تفسير سورة نوح [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

دعاء نوح على قومه

فبعدما دعا نوح عليه السلام ربه وقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، ذكر الله عز وجل له علامة معينة، وهي: أن يفور التنور، والتنور قال بعض المفسرين: أي: وجه الأرض، وقال بعضهم: بل التنور هو ما يسجر من أجل أن يصنع فيه الخبز، يعني: الفرن كما نقول، فإذا رأى الماء يفور من تلك الأماكن التي هي أبعد عن الماء فهذه علامة ظاهرة أن عذاب الله قد نزل وأن أمر الله قد جاء.

وفي سورة الأنبياء يقول الله عز وجل: وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء:76-77].

أمر الله لنوح بأن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين

وهنا أمر الله نوحاً عليه السلام بأن يحمل في تلك السفينة من كل زوجين اثنين، يعني: من كل نوع من أنواع الأحياء يأخذ زوجين؛ ذكر وأنثى، سواء كان من الدواب، أو من الطيور، أو من الحشرات، أو من الزواحف أو من غيرها، يأخذ زوجين، فحمل نوح هذا كله في السفينة وركب فيها المؤمنون الطيبون، وكانوا كما يقول بعض المفسرين: ثمانين نفساً، ويقول بعض المفسرين: بل كانوا اثنين وسبعين نفساً، ويقول بعضهم: بل كانوا أربعين نفساً، ويقول بعضهم: بل كانوا سبعة.

يعني: مكث هذا الزمان الطويل وهو ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يؤمن معه إلا كما قال ربنا في القرآن: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40].

لما بعث نوح قيل: كان عمره خمسين، وقيل: بل كان ثلاثمائة وخمسين، وقيل: بل كان أربعمائة وثمانين، والله أعلم أي ذلك كان.

فنوح عليه السلام حمل المؤمنين وحمل هذه الكائنات الحية في تلك السفينة، وبدأ عذاب الله كما قال الله عز وجل: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ[القمر:11-12]، أي: التقى الماءان، ماء السماء وماء الأرض، عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ [القمر:12-13]، أي: نوح عليه السلام، عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:13]، الألواح: ألواح الخشب، والدسر: المسامير، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:14]، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)، أي: برعايتنا وحفظنا وعنايتنا، جل جلال الله.

محافظة نوح على ذكر الله حين ركوب السفينة والاستواء عليها

فنوح عليه السلام ركب في تلك السفينة ذاكراً ربه، قال: بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا[هود:41]، وأمره ربه بعد أن يركب أن يحمد الله، فقال له: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:28-29]، مثل ما أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لما خرج في طريق الهجرة بأن يقول: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً [الإسراء:80].

فنوح عليه السلام ذكر الله لما دخل السفينة وذكر الله لما استوى عليها، وصارت تلك السفينة تمخر بهم عباب البحر، كما قال الله عز وجل: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ[هود:42]، أمواج عاتية عالية؛ لأن السماء فتحت كأفواه القرب، والأرض فجرت عيوناً من كل مكان.

غرق زوجة نوح وولده مع المغرقين

كان نوح عليه السلام عنده أولاد مؤمنون طيبون، لكن الله عز وجل ابتلاه بامرأة كافرة وولد كافر، أما المرأة فيقول بعض المفسرين: إنها ماتت قبل الطوفان، وبعضهم يقول: بل هلكت في الطوفان، وأياً كان فعليها لعنة الله فهي في النار، كما قال ربنا جل جلاله عنها وعن امرأة لوط: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فسواء هلكت قبل الطوفان أو في الطوفان فإنها في الحالتين من أهل النار.

نادى نوح عليه السلام بعاطفة الوالد وشفقة الأب على ولده، وقال: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42]، تعال وكن معنا، لكن الولد من خفة عقله وشدة كفره رد على أبيه ذلك الرد القبيح، فقال: قَالَ سَآوِي [هود:43]، بدلاً من أن يقول لأبيه: سمعاً وطاعة، قال له: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ[هود:43]، قال له: هناك جبل عال سأصعد إليه والماء لن يدركني، ولو كان عنده عقل لأدرك أن الماء نازل من السماء؛ لكنه لم يدرك فقال هذا الكلام، فقال له أبوه: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ[هود:43].

أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن امرأة كانت تحمل رضيعاً لها، وما زالت تشتد به وتصعد به في جبل فراراً من الغرق، فلما بلغ الماء ثلثها رفعت ولدها، فلما بلغ ثلثيها رفعته، فلما أدركها الغرق رفعته بيديها، قال عليه الصلاة والسلام: ( فلو رحم الله أحداً في ذلك اليوم لرحم أم الصبي )، لكنه أغرقها جل جلاله ومعها صبيها؛ ولذلك نوح يقول لولده: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ[هود:43]، ولن يرحم الله غير المؤمنين الذين مع نوح عليه السلام، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ [هود:43].

انتهاء الطوفان ونجاة السفينة

لما غرق القوم كلهم أجمعون أوحى الله عز وجل إلى السماء وأوحى إلى الأرض: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي[هود:44]، (أقلعي) يعني: كفي وامتنعي، قال الله عز وجل: وَغِيضَ الْمَاءُ[هود:44]، (غيض) بمعنى: نقص، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ[هود:44]، استوت سفينة نوح عليه السلام على جبل يقال له: الجودي، الله أعلم أين هو؟ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44].

استشفاع نوح لابنه ورد الله عليه

نوح عليه السلام ما زالت عاطفة الأبوة متقدة عنده، فنادى ربه جل جلاله، دعاه فقال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ[هود:45]، يعني: يا رب! أنت وعدتني بأن تنجني وأهلي، وهذا الولد من أهلي، وأنت يا رب! لا تخلف الميعاد، فالله عز وجل بين له وقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ[هود:46]، وهنا المقصود بالأهل: المؤمنون الطيبون، وليس المقصود بالأهل: الأرحام.

إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[هود:46]، وفي قراءة: (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) أي: هذا الولد عمل عملاً ليس صالحاً، فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

ندم نوح على استشفاعه لولده وتوبته

فبعدما دعا نوح عليه السلام ربه وقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، ذكر الله عز وجل له علامة معينة، وهي: أن يفور التنور، والتنور قال بعض المفسرين: أي: وجه الأرض، وقال بعضهم: بل التنور هو ما يسجر من أجل أن يصنع فيه الخبز، يعني: الفرن كما نقول، فإذا رأى الماء يفور من تلك الأماكن التي هي أبعد عن الماء فهذه علامة ظاهرة أن عذاب الله قد نزل وأن أمر الله قد جاء.

وفي سورة الأنبياء يقول الله عز وجل: وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء:76-77].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2767 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2763 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2663 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2649 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2530 استماع
تفسير سورة يس [8] 2520 استماع
تفسير سورة يس [4] 2472 استماع
تفسير سورة يس [6] 2464 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2232 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2208 استماع