سورة النساء - الآية [71-94]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

النداء الثالث والعشرون في الآية الحادية والسبعين من سورة النساء: قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا[النساء:71].

هذه الآية واحدة من الآيات التي تضع أحكاماً وآداباً للجهاد في سبيل الله، وكثير من آيات القرآن قد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ولا غرابة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عد الجهاد ذروة سنام الإسلام.

يقول الله عز وجل لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ))، الحذر والحذر: بمعنى واحد كالإثر والأثر، وأخْذ الحذر معناه: الاحتياط والاحتراز من المخوف، يقال: حذر من كذا، إذا احترز منه، وابتعد عنه، واحتاط له.

قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ )) قال أهل التفسير: هذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لـخالد بن الوليد لما بعثه إلى الشام: حاربهم بمثل ما يحاربونك به السيف بالسيف، والرمح بالرمح، قال أهل التفسير: ويشمل ذلك استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم، ويكون أخذ الحذر كذلك ببذل المال للجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[الصف:10-11]، ويشمل ذلك أيضاً تجهيز الغازي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا).

ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه، وسلاحه، وبلاده، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء، وجر الأثقال، وما يعين على ذلك من صناعة الطائرات، والقنابل، والدبابات، والبوارج المدرعة، والمدافع المضادة للطائرات إلى غير ذلك؛ حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة فتستباح بيضتهم، وتحتل أرضهم، ويعارَض ويحارَب دينهم.

خُذُوا حِذْرَكُمْ )) لا من العدو الخارجي فحسب، بل حتى من العدو الداخلي كذلك، وهم المنافقون الذين يثبطون المسلمين عن القتال كما قال الله عز وجل: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ[النساء:72]، وفي هذه الأيام التي ترفع فيها رايات الجهاد في فلسطين، وفي العراق، وفي أفغانستان، وفي غيرها من بلاد الله نجد كتابات تنشر هنا وهناك بأنه لا فائدة من المقاومة، وأنه لا بد للمسلمين أن يبحثوا عن أرضية مشتركة بينهم وبين عدوهم، ويقبلوا بحكم الواقع، هكذا يروج كثير من الناس لمثل هذه الأفكار الكاذبة الخاطئة، فهؤلاء جميعاً نحن مأمورون بأخذ الحذر منهم خُذُوا حِذْرَكُمْ )).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً بهذه الآية، فكان عليه الصلاة والسلام على علم بأرض عدوه، وكان له العيون والجواسيس الذين يأتونه بالأخبار، ففي غزوة بدر قبل أن يذهب صلى الله عليه وسلم بعث طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضوان الله عليهما إلى الحوراء على ساحل البحر؛ من أجل أن يترصدوا عير أبي سفيان ، وكان أحياناً يبعث بـحذيفة بن اليمان وأحياناً بـعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وغيرهم رضوان الله عليهم، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن قريشاً قد نقضت العهد الذي أبرم في الحديبية استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تأجيل المعركة، وكان يظن أن المسلمين ما علموا بنقضه للعهد.

قوله: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ))، وهو من نفر ينفُر بالضم، ومن نفر ينفِر بالكسر، وهو الخروج للجهاد في سبيل الله كما قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا[التوبة:38-39]، فَانفِرُوا ثُبَاتٍ ))، الثبات: جمع ثبة، أي: جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا )) أي: انفروا كلكم إلى الجهاد، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرين معاً، فتارة كان يبعث بالقطعة من الجيش، أو بالنفر المعينين لمهمة من المهام كما فعل في سرية عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه، فقد بعث به إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، وبعث سرية بقيادة محمد بن مسلمة لقتل عدو الله كعب بن الأشرف اليهودي، وبعث عبد الله بن أنيس وهو رجل واحد لقتل خالد بن سفيان بن نبيح الكلبي الهذلي الذي كان يجمع الجيوش في وادي عرنة من أجل أن يغزو المدينة المنورة، وأحياناً يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين جميعاً، كما حدث في غزوة تبوك، فطبق الأمرين معاً، فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا )).

هدي النبي في الجهاد

كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد أحسن الهدي، وأكمله، وأعلاه، وأفضله، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد): كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك، فهو يريد حنين ناحية الطائف ويسأل عن نجد؛ لأن في داخل الصفوف منافقين، وفي داخل الصفوف عيون للأعداء، وجواسيس ينقلون أخبار المسلمين، ويدلون على عوراتهم، فلذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يأخذ بالأسباب، ولا يبين الوجهة التي يقصدها، وإنما يوري بغيرها، وكان يقول: (الحرب خدعة) وخدعة: اسم مَرَّة، أي: خدعة واحدة تحسم بها الحرب، أو أن خدعة مصدر بمعنى أنها تعتمد على الحيلة والخداع، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويبعث الطلائع، ويبيت الحرس، وما كان يقول: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منصور بأمر الله فناموا أيها المسلمون! واطمئنوا فأنتم محروسون بعين الله، وإنما كان يقيم الحرس يحرسونه هو وأصحابه رضوان الله عليهم، وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم؛ لأن الله تعالى قال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأنفال:45] فذكر الله عند التقاء الصفين مطلوب، وكان يرتب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، وكان يبارَز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، ويلبس عليه الصلاة والسلام اللأمة -وهي الدرع الواقي- من الحديد من أجل أن يتقي به الضربات، وكان يضع على رأسه البيضة من أجل أن يتقي الضربات، وفي يوم أحد هشمت هذه البيضة على رأسه صلوات الله وسلامه عليه من كثرة ما وجه له من الضربات، وكانت له الألوية والرايات، فهذه راية بني فلان، وهذه راية بني فلان، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً، أي: أنه إذا فتح بلداً فإنه عليه الصلاة والسلام يقيم بها ثلاثة أيام ثم يقفل، وأحياناً كان يقيم أكثر من ذلك كما فعل عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، حيث أقام بها تسعة عشر يوماً، وكان إذا أراد أن يغير انتظر، فإذا سمع في الحي مؤذناً لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيت عدوه كما فعل ببني المصطلق، وربما فاجأهم نهاراً كما فعل باليهود في خيبر، جاءهم بالنهار وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم، فمجرد ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: (محمد والخميس)، والخميس هو الجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، الله أكبر خربت خيبر)، ففتحها الله عليه، وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار، وكان العسكر إذا نزلوا انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم، وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ويقول: تقدم يا فلان! تأخر يا فلان! وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو قال: (اللهم! منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم)، ولربما قال: (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).

وكان يقول: (اللهم! أنزل نصرك)، وكان يقول: (اللهم! أنت عضدي، وأنت نصيري، وبك أقاتل)، وكان إذا اشتدت الحرب، وحمي الوطيس، واحمرت الحدق يحتمي الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه عليه الصلاة والسلام، يقول علي : وإن الشجاع منا للذي يحاذيه يقف في صفه وكان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، صلوات الله وسلامه عليه.

وكان يجعل للصحابة شعاراً، وهو ما يسمى الآن بكلمة السر، من أجل أن يعرف الناس بعضهم بعضاً إذا تكلموا، فكان شعارهم مرة (أمت .. أمت)، ومرة (يا منصور!) ومرة (حاميم لا ينصرون)، وكان يلبس الدرع والخوذة ويتقلد السيف، ويحمل الرمح، ويتترس بالترس، وكان يحب الخيلاء في الحرب عليه الصلاة والسلام، فالخيلاء ممنوعة ومحرمة، لكنها في الحرب مطلوبة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود و ابن حبان: (إن من الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء -أي عند الحرب- واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في البغي والفخر).

وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل النساء والولدان، وكان ينظر في مقاتلة العدو فمن رآه أنبت قتله، ومن رآه لم ينبت استحياه، وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول لهم: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا)، فالتمثيل بالعدو ولو كان كافراً حرام لا يجوز، وذلك كأن نفقأ عينه، أو تقطع أذنه، أو تجدع أنفه، فهذا كله حرام، وليس من التمثيل ذبحه؛ لئلا تخلط الأمور، فالذبح يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، وما عندنا في الشريعة نص يحرم الذبح، لكن هم يريدون أن يحكمونا بمقاييسهم ومعاييرهم، ويريدون أن يجعلوا القتل بالشنق والخنق والقتل بالحقنة أو بالكرسي الكهربائي شيئاً حضارياً ومباحاً، وأما القتل ذبحاً فوحشية، وليس ذبح البشر وحدهم وحشية عندهم، بل حتى لو ذبحت خروفاً فأنت متوحش ولست متحضراً، فالخروف عندهم يصعق بالكهرباء، أو يضرب بمثقل أو بعيار ناري، والطيور تلقى في الماء الحار فتخرج ميتة مسلوخة، فهذه هي الحضارة عندهم، وأما ذبحها وتذكيتها على ما شرع الله فهذه وحشية لا تليق!

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً)، وأيضاً نحن المسلمين منهيون عن تخريب العامر، وقطع الشجر المثمر، وقتل الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة التي لا تقاتل، وأما المرأة إذا كانت تشترك في القتال فإنها تقتل.

ومن فوائد هذه الآية: وجوب أخذ الحذر من أعدائنا، وأن أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون.

ومن فوائدها: وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله، وهذا النفرة تكون حسب المصلحة، فإما جماعات وإما جميعاً، فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا )).

أسأل الله أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله.

كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد أحسن الهدي، وأكمله، وأعلاه، وأفضله، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد): كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك، فهو يريد حنين ناحية الطائف ويسأل عن نجد؛ لأن في داخل الصفوف منافقين، وفي داخل الصفوف عيون للأعداء، وجواسيس ينقلون أخبار المسلمين، ويدلون على عوراتهم، فلذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يأخذ بالأسباب، ولا يبين الوجهة التي يقصدها، وإنما يوري بغيرها، وكان يقول: (الحرب خدعة) وخدعة: اسم مَرَّة، أي: خدعة واحدة تحسم بها الحرب، أو أن خدعة مصدر بمعنى أنها تعتمد على الحيلة والخداع، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويبعث الطلائع، ويبيت الحرس، وما كان يقول: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منصور بأمر الله فناموا أيها المسلمون! واطمئنوا فأنتم محروسون بعين الله، وإنما كان يقيم الحرس يحرسونه هو وأصحابه رضوان الله عليهم، وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم؛ لأن الله تعالى قال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأنفال:45] فذكر الله عند التقاء الصفين مطلوب، وكان يرتب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، وكان يبارَز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، ويلبس عليه الصلاة والسلام اللأمة -وهي الدرع الواقي- من الحديد من أجل أن يتقي به الضربات، وكان يضع على رأسه البيضة من أجل أن يتقي الضربات، وفي يوم أحد هشمت هذه البيضة على رأسه صلوات الله وسلامه عليه من كثرة ما وجه له من الضربات، وكانت له الألوية والرايات، فهذه راية بني فلان، وهذه راية بني فلان، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً، أي: أنه إذا فتح بلداً فإنه عليه الصلاة والسلام يقيم بها ثلاثة أيام ثم يقفل، وأحياناً كان يقيم أكثر من ذلك كما فعل عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، حيث أقام بها تسعة عشر يوماً، وكان إذا أراد أن يغير انتظر، فإذا سمع في الحي مؤذناً لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيت عدوه كما فعل ببني المصطلق، وربما فاجأهم نهاراً كما فعل باليهود في خيبر، جاءهم بالنهار وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم، فمجرد ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: (محمد والخميس)، والخميس هو الجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، الله أكبر خربت خيبر)، ففتحها الله عليه، وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار، وكان العسكر إذا نزلوا انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم، وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ويقول: تقدم يا فلان! تأخر يا فلان! وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو قال: (اللهم! منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم)، ولربما قال: (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).

وكان يقول: (اللهم! أنزل نصرك)، وكان يقول: (اللهم! أنت عضدي، وأنت نصيري، وبك أقاتل)، وكان إذا اشتدت الحرب، وحمي الوطيس، واحمرت الحدق يحتمي الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه عليه الصلاة والسلام، يقول علي : وإن الشجاع منا للذي يحاذيه يقف في صفه وكان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، صلوات الله وسلامه عليه.

وكان يجعل للصحابة شعاراً، وهو ما يسمى الآن بكلمة السر، من أجل أن يعرف الناس بعضهم بعضاً إذا تكلموا، فكان شعارهم مرة (أمت .. أمت)، ومرة (يا منصور!) ومرة (حاميم لا ينصرون)، وكان يلبس الدرع والخوذة ويتقلد السيف، ويحمل الرمح، ويتترس بالترس، وكان يحب الخيلاء في الحرب عليه الصلاة والسلام، فالخيلاء ممنوعة ومحرمة، لكنها في الحرب مطلوبة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود و ابن حبان: (إن من الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء -أي عند الحرب- واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في البغي والفخر).

وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل النساء والولدان، وكان ينظر في مقاتلة العدو فمن رآه أنبت قتله، ومن رآه لم ينبت استحياه، وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول لهم: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا)، فالتمثيل بالعدو ولو كان كافراً حرام لا يجوز، وذلك كأن نفقأ عينه، أو تقطع أذنه، أو تجدع أنفه، فهذا كله حرام، وليس من التمثيل ذبحه؛ لئلا تخلط الأمور، فالذبح يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، وما عندنا في الشريعة نص يحرم الذبح، لكن هم يريدون أن يحكمونا بمقاييسهم ومعاييرهم، ويريدون أن يجعلوا القتل بالشنق والخنق والقتل بالحقنة أو بالكرسي الكهربائي شيئاً حضارياً ومباحاً، وأما القتل ذبحاً فوحشية، وليس ذبح البشر وحدهم وحشية عندهم، بل حتى لو ذبحت خروفاً فأنت متوحش ولست متحضراً، فالخروف عندهم يصعق بالكهرباء، أو يضرب بمثقل أو بعيار ناري، والطيور تلقى في الماء الحار فتخرج ميتة مسلوخة، فهذه هي الحضارة عندهم، وأما ذبحها وتذكيتها على ما شرع الله فهذه وحشية لا تليق!

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً)، وأيضاً نحن المسلمين منهيون عن تخريب العامر، وقطع الشجر المثمر، وقتل الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة التي لا تقاتل، وأما المرأة إذا كانت تشترك في القتال فإنها تقتل.

ومن فوائد هذه الآية: وجوب أخذ الحذر من أعدائنا، وأن أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون.

ومن فوائدها: وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله، وهذا النفرة تكون حسب المصلحة، فإما جماعات وإما جميعاً، فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا )).

أسأل الله أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2636 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2574 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2535 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2522 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2343 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2309 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2303 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2293 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2228 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2186 استماع