تفسير سورة النور - قصة الإفك [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد توقف بنا الكلام أن حديث الإفك لما استفاض في المدينة، وتلبث الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ منه الهم كل مبلغ، صعد صلوات ربي وسلامه عليه على المنبر، وخطب بالناس قائلاً: ( من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي )، وفي بعض الروايات بأنه قال: ( في ناس أبنوا أهلي )، والأبن بفتحتين: التهمة.

ثم زكى صلى الله عليه وسلم أمنا عائشة بقوله: ( والله ما علمت على أهلي إلا خيراً )، ثم زكى صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فقال: ( ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي )، فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أنا، أو قال: نحن نعذرك منه، إن كان منا معشر الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج فمرنا فيه بما تشاء، فأخذت سعد بن عبادة رضي الله عنه -وكان رجلاً من المؤمنين الطيبين- حمية الجاهلية، فقال لـأسيد : والله لا تضرب عنقه، فرد عليه أسيد بقوله: إنك منافق، تجادل عن المنافقين، وعلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على القائل هذه المقولة؛ لأنه ما قالها انتقاماً لنفسه، ولا قالها غضباً لنفسه، وإنما غيضاً وحنقاً لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتثاور الحيان؛ الأوس والخزرج، وفي بعض الروايات: أن سعداً سل سيفه، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويسكنهم حتى سكنوا.

قالت عائشة رضي الله عنها: ( فبينما نحن على ذلك، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة ! إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب؛ تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؛ قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة.. ).

قوله: (إن كنت بريئة فسيبرؤك الله) إنفاذ لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] وقولها: (قلص دمعي)، أي: استمسك، ومنه يقال: قلص الظل إذا زال، وهذا أدب عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما دخل سلم والسلام حق الإسلام، ثم بعد ذلك لما خاطب أمنا رغم ما في نفسه من تغير عليها، فإنه خاطبها باسمها، قال لها: أما بعد يا عائشة ! ما قال لها: يا امرأة! وهذا من حسن المعاشرة، أن الإنسان يخاطب زوجه باسمها، أو بكنيتها: يا أم فلان! أو يطلق عليها من الأسماء ما تحب، يقول لها: يا عائش! كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول، أما ما جرت عليه عادة بعض الناس أنه لا يأتي باسم زوجه على لسانه قط، وإنما يخاطبها كأنه يخاطب جماداً، يا هو.. أو يا ناس! أو يا كرور! فهذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[النساء:19]، ورأيت بعض الناس يقول لزوجته: يا عبد الغفار! وهذا لا ينبغي، لكن الإنسان يوقرها، ومن أطيب ذلك بأن بعض الناس إذا كبرت سنه لا يخاطب زوجته باسمها، وإنما يقول لها: يا حاجّة، وهي أيضاً تقول له: يا حاج، وهذا من المعاشرة بالمعروف، فالمقصود بأن الإنسان ينادي زوجته باسمها أو بما تحب هي أن تنادى به، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة ! ثم من أدبها رضي الله عنها بأنها ما قاطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حمد الله، وأثنى عليه، وتشهد، ثم قال: يا عائشة ! فما أعرضت عنه، ولا قاطعته، ولا بادرت بكلام سوء، حاشاها رضي الله عنها، وإنما تركت النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرغ مما يريد، وبعد ذلك بدأت رضي الله عنها تدافع عن نفسها بعد أن طلبت ذلك من أمها وأبيها.

قالت: ( فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ).

لنا أن نتصور تلك الحال، عائشة رضي الله عنها، زوجها صلى الله عليه وسلم يقول لها: إن كنت وإن كنت.. ويأمرها بالاعتراف والاستغفار والتوبة، ثم بعد ذلك تطلب من أبيها أن يدافع عنها، يا أبي! أو يا أبت! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لها أبوها رضي الله عنه: والله ما أدري ما أجيب به، فهي تطلب من أبيها الدفاع، وتقول له: أنت تعرفني، تعرف خلقي، وقد ربيت عندك، ونشأت في بيتك، أجب عني بما تعلم من ظاهر حالي؛ فرفض أبو بكر رضي الله عنه أن يجيب لأسباب منها:

أولاً: اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[الحجرات:1]، لا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن كنت وإن كنت.. وهو يجزم، فيقول: لا، يا رسول الله! بنتي بريئة، وإنما قال: لا أدري ما أجيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اتباعاً له عليه الصلاة والسلام.

ثانياً: كراهة أن يزكي ولده، لأنه أب لا يريد أن تأتي التزكية من عنده هو؛ فمن أجل هاتين العلتين، قال أبو بكر رضي الله عنه: لا أدري ما أجيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس معنى ذلك أنه كان شاكاً في ابنته، أو يضع احتمالاً بأن هذا الشيء ربما يكون قد حصل، وقد مضى معنا أنه كان يقول: والله ما رمينا بهذا في الجاهلية، أفنرمى به في الإسلام؟! ثم بعد ذلك التفتت إلى أمها الحانية، وأمها كانت تجزم بأنها بريئة، فقالت لها: يا أمي! أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أمها رضي الله عنها تبع لزوجها أبي بكر رضي الله عنه، مع أنها كانت تجزم بأن عائشة بريئة؛ ولذلك قالت لها: (يا بنية! هوني عليك، فقلما كانت امرأة وضيئة عند زوج، ولها ضرائر إلا كثرن عليها)، فما وجدت سبيلاً إلا أن تدافع عن نفسها.

قالت: ( فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه.. ).

قولها: (ما رام) أي: ما فارق، من: رام.. يريم.. ريماً، بخلاف رام بمعنى قصد، فإنها من رام.. يروم.. روماً.

قالت: ( ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه؛ فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء.. ).

قولها: (من البرحاء)، قيل: شدة الحمى، وقيل: شدة الحر، وقيل: شدة الكرب، فالسيدة عائشة كانت تعرف علامات الوحي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، ويثقل جسده عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يغط غطيطاً، يأخذه حالة من الشدة، وحالة من الكرب بهذا الذي يتنزل عليه، حتى كان صلى الله عليه وسلم مرة مسنداً فخذه إلى واحد من الصحابة، يقول الصحابي: فكادت فخذي ترض، أي: تنكسر، وفي مرة كان صلى الله عليه وسلم على بعيره فنزل عليه الوحي، فبرك البعير، فالسيدة عائشة رضي الله عنها تعرف هذه العلامات، وأيضاً الصحابة الذين كانوا يلازمونه من أمثال أبي بكر رضي الله عنه كانوا يعرفون هذه العلامات متى ما ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم.

قالت: ( حتى أنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل الذي أنزل عليه.. ).

(الجمان): جمع جمانة، وهي حبة اللؤلؤ.

(في يوم شات)، أي: يوم بارد، يقال: يوم شات، ويقال: ليلة شاتية، أي: باردة، مثل ما يقال: يوم مطير، وليلة مطيرة، ومثل ما يقال: يوم صائف، أي: شديد الحر.

قالت: ( فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة ! أما الله فقد برأك.. ).

وفي بعض الروايات: بأن عائشة رضي الله عنها لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت تتأمل في وجوه الحاضرين، وعلى رأسهم أبو بكر ، و أم رومان ، قالت: فوالله ما سري - سري بمعنى: كشف - فما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفسيهما ستخرجان، يعني أبو بكر ، و أم رومان قد بلغت قلوبهما الحناجر، في كرب عظيم، وقد خشيا أن ينزل الله ما يثبت التهمة، أما عائشة رضي الله عنها فهي تعلم أنها بريئة؛ ولذلك هي في حالة من الاطمئنان، ومن اطمئنانها بدأت تتأمل في وجوه الناس، كما أن الطالب إذا دخل الامتحان ولم يذاكر، تجده يفرك أصابعه، ولربما يفتل شواربه، ولربما يدلك فخذيه، ولربما يفعل هكذا مرة وهكذا مرة، أما المطمئن فإنه يجلس ينتظر ورقة الأسئلة وهو يتأمل في وجوه الناس، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت في حال من الاطمئنان.

تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في إخبار عائشة ببراءتها

ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما فاجأها بالخبر وإنما درجها، كالطبيب إذا وجد إنساناً عطيشاً، وجده في صحراء أو في كذا؛ فمن الحكمة ألا يسقى الماء دفعة واحدة لئلا يهلك، وإنما يؤخذ شيء نظيف، خرقة أو شاش ويعصر له الماء شيئاً فشيئاً إلى أن يبتل جوفه وتتهيأ أجهزته لاستقبال الماء، وبعد ذلك يعطى الماء، ثم يعطى الطعام وما إلى ذلك.

فالرسول صلى الله عليه وسلم تدرج، وأول شيء بدأ به أنه ضحك عليه الصلاة والسلام، (وكان إذا سر استنار وجهه، كأنه فلقة قمر)، ثم بعد ذلك قال: ( أبشري يا عائشة )، هذه درجة ثانية، ثم قال لها: ( أما إن الله قد برأك )، فدرجها صلوات ربي وسلامه عليه؛ لئلا يفجأها الخبر، وقد كانت في غم وهم وكرب وبكاء، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها رضي الله عنها، وما تكتحل بنوم قط؛ ولذلك جزأ لها الخبر أجزاءاً.

حال عائشة وأبويها بعد نزول براءتها

قالت: ( فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل.. ).

قال الإمام أبو الفرج الجوزي رحمه الله: هذا من إدلال المحب على حبيبه، كما قال ابن القيم : فلله ما أطيبها! وما أكرمها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالت ذلك، يعني هاهنا روايات:

الرواية الأولى: بأن أبا بكر قام إليها فقبل رأسها رضي الله عنهما؛ لأنه في تلك الحال شعر بالفخر والعزة، وشعر بعظيم رحمة الله عز وجل وقد تسببت فيها هذه البنت.

وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها فانتزعت يدها، فنهرها أبو بكر رضي الله عنه. وفي بعض الروايات: أنهم قالوا لها: ( قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقالت: لا بحمده ولا بحمدكما )، يعني: لا أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمدكما، لا أحمد إلا الله الذي برأني؛ لأنه ما برأها أحد من الخلق، وإنما برأها الله جل جلاله، وحق لها رضي الله عنها أن تقول هذه الكلمة؛ لأنها قد عانت ما عانت، وقبل قليل كانت تستجدي أباها وأمها؛ من أجل أن يدفعا عنها، لكنهما ما فعلا.

وفي بعض الروايات: أنها قالت لأبيها: ( يا أبت! أما علمت أني بريئة؟ -يعني: ما الذي منعك أن تتكلم- فقال لها: أي بنية! أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم )، قال لها: أنا لا أعلم الغيب؛ ولذلك اعذريني لأني ما تكلمت ولا دافعت.

الوحي الذي نزل ببراءة عائشة

قالت: ( وأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11] العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبدا بعد أن قال في عائشة ما قال، فأنزل الله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ[النور:22]، إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، قال أبو بكر الصديق : بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لـزينب : ماذا علمت، أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك ).

وهذا الحديث الذي طال الوقوف عنده استنبط منه الحافظ ابن حجر رحمه الله بضعاً وثمانين فائدة.

ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما فاجأها بالخبر وإنما درجها، كالطبيب إذا وجد إنساناً عطيشاً، وجده في صحراء أو في كذا؛ فمن الحكمة ألا يسقى الماء دفعة واحدة لئلا يهلك، وإنما يؤخذ شيء نظيف، خرقة أو شاش ويعصر له الماء شيئاً فشيئاً إلى أن يبتل جوفه وتتهيأ أجهزته لاستقبال الماء، وبعد ذلك يعطى الماء، ثم يعطى الطعام وما إلى ذلك.

فالرسول صلى الله عليه وسلم تدرج، وأول شيء بدأ به أنه ضحك عليه الصلاة والسلام، (وكان إذا سر استنار وجهه، كأنه فلقة قمر)، ثم بعد ذلك قال: ( أبشري يا عائشة )، هذه درجة ثانية، ثم قال لها: ( أما إن الله قد برأك )، فدرجها صلوات ربي وسلامه عليه؛ لئلا يفجأها الخبر، وقد كانت في غم وهم وكرب وبكاء، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها رضي الله عنها، وما تكتحل بنوم قط؛ ولذلك جزأ لها الخبر أجزاءاً.

قالت: ( فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل.. ).

قال الإمام أبو الفرج الجوزي رحمه الله: هذا من إدلال المحب على حبيبه، كما قال ابن القيم : فلله ما أطيبها! وما أكرمها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالت ذلك، يعني هاهنا روايات:

الرواية الأولى: بأن أبا بكر قام إليها فقبل رأسها رضي الله عنهما؛ لأنه في تلك الحال شعر بالفخر والعزة، وشعر بعظيم رحمة الله عز وجل وقد تسببت فيها هذه البنت.

وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها فانتزعت يدها، فنهرها أبو بكر رضي الله عنه. وفي بعض الروايات: أنهم قالوا لها: ( قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقالت: لا بحمده ولا بحمدكما )، يعني: لا أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمدكما، لا أحمد إلا الله الذي برأني؛ لأنه ما برأها أحد من الخلق، وإنما برأها الله جل جلاله، وحق لها رضي الله عنها أن تقول هذه الكلمة؛ لأنها قد عانت ما عانت، وقبل قليل كانت تستجدي أباها وأمها؛ من أجل أن يدفعا عنها، لكنهما ما فعلا.

وفي بعض الروايات: أنها قالت لأبيها: ( يا أبت! أما علمت أني بريئة؟ -يعني: ما الذي منعك أن تتكلم- فقال لها: أي بنية! أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم )، قال لها: أنا لا أعلم الغيب؛ ولذلك اعذريني لأني ما تكلمت ولا دافعت.

قالت: ( وأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11] العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبدا بعد أن قال في عائشة ما قال، فأنزل الله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ[النور:22]، إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، قال أبو بكر الصديق : بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لـزينب : ماذا علمت، أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك ).

وهذا الحديث الذي طال الوقوف عنده استنبط منه الحافظ ابن حجر رحمه الله بضعاً وثمانين فائدة.

من المباحث التي سيحصل التنبيه عليها بأن بعض المفسرين قالوا: هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[النور:22]، قالوا: هي أرجى آية في القرآن؛ لأن مسطحاً رضي الله عنه وغفر له قد أتى جرماً عظيماً، وارتكب ذنباً فظيعاً، ومع ذلك نهى الله عز وجل أبا بكر أن يقطع عنه النفقة، وأمره بأن يعفو عنه، وأن يسامحه رجاء أن يغفر الله لـأبي بكر ويسامحه.

فإذا كان مسطح الذي أتى بتلك الجريمة العظيمة، والذنب الكبير قد عامله الله عز وجل بهذا الرفق، وتلك الرحمة، ونهى أبا بكر عن الانتقام منه لنفسه فكيف بغيره؟

وتعرفون بأن هذا مبحث طويل عند المفسرين، هل هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله؟ أو أن قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، أرجى آية، أو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]، أو قوله تعالى: يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً[الزمر:53]، أو قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[الرعد:23]، بعدما ذكر الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات بإذن الله، قال سبحانه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[الرعد:23]، أي: كلهم الظالم والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله.

وإن شاء الله نرجع إلى تفسير الآيات وأظن تفسيرها بعد هذا الحديث سيكون ظاهراً، واضحاً، بيناً، أسأل الله أن ينفعني وإياكم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2768 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2766 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2665 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2652 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2534 استماع
تفسير سورة يس [8] 2523 استماع
تفسير سورة يس [4] 2477 استماع
تفسير سورة يس [6] 2468 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2236 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2224 استماع