هموم فتاة ملتزمة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

هذا الدرس الثامن والأربعون من" الدروس العلمية العامة" في ليلة الإثنين 26/جمادى الأولى/ 1412للهجرة.

والعنوان" هموم ملتزمة".

من نعني بكلمة ملتزمة.

إننا نعني بها تلك الفتاة التي آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبياً ورسولاً، ورضيت بمنهج الله تعالى وشريعته ديناً ودرباً وطريقاً، فلم ترض بقوانين الشرق والغرب ولا تقاليدها، وإنما رضيت أن تكون أسوتها وقدوتها هن النسوة المؤمنات الصالحات من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة والتابعين.

فليست هي تلك الفتاة التي أخذت الدين تقليداً عن آبائها وأجدادها، وهي تشعر أنه عبءٌ ثقيل تتمنى أن تلقيه عن كاهلها صباحاً أو مساءً، ولا تلك الفتاة التي أخذت من دينها بظاهره، وغفلت عن باطنه وحقيقته، فإن الدين كلٌ، مظهر ومخبر، سلوك وعقيدة، ولا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يفرط ببعض الكتاب: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].

وهذه قصيدة للشاعر العشماوي في وصف بعض التناقض الموجود عند بعض البنات والنسوة، يقول:

هذي العيونُ وذلك القــدُّ     والشيحُ والريحـانُ والنـَّـدُّ

من أين جئتِ؟ أَأَنْجَبَتْكِ رؤىً      بيضٌ فأنتِ الزهـرُ والـوردُ

قالت وفي أجفانِها كَحَـــلٌ      يُغري وفـي كلماتهـا جِـدُّ

عربيــةٌ حُريتـي جَعَلَـتْ      مـني فتـاةً مالـهـا نـدُّ

أغشى بقاعَ الأرضِ ما سَنَحَتْ      لي فرصَـةٌ بالنفـس أعتـدُّ

عربيةٌ.. فسألتُ: مسلمــةٌ؟      قالت: نعم، ولخالقي الحمـدُ!

فسألتها والحزن يَعْصِـف بي      والنارُ في قلـبي لهــا وقْـدُ

من أين هذا الزِّيُّ ما عَرَفَـتْ      أرضُ الحجازِ ولا رأت نَجْـد?!

هـذا التبـذُّل يا محدّثــتي      سـهمٌ من الإلـحاد مرتَـدُّ!

فتـنمَّرَتْ ثم انْثَنَـتْ صَـلَفًا            ولسانُها لسِبابهـا عَبْــدُ

قالـت: أنا بالنـفسِ واثقـةٌ      حريَّتي دون الهــوى سـدُّ

فأجـبتُها والنـارُ تَلْفَحُـني:      أخشــى بأن يتناثَرَ العِقـدُ!

ضِـدَّانِ يا أُختاه ما اجتمعـا:      دينُ الهدى، والكفرُ والصَـدُّ

والله مـا أزْرى بأمتِـنــا      إلا ازدواجٌ ما لـه حـدٌّ!

وبين يدي الحديث يتساءل البعض من الإخوة عن مصادر هذه المادة التي سأقدمها لكم الآن، فأقول: بعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين بهما نسترشد ونستهدي في كل طرق الحياة، فمعظم هذه المادة من رسائل الأخوات، واستفساراتهن، وكتاباتهن إليًَّ، فلهن مني التحية والسلام والدعاء، فبدءًا من العنوان وهو (هموم ملتزمة) هو اقتراحٌ من إحدى الأخوات، ومرورًا بالموضوعات، وانتهاءً ببعض الأسئلة التي أحضرتها معي، وأرجو أن يكون ثمة وقت للإجابة عليها أو على بعضها، وقد حرصت أن يكون كل ذلك مما عملته أيديهن.

تقول إحداهن في مطلع اقتراحها للموضوع: إن الملتزمة بحاجةٍ ماسة إلى من يأخذ بيدها، ويطور لها التزامها، وبالذات مع شعورنا بأن هناك من الواعين من يعتقد أن تحجُّب الفتاة وتركها لمشاهدة التلفاز هو النقطة الأخيرة التي تقف عندها.. وليتهم يعلمون أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم! فهكذا تقول الأخت.

وإذا كنا نوافق أن كثيرًا من الناس يظنون أن الالتزام ينتهي عند حد الحجاب وترك مشاهدة التلفاز، مع أن الواقع أن المسلم أو المسلمة لايزالان في جهاد وترقٍّ إلى الموت، تصديقًا لقول الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

فالالتزام ليس مرحلة يتجاوزها الإنسان إلى غيرها.. كلا! وليس قضيةً ينتهي عندها المرء! بل إن الالتزام هو محاولة مستمرة تظل مع الفتى ومع الفتاة إلى الممات، حتى في ساعة الموت يجاهد الإنسان نفسه ويعبد ربه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. ومادام أن الروح في الجسد، ومادام أن النَّفس يتردد؛ فأمام الإنسان ألوان وألوان من المجاهدات والمصابرات والمدافعات؛ يحتاج الرجل إليها، وتحتاج المرأة إليها.

ولكننا لا نوافق تلك الأخت، على أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم، فإن كثيرًا من الأخوات الملتزمات يملكن-بحمد الله- قدرًا جيدًا من الفهم السليم، ويملكن عقولاً ناضجة، ويملكن مواهب قوية، نسأل الله لنا ولهن جميعًا الثبات.

أما العناوين فهي كالتالي:

أولاً: المرأة والالتزام.

ثانياً: من صفات الداعية.

ثالثاً: من مشكلات الدعوة النسائية.

رابعاً: عقبات في الطريق.

خامساً: موضوعات وكتب.

إن المرأة بطبيعتها أكثر تأثرًا بالخير والشر، وبما يحيط بها من الرجل؛ ولذلك نعرف خطر استغلال تلك الأجهزة العامة -أجهزة الزور المسماة بأجهزة الإعلام- في التخريب، وتأثير تلك الأجهزة في عقلية المرأة خاصة مع بقاء المرأة في المنـزل، ووجود الفراغ الذي تعيشه جزءاً من الوقت، فكثيرٌ من النساء تعتكف عند هذا الجهاز، ومنه تتناول ثقافتها وعلمها، بل وحتى معلوماتها عن دينها، فهي إنما تتلقاها بواسطة هذا الجهاز من خلال بعض الأقوال، وبعض الآراء، وبعض الأطروحات، وبعض الأمور التي تقدم لها.

إن من الواجب: أن تُستخدم الوسائل العلنية العامة في مخاطبة النساء كالشريط، والكتاب، والمحاضرة المتخصصة.. بل والمدرسة والجامعة، حتى أقول: والسوق، وكلَّ وسيلة متاحة مباحة، فإنه ينبغي أن يستخدمها الدعاة إلى الله تعالى في الوصول إلى عقول النساء، وقلوبهن، ومخاطبتهن بآيات الله تعالى والحكمة.

أساليب المستغربات

أيها الأحبة.. أيتها الأخوات..

كانت رموز الوطنية والتحرر والثقافة- زعموا- في معظم البلاد العربية، أمثال: هدى شعراوي، وأمينة السعيد، ونوال السعداوي... والقائمة المعروفة، رموزاً في نظرهم يطبل لها الإعلام، وتتكلم عنها الصحافة، ويعتبرن رائدات في مجالهن.

أما في بلاد الجزيرة بالذات، فلا تزال المستغربات في العقل والشعور موضع ازدراء وسخرية من المجتمع- بحمد الله تعالى- فهن يكتبن في صحافتنا بكل تأكيد، ولكن على استحياء، وبشيء من الغموض!

فإذا أرادت إحداهنَّ نقد الدين؛ عبرت بالطقوس، والتقاليد البالية، والسراب، ومخلفات القرون السابقة، ولكنها لا تستطيع أن تتكلَّم عن الدين هكذا صراحًا بواحًا.

وإذا أرادت نقد العلماء والدعاة؛ عبّرت عنهم بالمتطرفين والأصوليين، وأصحاب العنف وضيق الأفق.. أو أبعدت النجعة؛ فعبَّرت بالكهانة والكهنة!!

وهنا يبرز مسئولية القادرات من أخواتنا وبناتنا، في وجوب وجود قيادات نسائية معروفة على كافة المستويات. فلابد أن يوجد في المدرسة قيادات، وفي نطاق التعليم قيادات، وعلى مستوى البلد قيادات؛ بل وعلى مستوى الإقليم قيادات.

وهذا وإن كان واجبًا في كل بلاد الإسلام، إلا أنه في هذه البلاد أيسر وأسهل، فلا يزال الميدان مكشوفًا مفتوحًا لمن أراد.

أهمية تعليم الفتاة الملتزمة

وبعض الإِخوة يَعتبون عليَّ، ويقولون: لماذا تحرض النساء على الاستمرار في الدراسة-مثلاً- أو على مواصلة العمل، وخاصة من المتدينات؟

والجواب: أقول لإخوتي وأخواتي: إننا في مجتمعٍ لا ننفرد نحن بصياغته وصناعته؛ بل هو مجتمعٌ فيه صناع كثيرون، ذوو عقول شتى، ومذاهب مختلفة، وآراءٍ متباينة؛ بل ونظرياتٍ واتجاهاتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- كما يقال- فإذا توقفت الملتزمة عند حدٍ معينٍ فغيرها لا يتوقف. ومعنى ذلك أننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة -مثلاً- أو ترك مجالات العمل والتأثير؛ فإننا سمحنا لكل الفئات، وكل الطبقات، وكل الاتجاهات التي لا تسمع لنا أصلاً- لها بأن تنمو وتتوغل وتتغلغل في المجتمع، ووضعنا سدًّا منيعًا أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم بشكلٍ جيدٍ في ضبط المسيرة، أو يساهم في تحجيم الشر والفساد، ولا أعتقد أن ثمة خدمةً يمكن أن نقدمها للعلمانيين بالمجان أكثر من هذه الخدمة، ولا توجد خدمة يمكن أن نقدمها لأصحاب النوايا السيئة وصرعى الشهوات أعظم من هذه الخدمة، وليس هناك أعظم من أن تصبح التجمعات النسائية بجامعاتها وبكلياتها ودراساتها ومعاهدها وندواتها وأعمالها خالية من الفتاة الملتزمة، التي ترفع راية الدين، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.

و أقل ما يمكن أن تقوم به تلك الملتزمة هو: أن تشعر المجتمع بما يجري داخل تلك المجتمعات النسائية، وما يكون وراء الكواليس، ووراء الستار.

إنَّ العلماء والدعاة-بل والعامَّة- أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: إنه يجري في أوساط النساء كيت، وكيت، وكيت، فأين دوركم؟ وما مجالكم؟ وأين هي أصواتكم؟ فإخبارهم بما يحصل ويحدث داخل تلك الأسوار هو أقل ما يجب.

ومع ذلك أقول أيها الإخوة وأيتها الأخوات: إنني أعتقد أن زمن الشكوى المجردة قد انتهى، أو كاد أن ينتهي، وأعني بذلك أن دور الخيرين والخيرات لا يجوز أبداً أن يتوقف عند مجرد رفع الشكاوى للجهات المختصة: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وأقول: إن هذا الدور الذي يقف عند مجرد الشكوى فقط.. قد انتهى، أو كاد أن ينتهي لأسبابٍ أهمها:

أولاً: إنه لو كان هناك إصرار من القمم على منع رياح التغيير والفساد لأحكموا غلق النوافذ، والمسئولون الصغار دائماً وأبداً يتلمسون مواقف الكبار، وردود فعلهم، ومدى حزمهم، أو تساهلهم، ولذلك يقال في النكت والطرائف: إذا أردت أن تعرف مدى قوة المسئول في بلدٍ؛ فانظر في سلوكِ البقال، فإذا صار بينك وبين البقال مشاجرة، فقلت له: إن فعلت وإلا رفعتك إلى مدير الشرطة، أو إلى المحافظ، أو إلى الأمير، فإن وجدته اضطرب وارتبك وخاف فاعرف أن هذا دليل القوة والعدل، وأن سيف الحق صارم، أما إن قال لك: ارفع وافعل ما شئت، وأمامك هيئة الأمم المتحدة، وأمامك وأمامك... فاعلم أن الأمر دليلٌ على التراخي.

ثانياً: ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحالٍ من الأحوال، فنحن -الآن- في عصرٍ صار للجماهير فيه تأثيرٌ كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صورة العُزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي، بعدما قام الإنقلاب الشيوعي الأخير الذي فشل، ما زالت صور أولئك العزل يتدافعون في وجوه الدبابات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف حتى استطاعوا، وهم لا يملكون ولا رصاصة واحدة أن يقفوا في وجه ذلك الانقلاب ويفشلوه، ما زالت هذه الصورة ماثلة للأذهان، وقد رآها العالم كله حيةً في شرقه وغربه.

فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ النمل:45] والإنقسام إلى حق وباطل، ومهتدٍ وضال، ومؤمنٍ وفاجر، هذا أمر لا خيار فيه، ولا حل له، ولا يعني أن هناك سعياً إلى تمزيق المجتمع، بل هو سعي إلى تسمية الأمور بأسمائها الحقيقة، ووضع الأمر في نصابه.

فإذا كان المجتمع منقسماً -وهذه حقيقة- فيجب أن يمارس الخيرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية. والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهون منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصةً إذا لم يكن معها غيرها. لكن يستطيع الأخيار أن يمارسوا دورهم كغيرهم.

فكما أن تلك الفتاة المنحرفة المشبعة بأفكار الغرب واتجاهاته، استطاعت أن تصل إلى موقع التأثير والمسئولية، وغيرت عقول بعض بناتنا وفتياتنا، وأثرت عليهن، فكذلك تستطيع الفتاة الطيبة الصالحة المهتدية أن تكون في الموقع نفسه، وليس هناك حواجز -بحمد الله- كبيرة تقفُ في وجهها، وإن وجدت حواجز فالتغلب عليها ممكنٌ، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم حيلةً توصله -بإذن الله تعالى- إلى ما يريد.

الأمر الثالث الذي يجعلني أقول: إن مجرد الشكوى لا يكفي: هو أن من غير الممكن اليوم أن نقول للناس: أغلقوا الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات النسائية، فإن هذا أمرٌ غير ممكن، وهو أيضاً غير مطلوب، فلا بد للناس من كل هذه الأمور، وهي مؤسساتٍ ارتبطت بحياة الناس -الآن- بدون شك، فلم يبق إلا أن يرسم لهذه المؤسسات والمدارس والمستشفيات الإطار الشرعي الصحيح، والشرعُ جاء ليضبطِ كل شيء، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الاسراء:12] ولم يبق إلا أن تشجع الفاضلات على إدارتها، أو على الأقل على المساهمة فيها، ومزاحمة الاتجاهات الأخرى غير المهتدية.

أيها الأحبة.. أيتها الأخوات..

كانت رموز الوطنية والتحرر والثقافة- زعموا- في معظم البلاد العربية، أمثال: هدى شعراوي، وأمينة السعيد، ونوال السعداوي... والقائمة المعروفة، رموزاً في نظرهم يطبل لها الإعلام، وتتكلم عنها الصحافة، ويعتبرن رائدات في مجالهن.

أما في بلاد الجزيرة بالذات، فلا تزال المستغربات في العقل والشعور موضع ازدراء وسخرية من المجتمع- بحمد الله تعالى- فهن يكتبن في صحافتنا بكل تأكيد، ولكن على استحياء، وبشيء من الغموض!

فإذا أرادت إحداهنَّ نقد الدين؛ عبرت بالطقوس، والتقاليد البالية، والسراب، ومخلفات القرون السابقة، ولكنها لا تستطيع أن تتكلَّم عن الدين هكذا صراحًا بواحًا.

وإذا أرادت نقد العلماء والدعاة؛ عبّرت عنهم بالمتطرفين والأصوليين، وأصحاب العنف وضيق الأفق.. أو أبعدت النجعة؛ فعبَّرت بالكهانة والكهنة!!

وهنا يبرز مسئولية القادرات من أخواتنا وبناتنا، في وجوب وجود قيادات نسائية معروفة على كافة المستويات. فلابد أن يوجد في المدرسة قيادات، وفي نطاق التعليم قيادات، وعلى مستوى البلد قيادات؛ بل وعلى مستوى الإقليم قيادات.

وهذا وإن كان واجبًا في كل بلاد الإسلام، إلا أنه في هذه البلاد أيسر وأسهل، فلا يزال الميدان مكشوفًا مفتوحًا لمن أراد.

وبعض الإِخوة يَعتبون عليَّ، ويقولون: لماذا تحرض النساء على الاستمرار في الدراسة-مثلاً- أو على مواصلة العمل، وخاصة من المتدينات؟

والجواب: أقول لإخوتي وأخواتي: إننا في مجتمعٍ لا ننفرد نحن بصياغته وصناعته؛ بل هو مجتمعٌ فيه صناع كثيرون، ذوو عقول شتى، ومذاهب مختلفة، وآراءٍ متباينة؛ بل ونظرياتٍ واتجاهاتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- كما يقال- فإذا توقفت الملتزمة عند حدٍ معينٍ فغيرها لا يتوقف. ومعنى ذلك أننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة -مثلاً- أو ترك مجالات العمل والتأثير؛ فإننا سمحنا لكل الفئات، وكل الطبقات، وكل الاتجاهات التي لا تسمع لنا أصلاً- لها بأن تنمو وتتوغل وتتغلغل في المجتمع، ووضعنا سدًّا منيعًا أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم بشكلٍ جيدٍ في ضبط المسيرة، أو يساهم في تحجيم الشر والفساد، ولا أعتقد أن ثمة خدمةً يمكن أن نقدمها للعلمانيين بالمجان أكثر من هذه الخدمة، ولا توجد خدمة يمكن أن نقدمها لأصحاب النوايا السيئة وصرعى الشهوات أعظم من هذه الخدمة، وليس هناك أعظم من أن تصبح التجمعات النسائية بجامعاتها وبكلياتها ودراساتها ومعاهدها وندواتها وأعمالها خالية من الفتاة الملتزمة، التي ترفع راية الدين، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.

و أقل ما يمكن أن تقوم به تلك الملتزمة هو: أن تشعر المجتمع بما يجري داخل تلك المجتمعات النسائية، وما يكون وراء الكواليس، ووراء الستار.

إنَّ العلماء والدعاة-بل والعامَّة- أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: إنه يجري في أوساط النساء كيت، وكيت، وكيت، فأين دوركم؟ وما مجالكم؟ وأين هي أصواتكم؟ فإخبارهم بما يحصل ويحدث داخل تلك الأسوار هو أقل ما يجب.

ومع ذلك أقول أيها الإخوة وأيتها الأخوات: إنني أعتقد أن زمن الشكوى المجردة قد انتهى، أو كاد أن ينتهي، وأعني بذلك أن دور الخيرين والخيرات لا يجوز أبداً أن يتوقف عند مجرد رفع الشكاوى للجهات المختصة: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وأقول: إن هذا الدور الذي يقف عند مجرد الشكوى فقط.. قد انتهى، أو كاد أن ينتهي لأسبابٍ أهمها:

أولاً: إنه لو كان هناك إصرار من القمم على منع رياح التغيير والفساد لأحكموا غلق النوافذ، والمسئولون الصغار دائماً وأبداً يتلمسون مواقف الكبار، وردود فعلهم، ومدى حزمهم، أو تساهلهم، ولذلك يقال في النكت والطرائف: إذا أردت أن تعرف مدى قوة المسئول في بلدٍ؛ فانظر في سلوكِ البقال، فإذا صار بينك وبين البقال مشاجرة، فقلت له: إن فعلت وإلا رفعتك إلى مدير الشرطة، أو إلى المحافظ، أو إلى الأمير، فإن وجدته اضطرب وارتبك وخاف فاعرف أن هذا دليل القوة والعدل، وأن سيف الحق صارم، أما إن قال لك: ارفع وافعل ما شئت، وأمامك هيئة الأمم المتحدة، وأمامك وأمامك... فاعلم أن الأمر دليلٌ على التراخي.

ثانياً: ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحالٍ من الأحوال، فنحن -الآن- في عصرٍ صار للجماهير فيه تأثيرٌ كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صورة العُزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي، بعدما قام الإنقلاب الشيوعي الأخير الذي فشل، ما زالت صور أولئك العزل يتدافعون في وجوه الدبابات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف حتى استطاعوا، وهم لا يملكون ولا رصاصة واحدة أن يقفوا في وجه ذلك الانقلاب ويفشلوه، ما زالت هذه الصورة ماثلة للأذهان، وقد رآها العالم كله حيةً في شرقه وغربه.

فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ النمل:45] والإنقسام إلى حق وباطل، ومهتدٍ وضال، ومؤمنٍ وفاجر، هذا أمر لا خيار فيه، ولا حل له، ولا يعني أن هناك سعياً إلى تمزيق المجتمع، بل هو سعي إلى تسمية الأمور بأسمائها الحقيقة، ووضع الأمر في نصابه.

فإذا كان المجتمع منقسماً -وهذه حقيقة- فيجب أن يمارس الخيرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية. والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهون منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصةً إذا لم يكن معها غيرها. لكن يستطيع الأخيار أن يمارسوا دورهم كغيرهم.

فكما أن تلك الفتاة المنحرفة المشبعة بأفكار الغرب واتجاهاته، استطاعت أن تصل إلى موقع التأثير والمسئولية، وغيرت عقول بعض بناتنا وفتياتنا، وأثرت عليهن، فكذلك تستطيع الفتاة الطيبة الصالحة المهتدية أن تكون في الموقع نفسه، وليس هناك حواجز -بحمد الله- كبيرة تقفُ في وجهها، وإن وجدت حواجز فالتغلب عليها ممكنٌ، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم حيلةً توصله -بإذن الله تعالى- إلى ما يريد.

الأمر الثالث الذي يجعلني أقول: إن مجرد الشكوى لا يكفي: هو أن من غير الممكن اليوم أن نقول للناس: أغلقوا الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات النسائية، فإن هذا أمرٌ غير ممكن، وهو أيضاً غير مطلوب، فلا بد للناس من كل هذه الأمور، وهي مؤسساتٍ ارتبطت بحياة الناس -الآن- بدون شك، فلم يبق إلا أن يرسم لهذه المؤسسات والمدارس والمستشفيات الإطار الشرعي الصحيح، والشرعُ جاء ليضبطِ كل شيء، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الاسراء:12] ولم يبق إلا أن تشجع الفاضلات على إدارتها، أو على الأقل على المساهمة فيها، ومزاحمة الاتجاهات الأخرى غير المهتدية.

إذا كنّا نتحدث عن الفتاة الملتزمة، فإنني أكاد لا أتصور أن امرأةً، أو رجلاً ملتزمًا، يمكن أن يكون غير داعية- في مثل هذه الظروف الواقعة الآن- لأن من الالتزام أن يدعو الإنسان.

ومعنى كون المرأة ملتزمة: أنها مطيعة لربها، يقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] إذاً فأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ هو جزءٌ من التزامها، وقيامها بالدعوة إلى الله تعالى هو جزءٌ من التزامها، لأن الله تعالى يقول: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] إذاً فقيامها بواجبها، وقيامها بالدعوة إلى الله، وقيامها بالإصلاح، وقيامها بالأمر والنهي هو جزءٌ من التزامها.

وقد أثبتت الأحداث والتجارب الكثيرة، أن هذه الأمة -رجالاً ونساء- لديها قدرة على قبول الحق؛ بل لديها رغبة في سماع الحق والتزامه.. إذاً لا عذر لرجل منا -أو امرأةٍ- أن يقول: أنا ملتزمٌ ولكني غير داعية... أبداً! وهذا الكلام يجب أن ينتهي؛ لأن كل ملتزمٍ هو داعيةٌ بالفطرة، لأن التزامه يعني أنه مطيع، والذي أمره بالصلاة هو الذي أمره بالدعوة، وهو الذي أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن أن نفرق بين هذا وذاك بحالٍ من الأحوال، ولذلك ستجدون -وستجدن أيتها الأخوات- أن حديثي ينصب علىالملتزمة الواعية الداعية، باعتبار أنها هي المخاطبة أصالةً بهذا الموضوع، ولا شك أن كل صفةٍ نتصورها في الرجل الداعي.. هي أيضاً مطلوبة في المرأة.

الصفة الأولى: العلم بما تدعو إليه

فمثلاً: العلم بما تدعو إليه، وهذا يعتبر من الواجبات، فلا يمكن أن تدعو إلى شيءٍ وهي لا تعلم: هل هو من الشرع، أم ليس من الشرع، وهل هو من العادات أم من العبادات؟ وهل هو من الأمور الدينية أو من التقاليد الاجتماعية الموروثة مثلاً.

والشرع واضحٌ بحمد الله، إما آية محكمة، أو سنة ماضية، أو إجماعٌ قائم، أو قولُ معروف مبني على اجتهاد صحيح واضح كالشمس، فلا بد أن تعرف المرأة المسلمة الأمر الذي تدعو إليه بدليله، بحيث إذا قال لها أحد: ما الدليل؟ أو لماذا؟ استطاعت أن تجيب على ذلك.

الصفة الثانية: القدوة الحسنة

ثم يأتي دور القدوة ومن قبل قال شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتنْدَلِقُ أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه}.

إذاً من الخطورة بمكان أن يتكلم الإنسان بلسانه، ثم يكذب ذلك بأفعاله.

يا واعظَ الناس قد أصبحتَ متَّهمًا     إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها

أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهدًا     والموبقات- لَعَمري- أنت جانيها

والرجل والمرأة في هذا الحديث سواء، وإنما ذكر الرجل على سبيل التغليب، وإلا فالحكم واحد، والطبيعة واحدة، وما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليلٍ يخرجها منه.

يا أيها الرجلُ المعلمُ غــيرَه     هلَّا لنفسِك كـان ذا التعليمُ

تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضَّنى     كيما يصـح بـه وأنت سقيم
ابدأ بنفسـك فانهها عن غيِّهـا فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يُقبل إن وعظت ويقتدى     بالقول منك وينفـع التعـليمُ

لا تَنْهَ عن خلقٍ وتـأتي مثلـه     عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيــمُ

فالتربية والدعوة بالسلوك -أحياناً- أحسن من ألف محاضرة، وسلوك امرأةٍ بين زميلاتها في حسن خلقها وأدبها، ومظهرها ومخبرها، وطيب حديثها، والتزامها بشريعة ربها، وصلاحها؛ أعتقد أنه أفضل من كثيرٍ من الكلمات والمحاضرات التي نبدئ فيها ونعيد، ونردد الكلام، وقد لا يسمعه الكثيرون.

فكثيرٌ من الأخوات وكثير من البنات تقول: أنا ليس عندي رغبة في سماع الأشرطة الدينية؛ وهذا كثيراً ما يقع، لكن لو وجدت أمامها نموذجًا حيًّا، وصورةً حيةً من فتاةٍ ملتزمةٍ متدينةٍ، فأعجبتها؛ أعتقد أنها هنا لاتحتاج إلى أن تسمع شريطًا أو لا تسمع؛ فالحق واضحٌ، ولا يحتاج إلى صعوباتٍ في من يريده.

فلابدّ من القدوة الحسنة، وأن تكون الأخت الداعية قدوةً حسنةً في عبادتها، وسلوكها، ومخبرها، وقلبها، وعقيدتها، وأخلاقها، وطيبتها، ومظهرها أيضًا: في شكلها وثيابها وفي شعرها وثيابها ومشيتها، وفي حركاتها، في أعمالها وأقوالها، وكل شيء، وأضرب لكَ ولكِ مثلاً على ذلك:

المرأة الداعية القدوة، التي تظهرٍ بمظهر لا يليق بمثلها؛ كأن تلبس مثلاً عباءةً لامعةً مطرزة، أو تلبس كابًا مطرزًا هو زينة بنفسه، أو تضعه على كتفها، أو تظهر زينتها للأجانب، أو تكون مولعة بمتابعة الموضات والتسريحات أولاً بأول.

إن هذا المظهر حين تتحدث وتدعو -لا نقول: إنه يجب عليها أن تسكت إذا كانت هكذا، لا! فهي مطالبة بالدعوة كما قلنا منذ قليل- فإنها تكون بهذا العمل الذي عملته قد سنت للأخريات سنةً يقلدنها فيها، إما عن حسن ظن بأن هذا العمل الذي فعلته لا شيء فيه، والدليل أن فلانةً فعلته، أو سيقولون: إن هذه المرأة لا تستحق أن يسمع لها، لأنها تناقض قولها بفعلها، بل أقول: لا بأس أن تتجنب الأخت الداعية هذا، بل ينبغي أن تتجنب بعض الأمور المشتبهة حمايةً لعرضها، وحمايةً لدعوتها.

الصفة الثالثة: حسن الخلق

ومن الصفات التي ينبغي أن تلتزم بها الفتاة الداعية: حسن الخلق، والتواضع، ولين الجانب، مما يحبب إليها الأخريات، ولعل غرس المحبة في نفوس المدعوات هو أولُ سببٍ لقبول الدعوة، فالدعوة إلى الله تعالى هي حبٌ، والأسلوبُ شديد التأثير في قبول الدعـوة أو ردهـا، ولا يجوز لنا أبدًا أن نتجنى على الحق الذي نحمله حين نقدمه للناس بالأسلوب الغليظ الجاف؛ بل يجب أن نعطف على الآخرين، ونحتـوي مشـاعرهم، ونتلـمس همومهم، ونشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، ولانستعلي عليهم أو نستكبر؛ فما تواضع أحدٌ لله تعالى إلا رفعه.

الصفة الرابعة: الاهتمام بالمظهر

ومن الصفات التي ينبغي أن تتحلَّى بها الأخت الداعية أيضًا- وأقوله تعقيباً وعطفاً على ما سبق- هو أن يكون عندها قدرٌ من اهتمامها بمظهرها.

وأقول هذا؛ لأنه قد يظن بعض الناس أنني أدعو المرأة المتدينة الداعية إلى أن تكون متبذلة، بعيدةً عن الاهتمام بمظهرها.. كلا! فالمظهر هو البوابة الرئيسة التي لابد من عبورها إلى قلوبِ الأخريات.

ومن الطَبَعي أن تتحلى المرأة، أو تبحث عن الثوب الجميل، وقد قال الله تعالى: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].. فكون الفتاةِ تنشأُ منذ طفولتها في الحليةِ هذا أمرٌ طبعيٌ لا تلام عليه.

ومن الطبعي: أن تهتم المرأة بتسريح شعرها مثلاً، وأن تعتني بمظهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل بذلك، ولما جاءه رجل أشعث الرأس أمره بأن يسرح شعره ويدهنه، ولما جاء بعد ذلك قال: {هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} فالمرأة مع بنات جنسها من باب أولى.

ونحن بطبيعة الحال لا نقبل أبدًا أن تتبرج المرأة المسلمة بزينة، ولا أن تتطيب لخروجها من بيتها، لكن هذا لا يعني بحالٍ التبذل، أو أن تذهب إلى المجتمعات النسائية في أثواب مهنتها، خاصة حين تكون داعية يشار إليها بالبنان.

وإنني أقول لكم أيها الإخوة ولكنَّ أيتها الأخوات عن تجربةٍ وصلت إلي من عددٍ من الأطراف: كثيرٌ من الفتيات اليوم يعرضن عن الدعوة، لأنهن يتصورن أن معنى الالتزام وحضور الحلقة في المسجد -مسجد المدرسة- أو سماع الشريط يعني أن الفتاة سوف تتخلى عن كل مظهرٍ من مظاهر اهتمامها بنفسها، وهي لا تريد ذلك، فتقول: كل شيء إلا اهتمامي بمظهري

فمن الذي قال: إنّ الإسلام يحول بينها وبين ذلك في حدود ما أباحه الله تعالى، وفي حدودِ ما ليس بحرام؟! فالمظهر مباح إذا كان ثوباً ليس زينة في نفسه وغير متطيبة فيه ولا تظهر به أمام الرجال.

الصفة الخامسة: الاعتدال

ومن الأخلاق والصفات التي ينبغي أن تهتم بها الداعية:

الاعتدال في كل شيء، ومن الاعتدال: الاعتدال في مشاعرها بين الإفراط والتفريط.

فنحن نجد من بعض الأخوات من تكون جافة في عواطفها ومشاعرها، فلا تتجاوب مع الأخريات، ولا تبادلهن شعورًا بشعور، وودًّا بود، ومحبةً بمحبة، أو تبتسم في وجوههنَّ، وترى أن جديَّة الدين وجدية الدعوة تتطلب قدرًا من الصرامة والوضوح والقسمات الحادة، وهذا أمر-بلا شك- غير مقبول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول للمرأة أيضاً: وتبسُّمُكِ في وجه أختكِ صدقة أيضاً؛ فالحكم عام.

وبالمقابل هناك من النساء ومن الأخوات من تبالغ في المشاعر، وتبالغ في إغراق الأخريات بمشاعر قد تصل أحيانًا إلى حد الإفراط، فتجدين أن من الأخوات من لا تصبر عن فلانةٍ ساعةً من نهار، فإذا ذهبت إلى بيتها بدأت تتصل بها بالهاتف، وتكلمها الساعات الطوال، وربما خلت بها أوقاتًا طويلة، تبث إحداهنَّ إلى الأخرى مشاعرها وهمومها وشجونها؛ بل ربما تغار إذا رأت أخرى تجالسها أو تحادثها... تغار منها لأنها تريدها لنفسها فقط!!.

وهذا نوع مما يسمى بالإعجاب في أوساط البنات، فضلاً عن قضية المحاكاة والتقليد، أي أنها تقلدها في كل شيء: في حركاتها وسكناتها، وفي طريقة كلامها، وفي لباسها، وفي حذائها، وفي حركة يدها… في كل شيء تقلدها.

ولاشك أن ذوبان شخصية البنت في أخرى-ولو كانت داعيةً- ضياع؛ لأن الله عز وجل خاطب كل إنسان بمفرده: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا مريم:93-95] وقال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:7-10].

فينبغي أن تشعر المسلمة باستقلاليتها، وأنها لا يجوز أن تذوب في شخصيةٍ أخرى، فإن لها استقلاليتها، ولها مسئوليتها، فهي موقوفة بين يدي الله تعالى يوم القيامة بذاتها وبمفردها.

فمثلاً: العلم بما تدعو إليه، وهذا يعتبر من الواجبات، فلا يمكن أن تدعو إلى شيءٍ وهي لا تعلم: هل هو من الشرع، أم ليس من الشرع، وهل هو من العادات أم من العبادات؟ وهل هو من الأمور الدينية أو من التقاليد الاجتماعية الموروثة مثلاً.

والشرع واضحٌ بحمد الله، إما آية محكمة، أو سنة ماضية، أو إجماعٌ قائم، أو قولُ معروف مبني على اجتهاد صحيح واضح كالشمس، فلا بد أن تعرف المرأة المسلمة الأمر الذي تدعو إليه بدليله، بحيث إذا قال لها أحد: ما الدليل؟ أو لماذا؟ استطاعت أن تجيب على ذلك.

ثم يأتي دور القدوة ومن قبل قال شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتنْدَلِقُ أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه}.

إذاً من الخطورة بمكان أن يتكلم الإنسان بلسانه، ثم يكذب ذلك بأفعاله.

يا واعظَ الناس قد أصبحتَ متَّهمًا     إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها

أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهدًا     والموبقات- لَعَمري- أنت جانيها

والرجل والمرأة في هذا الحديث سواء، وإنما ذكر الرجل على سبيل التغليب، وإلا فالحكم واحد، والطبيعة واحدة، وما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليلٍ يخرجها منه.

يا أيها الرجلُ المعلمُ غــيرَه     هلَّا لنفسِك كـان ذا التعليمُ

تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضَّنى     كيما يصـح بـه وأنت سقيم
ابدأ بنفسـك فانهها عن غيِّهـا فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يُقبل إن وعظت ويقتدى     بالقول منك وينفـع التعـليمُ

لا تَنْهَ عن خلقٍ وتـأتي مثلـه     عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيــمُ

فالتربية والدعوة بالسلوك -أحياناً- أحسن من ألف محاضرة، وسلوك امرأةٍ بين زميلاتها في حسن خلقها وأدبها، ومظهرها ومخبرها، وطيب حديثها، والتزامها بشريعة ربها، وصلاحها؛ أعتقد أنه أفضل من كثيرٍ من الكلمات والمحاضرات التي نبدئ فيها ونعيد، ونردد الكلام، وقد لا يسمعه الكثيرون.

فكثيرٌ من الأخوات وكثير من البنات تقول: أنا ليس عندي رغبة في سماع الأشرطة الدينية؛ وهذا كثيراً ما يقع، لكن لو وجدت أمامها نموذجًا حيًّا، وصورةً حيةً من فتاةٍ ملتزمةٍ متدينةٍ، فأعجبتها؛ أعتقد أنها هنا لاتحتاج إلى أن تسمع شريطًا أو لا تسمع؛ فالحق واضحٌ، ولا يحتاج إلى صعوباتٍ في من يريده.

فلابدّ من القدوة الحسنة، وأن تكون الأخت الداعية قدوةً حسنةً في عبادتها، وسلوكها، ومخبرها، وقلبها، وعقيدتها، وأخلاقها، وطيبتها، ومظهرها أيضًا: في شكلها وثيابها وفي شعرها وثيابها ومشيتها، وفي حركاتها، في أعمالها وأقوالها، وكل شيء، وأضرب لكَ ولكِ مثلاً على ذلك:

المرأة الداعية القدوة، التي تظهرٍ بمظهر لا يليق بمثلها؛ كأن تلبس مثلاً عباءةً لامعةً مطرزة، أو تلبس كابًا مطرزًا هو زينة بنفسه، أو تضعه على كتفها، أو تظهر زينتها للأجانب، أو تكون مولعة بمتابعة الموضات والتسريحات أولاً بأول.

إن هذا المظهر حين تتحدث وتدعو -لا نقول: إنه يجب عليها أن تسكت إذا كانت هكذا، لا! فهي مطالبة بالدعوة كما قلنا منذ قليل- فإنها تكون بهذا العمل الذي عملته قد سنت للأخريات سنةً يقلدنها فيها، إما عن حسن ظن بأن هذا العمل الذي فعلته لا شيء فيه، والدليل أن فلانةً فعلته، أو سيقولون: إن هذه المرأة لا تستحق أن يسمع لها، لأنها تناقض قولها بفعلها، بل أقول: لا بأس أن تتجنب الأخت الداعية هذا، بل ينبغي أن تتجنب بعض الأمور المشتبهة حمايةً لعرضها، وحمايةً لدعوتها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع