أرشيف المقالات

رد الغيور على من قال بجواز التضحية بالطيور

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
رد الغيور على من قال بجواز التضحية بالطيور
 
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا تعجب إن علمت أن هناك مذهبًا يُفتي بجواز التضحية بالطيور بالفعل! ولا أعلم مَن قال به من المتقدمين أقدم من ابن حزم رحمه الله؛ إذ قال في المحلى 6/ 29-30: "وَالْأُضْحِيَّةُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ ذِي أَرْبَعٍ، أَوْ طَائِرٍ، كَالْفَرَسِ، وَالْإِبِلِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالدِّيكِ، وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْحَلَالِ أَكْلُهُ، وَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا طَابَ لَحْمُهُ وَكَثُرَ وَغَلَا ثَمَنُهُ"؛ انتهى.
 
وبداية يمكن أن نقول بكل ثقة: إنه مذهب لم يثبت فيه أمر من كتاب الله، ولا ثبت فيه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن أكابر الصحابة والتابعين شيء، ومعلوم أن العبادات توقيفية، لا يُتعبَّد ولا يُتقرَّب بها إلى الله إلا بما ثبت منها في كتاب الله أو سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
إذًا، ما الذي استند عليه القائلون بذلك؟
والجواب: أن أصحَّ ما ورد فيه أثر بلال عند عبدالرزاق (8156): "عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ بِلالًا، يَقُولُ: مَا أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْتُ بِدِيكٍ، وَلأَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا عَلَى يَتِيمٍ أَوْ مُغَبَّرٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَا"، قَالَ (يعني عمران بن مسلم غالبًا): فَلا أَدْرِي أَسُوَيْدٌ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ بِلالٍ؛ انتهى.
يقصد عمران قول: "ولأن أتصدق بثمنها...إلخ" هل هو من قول بلال أو من قول سويد.
 
وهذا إسناد حسن لا بأس به، وقول بلال رضي الله عنه فيه إنما هو اجتهاده، وليس اجتهاد الصحابي حُجَّةً على السنة، وإن كان من أكابر الصحابة الفقهاء، هذا إن قلنا إن قصد بلال رضي الله عنه هو التضحية بالديك؛ لكن لهذا الأثر توجيه آخر نذكره بعد قليل! وكذلك ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أثر فيه: "قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمينِ، أشتري له بهما لحمًا، وقال: من لقيت، فقل هذه أضحية ابن عباس"، وهذا ذكره ابن عبدالبر في تمهيده، والشافعي في الأم، وابن حزم في مُحَلَّاه، ولم أقف له على إسناد إلا ما ذكره ابن حزم أنه من طريق وكيع، عن أبي معشر المديني، عن عبدالله بن عمير مولى ابن عباس، عن عكرمة به، وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي معشر، وعدم شهرة ابن عمير في الرواية عن ابن عباس الفقه، وإن أخرج له مسلم، وهو كذلك عند عبدالرزاق في المصنف من طريق الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ رَجُلٍ مَوْلًى لابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: قُلْ: هَذِهِ ضَحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ".
 
وأخرج عبدالرزاق هذا الأثر وكذلك أثر بلال قبله ومثلهما عن جَمْع من التابعين والصحابة ليبين حكم عدم وجوب الأضحية ومن قال بذلك، ولم يفهم عبدالرزاق الصنعاني وهو أعلم بالرواية من ابن حزم قطعًا أن هذا معناه جواز التضحية بالديك! ولذلك قال ابن عبدالبر في الاستذكار يبين علة هذا الفعل: "ومعلوم أن ابن عباس إنما قصد بقوله، أن الضحية ليست بواجبة، وأن اللحم الذي ابتاعه بدرهمين أغناه عن الأضحى، إعلامًا منه بأن الضحية غير واجبة ولا لازمة، وكذلك معنى الخبر عن بلال لو صحَّ، وبالله التوفيق"؛ انتهى.
 
وقال في التمهيد 19/ 23: "وروى الشعبي، عَنْ أبي سريحة الغفاري، قَالَ: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان، وقَالَ ابْن عُمَر في الضحية: ليست بحَتْم ولكنها سنة ومعروف، وقَالَ أبو مسعود الأنصاري: إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أَنَّها حَتْم عليَّ، وقَالَ عكرمة: كان ابْن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحمًا، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابْن عباس، وهذا أيضًا محمله عند أهل العلم لئلا يعتقد فيها للمواظبة عليها أَنَّها واجبة فرضًا، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم؛ لأَنَّهُم الواسطة بين النَّبِيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم، والأصل في هَذَا الباب أن الضحية سنة مؤكدة؛ لأن رَسُول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فعَلَها وواظب عليها، أو ندب أمته إليها، وحسبك أن من فقهاء المسلمين من يراها فرضًا لأمر رَسُول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم المضحي قبل وقتها بإعادتها، وقد بيَّنَّا ما في ذلك، والحمد لله"؛ انتهى.
 
فهذا قصد ابن عباس- ولعله قصد بلال أيضًا لأنه قال: "ولأن أتصدَّق بهما على يَتِيمٍ أَوْ مُغَبَّرٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَا"- وليس ما قصداه هو جواز ذلك، وأنه يغني عن الأضحية -لا- لم يفهم أحد من الفقهاء ذلك!
 
قال الشافعي في الأم: "وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمَا، لِيَظُنَّ مَنْ رَآهُمَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِدِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ: اشْتَرُوا بِهِمَا لَحْمًا، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ كَانَ قَلَّمَا يَمُرُّ بِهِ يَوْمٌ إلَّا نَحَرَ فِيهِ، أَوْ ذَبَحَ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"؛ انتهى.
 
يعني أن ابن عباس كان يُضحِّي تقريبًا يوميًّا- ولكنه لم يشأ أن يفهم الناس أن الأضحية يوم العيد واجبة، فعدل يوم العيد عن الأضحية واشترى لحمًا حتى يفهم الناس أن الأضحية غير واجبة، وهذا من جمال أفعال أهل العلم، أن يعملوا أعمالًا مخالفة لما يفعله الناس، حتى يفهم الناس أن أعمالهم ليست فريضة أو واجبة!
 
أما العجب من ابن حزم رحمه الله، فهو أن يستدل بجواز ذلك بحديث البخاري ومسلم: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ "
 
وهذا – كما هو بين - مثل ضربه رسول الله للمجتهد في الطاعة يوم الجمعة..
لا يدخل في "فقه" الأضحية يوم النحر -التي بيَّنها رسول الله بالقول والفعل- فسُنَّة النبي الفعلية والقولية الصريحة وما فهمه العرب من الصحابة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هي أن الأضحية لا تكون إلا بالإبل والغنم والبقر، وهذه هي الحجة على كل فَهْمٍ متأخِّر!
 
وإلا فليُفتي إذًا بجواز أن يخرج الرجل بالبيض بعد صلاة العيد ليوزعه على الناس! فالبيضة في حديث أبي هريرة السالف المذكور أيضًا! وما أبعد ذلك عن الأفهام!
 
فكل جدال ابن حزم في مُحلَّاه إنما هو استدلال بأثر بلال، وقد بينَّا ما فيه، والعجب منه أيضًا أنه ترك سنة رسول الله الفعلية والقولية الكثيرة، ومعنى بهيمة النعام عند العرب، وأصرَّ على فهمه، وأصرَّ على أثر بلال، فسبحان الله العظيم!
 
والنتيجة:
أن السنة هي المبينة والمصدقة لقول ربنا سبحانه: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 27، 28].
 
فالنحر في أيام الحج المقصود به نحر بهيمة الأنعام، والنعم عند العرب اسم للإبل والبقر والغنم دون ما سواها، وأما بهائمها فإنها أولادها، لا خلاف عندهم في ذلك، قال الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ [المائدة: 1]: وَأَمَّا النَّعَمُ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ: اسْمٌ لِلإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: 5]، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8]، فَفَصَلَ جِنْسَ النَّعَمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ، وَأَمَّا بَهَائِمُهَا فَإِنَّهَا أَوْلادُهَا؛ انتهى.
 
وقد قال الإمام النووي في المجموع: "نقل جماعة إجماع العلماء على أن التضحية لا تصحُّ إلا بالإبل أو البقر أو الغنم، فلا يجزئ شيء غير ذلك" وكذلك نقل ابن رشد الإجماع على ذلك إلا قولًا اعتبره شاذًّا عن الحسن بن صالح، وقد ذكره ابن حزم أيضًا، أنه قال بجواز التضحية ببقر الوحش والظبي، ولا يُلتفَت إليه.
 
وأختم الرد على هذا القول وعلى مَنِ اتَّبَعَه من السنة بهذا الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح لا أعلم له عِلَّة عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: "أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ عز وجل لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا أُضْحِيَّةً أُنْثَى، أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِكَ وَأَظْفَارِكَ وَتَقُصُّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَتِلْكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجلَّ".
 
فلم يُرخِّص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمن لا يجد ما اشترط عليهم من بهيمة النعم، أن يذبح غيرها من طير أو مما يؤكل من الحيوان كما زعم ابن حزم.
والاستدلال عليه من السنة يطول أمره، وهو بيِّن لمن علم سنة رسول الله في الذبح وشريطة ذلك من السن وعدم العيب، وفي ذلك كفاية لبيان أن الأضحية لا تجزئ إلا ببهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم.
 
هذا والله أعلم، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، والحمد لله ربِّ العالمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢