تفسير سورة النور - الآيات [15-19] الثاني


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى. أما بعد:

يقول ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].

والعصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من العشرة إلى الأربعين وهم الجماعة من الناس، وقد سمي منهم حسان بن ثابت ، و مسطح بن أثاثة ، و حمنة بنت جحش ، و (الذي تولى كبره منهم) هو عبد الله بن أبي ابن سلول .

وقول ربنا جل جلاله: لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، يستفاد منه أن الإنسان لا يرتب الحكم بالخيرية أو الشرية على ظواهر الأشياء، بل ينظر في عواقبها، وقد نبهنا ربنا جل جلاله على هذا المعنى بقوله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فينبغي للإنسان في سائر الأمور أن ينظر في عواقبها، وفي خواتيمها، فالكلام في عرض أمنا رضي الله عنها لا شك أن ظاهره شر، لكن رتب الله عليه من الخير شيئاً عظيماً في تكفير سيئاتها، وحط خطيئاتها، ورفع درجاتها، وأنزل الله عز وجل فيها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها طيبة مطيبة، قد جعلها الله زوجاً لأطيب الطيبين صلوات الله وسلامه عليه.. إلى غير ذلك من المنافع العظيمة.

قال هشام بن عمار رحمه الله: سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكر و عمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن من سب عائشة رضي الله عنها -يعني بالسب هنا القذف- فقد ضاد الله في حكمه، وكذب القرآن في خبره، فإن القرآن قد نفى الفاحشة عنها رضي الله عنها، فمن تكلم في عرضها بسوء، ونسب إليها الفاحشة فهو مكذب للقرآن، ومكذب القرآن يكفر، والعياذ بالله.

هذه الآيات تنبهنا إلى خطورة الإشاعة، وقول ربنا جل جلاله: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، يدل على أن الناس ليسوا في الإثم سواء، فالذي تولى كبر الإشاعة وإذاعتها بين الناس ليس عذابه كعذاب سائرهم؛ ولذلك ورد الحديث في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه قد أتاني الليلة آتيان، فقالا: انطلق بنا، فانطلقت معهما )، وذكر صلى الله عليه وسلم رؤيا طويلة رآها في منامه، ومن تلك الرؤيا: ( أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً جالساً، وآخر قائماً عليه بكلوب -والكلوب ما تعلق فيه الذبيحة- فيدخل ذلك الكلوب في فمه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ثم يأتي إلى الجانب الآخر فيفعل به ذلك، ثم يرجع إلى الأول فيجده قد التأم فيفعل به ذلك، فلما سأل صلى الله عليه وسلم قيل له: هذا الرجل يخرج من بيته يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق )، كإنسان يكون عنده صحيفة، أو عنده إذاعة، أو عنده موقع على شبكة المعلومات، أو عنده وسيلة من الوسائل التي ينشر بها الأخبار، فيفتري خبراً مكذوباً لا أصل له، فما تغرب شمس ذلك اليوم إلا والخبر قد بلغ الآفاق، وتناقله الناس، فهذا عذابه في البرزخ، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.

ولذلك الإشاعة هي من الخطورة بمكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، فمن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في عقر داره )؛ فعلى الإنسان أن يكف لسانه، فالإشاعات الكاذبة يترتب عليها ضرر عظيم.

والمسلمون لما هاجروا إلى الحبشة أشيع بأن أهل مكة قد أسلموا، وبلغتهم تلك الإشاعة، فرجع بعضهم إلى مكة، رجع من الحبشة حنيناً لوطنه، فكانت النتيجة أن سلط عليهم من العذاب ضعف ما كان من قبل، والسبب إشاعة كاذبة، وكذلك في يوم أحد أشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وهذه الإشاعة تولى كبرها ابن القمئة أقمأه الله، قتل مصعب بن عمير ، ثم أشاع في الناس: إني قد قتلت محمداً، فكانت النتيجة أن بعض المسلمين ألقوا بأيديهم، وبعضهم ولى مدبراً ما ردته إلا حيطان المدينة.

وكذلك مقتل عثمان رضي الله عنه سببه إشاعات أطلقت، فقيل: بأن عثمان قد حرق المصاحف، وأن عثمان قد حمى الحمى، وأن عثمان قد ضرب عماراً حتى فتق أمعاءه، وأن عثمان نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن عثمان قد قام على المنبر في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انحط عنه أبو بكر وعمر، وأن عثمان قد ولى أقاربه، وقد رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة بعدما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى الوليد بن عقبة ، وقد سماه الله فاسقاً.. إلى غير ذلك من الأمور التي لو عرضت على بساط البحث لوجدتم أن بعضها كذب لا أصل له، وبعضها كان عثمان رضي الله عنه فيها متأولاً، وبعضها فهم على غير وجهه، لكن هذه الإشاعات الكاذبة التي قالوها ترتب عليها أنهم حاصروا عثمان حتى منعوا عنه الماء، وهم بغاة ظالمون، ثم دخلوا عليه فجذبه بعضهم من لحيته حتى اصطكت أسنانه، وضربه الآخر بمشقص على رأسه حتى سال دمه، ثم ذبحه الثالث ذبح الشاة، وهو ذو النورين وزوج الابنتين، وصاحب الهجرتين، ومن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، ومن قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم )، ومن قال عنه: ( اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض )، ومن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ).. إلى غير ذلك.

لذلك بعض الناس عنده سوء فهم في بعض الأمور، ويرتب على هذا السوء أحكاماً؛ ولذلك لما جاء بعض هؤلاء الخبثاء إلى مكة، وقف على حلقة الناس فيها جلوس، قال: من القوم؟ قالوا: قريش. قال: من الشيخ فيكم؟ قالوا: عبد الله بن عمر . فقال له: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان لم يشهد بدراً؟ قال عبد الله بن عمر : اللهم نعم، قال له: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان لم يشهد بيعة الرضوان؟ قال: اللهم نعم، قال: الله أكبر، ففرح هذا المسكين بثلاث سوءات يظنها هكذا، ويريد أن يرجع فيقول للناس بأن عثمان ليس بشيء، فقال له عبد الله بن عمر : على رسلك، ارجع، فلما جاء الرجل قال له عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أما غيابه يوم بدر فأشهد أن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضةً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى معها يمرضها، وضرب له بسهم رجل قد شهد بدراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد لـعثمان بأنه شهد بدراً، ولذلك لما قسم الغنائم ضرب له بسهم رجل شهد بدراً؛ لأنه تخلف عن بدر بأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك لما جاء من يبشر الناس بانتصار المسلمين في بدر كان عثمان في البقيع يدفن رقية رضي الله عنها.

وأما فراره يوم أحد فأشهد أن الله قد غفر له، فالله عز وجل في القرآن يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، الله يقول: عفوت عنهم، وهذا المسكين يريد أن يحاسب عثمان ، و عثمان ما فر وحده؛ بل فر كثيرون، وما ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى نفر قليل.

وأما غيابه عن بيعة الرضوان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتدب عمر بن الخطاب ليفاوض المشركين، ليذهب إلى مكة ويفاوض المشركين، لما حبسوا المسلمين في الحديبية ومنعوهم من دخول مكة النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تسألني قريش خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )، فطلب من عمر أن يذهب لمفاوضتهم، لكن عمر رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! قد علمت قريش أنه ليس أحد أشد عليهم مني، ولكن ابعث عثمان )، فالمفاوض لا بد أن يكون إنسان له قبول عند الآخرين، فـعمر رضي الله عنه رشح لهذه المهمة عثمان رضي الله عنه، و عثمان من أدبه ذهب إلى مكة، وأهل مكة لأن عثمان كان رجلاً هيناً ليناً عرضوا عليه أن يعتمر، لو شاء أن يطوف بالبيت فعل، فقال لهم: والله ما كنت لأفعله قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا جئت بأمره هو عليه الصلاة والسلام، وبدأ يفاوضهم وتأخر، فأشيع بأن عثمان قد قتل، والنبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه تحت الشجرة، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: ( اللهم هذه عن عثمان )، فالذي ناب عنه في البيعة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمقصود أن بعض الناس ممن مرضت قلوبهم قد يحترفون إطلاق الشائعات، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( شرار الناس: المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب )، خاصةً إذا كان الكلام في أهل العلم، وأهل الفضل، والمجاهدين في سبيل الله، ومن ظهر خيرهم، فالمصيبة أعظم، والطامة أكبر.

والمطلوب منك أيها المسلم إذا سمعت شائعةً في أخيك المسلم أمور:

أولاً: ألا تصدقها، وهذا المعنى أشار إليه ربنا بقوله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12].

ثانياً: أن تطلب البرهان، وهذا المعنى أشار إليه ربنا بقوله: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، أي: في حكمه جل جلاله.

ثالثاً: ألا تنقل هذه الشائعة ولا تتكلم بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع )، وقال: ( بئس مطية القوم زعموا )، وهذا المعنى أشار إليه ربنا بقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15]، وفي قراءة: (إذ تَلِقونه بألسنتكم)، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15]، فالشائعة التي تطلق عن المسلم الذي هو مستور الحال، ومن باب أولى إذا علم عنه الخير لا ينبغي أن نصدقها، ولا ينبغي أن نروجها، والمتكلم بها يقال له: هات برهانك، كما قال تعالى: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64].

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2767 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2764 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2663 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2650 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2532 استماع
تفسير سورة يس [8] 2521 استماع
تفسير سورة يس [4] 2475 استماع
تفسير سورة يس [6] 2466 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2233 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2216 استماع