللحم خاصةً من الجزور أي الإبل, ولا ينقض بقية أجزائها كالكبد، وشرب لبنها ومرق لحمها، سواءً كان نيئاً أو مطبوخا ].

المؤلف رحمه الله يقول: الناقض السابع أكل لحم الجزور خاصة, فلا يدخل غير اللحم, فلا يدخل أجزاء الجزور كالقلب، والطحال، والمصران، والكرش، والكلية، وأجزاء الجزور, يقولون: لأن هذا غير داخل في مسمى اللحم، ولا يتناوله اللفظ, واللفظ هو ( توضئوا من لحوم الإبل ), وهذا القول هو الرواية المشهورة عند الحنابلة, والرواية الأخرى أن أكل لحم الجزور عام في اللحم الأحمر وغيره، كالكبد والطحال والشحم والمصران، ونحو ذلك؛ لأنه داخل في حكمها ولفظها ومعناها, ولا نعلم في الشريعة الإسلامية حيواناً يختلف حكمه بالنسبة لأجزائه, فالحيوان إما حلال وإما حرام, وإما أكله موجب للوضوء وإما غير موجب للوضوء, ولهذا أجمع العلماء رحمهم الله على أن شحم الخنزير محرم لعموم تحريم أكل لحم الخنزير.

وأرى أن هذا القول قوي إلا أن شرب المرق إذا لم يحصل فيه أكل لحم ولو صغر غير داخل؛ لأن الحكم في الأكل وليس في الشرب, فمرق لحم الجزور لا ينقض الوضوء إذا تيقنا عدم أكل شيء من اللحم ولو كان مفروماً؛ لأن الحديث لا يتناوله, وأما لبن الجزور فقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( توضئوا من ألبانها ), والحديث رواه أسيد بن حضير ، وهو حديث ضعيف، في سنده الحجاج بن أرطأة ، وهو ضعيف ومدلس.

وعلى هذا فالصحيح أن شرب لبن الجزور لا ينقض الوضوء.

ومسألة لحم الجزور أنه ينقض هو مذهب الحنابلة رحمهم الله خلافاً للأئمة الثلاثة, وقد علق الإمام الشافعي رحمه الله القول به على صحة حديث جابر و البراء , والبيهقي نسب هذا القول للإمام الشافعي وقال: إن أبا عبد الله الشافعي يرى أنه إذا صح الحديث فهو مذهبه وقد صح الحديث بإذن الله، فيرى أنه مذهب الإمام الشافعي .

وابن تيمية رحمه الله يرى أن الوضوء على سبيل الاستحباب, والذي يظهر -والله أعلم- أن الوضوء تعبدي حيث فيه معنى الحكمة، (أن الإبل من الشياطين, أرأيتم إلى هبوبها ونفورها إذا نفرت) كما جاء في الأثر, وفي رواية: (أنها خلقت من الجن), وعلى هذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن لحم الجزور ناقض للوضوء، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: فيه حديثا البراء بن عازب وجابر بن سمرة, وحديث جابر بن سمرة اتفق الحفاظ على تصحيحه، كما نقل ذلك ابن خزيمة و البيهقي وغيرهما, ولهذا ما يذكر ويتداول عند البعض من طلاب العلم أن الحديث ضعيف لا وجه له, ولو قيل إنه مستحب أو أولى أهون من أن يقال: ضعيف، وكون البخاري لم يروه ليس دليلاً على ضعفه، ولم أعلم أحداً من المتقدمين ضعف الحديث لأن الإمام البخاري لم يروه.

كل ما أوجب الغسل

قال المؤلف رحمه الله: [ والثامن المشار إليه بقوله: كل ما أوجب غسلاً كإسلام وانتقال مني ونحوهما أوجب وضوءً إلا الموت ].

يقول المؤلف رحمه الله في الناقض الثامن: (كل ما أوجب غسلاً فإنه يوجب الوضوء), يعني أن خروج الحيض موجب للغسل، فإذا أرادت المرأة أن تغتسل فلا بد أن تنوي الحدث الأكبر والحدث الأصغر, وانتقال المني من الصلب موجب للغسل، وهذا بناءً على المذهب عند الحنابلة، فلو أن إنساناً أحس بانتقال المني ولكنه أمسك فلم يخرج منه شيء، فالمذهب أن انتقاله والإحساس بخروجه ناقض للوضوء وموجب للغسل, يقولون لأن الله يقول: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، والجنب في اللغة: هو البعد, فانتقال الماء من مكانه الأصلي يجعل صاحبه جنباً, هذا المذهب.

والرواية الثانية عند الحنابلة، واختارها ابن قدامة وغيره: أن انتقال المني لا يوجب الغسل إلا إذا خرج للحديث المتفق عليه: ( إنما الماء من الماء ), فعلق الغسل على الخروج، وهذا القول أظهر، والله أعلم.

ولكنه لو فترت شهوته فخرج المني بعد ذلك ولو مع البول وجب عليه أن يغتسل؛ لأنه حينئذ يكون خروجه من موجب شهوته السابقة كما قال أصحاب هذا القول.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوء؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى، أو أمر، أو أشار إلى ذلك, نعم توضأ عليه الصلاة والسلام، ولكنه جوز عدم الوضوء كما قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].

وفي الحديث المتفق عليه من حديث عمران بن الحصين (أن رجلاً أصابته جنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا فلان! ما منعك ألا تصلي معنا؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: إنما يكفيك الصعيد, فلما جيء بالماء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فأفرغه عليك ), ولم يأمره بالوضوء, فدل ذلك على أنه ليس كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً, هذا الذي يظهر والله أعلم, وإن كان يستحب له الوضوء من باب رفع حدث الأعضاء بترتيب الوضوء.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2629 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2587 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2546 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2543 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2522 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2451 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2386 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2373 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2357 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2355 استماع