تفسير سورة النور - الآيات [4-5] الثالث


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5].

لقد تم الكلام عن مسألة القذف بالتصريح والقذف بالتعريض، وعرفنا بأن أهل العلم مجمعون على أن من قذف غيره بالزنا تصريحاً أنه يقام عليه حد الله عز وجل المنصوص عليه في هذه الآية.

أدلة القائلين بعدم وجوب الحد في القذف بالتعريض

أما من قذف غيره بالتعريض، فقال بعض أهل العلم: لا يجب فيه الحد، واستدلوا بالقرآن والسنة والمعقول.

أما القرآن: فقول ربنا الرحمن: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً [البقرة:235]، والآية نازلة في المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي في فترة العدة، فلا يجوز لك خطبتها، وعدتها أربعة أشهر وعشراً إن كانت حائلاً، أو وضع الحمل إن كانت حاملاً، فلا يجوز لك أن تذهب لامرأة مات عنها زوجها وتقول: سأعزيها، وبعد أن تقول لها: عظم الله أجرك، تقول لها: أنت محجوزة وأنا أريدك، فلا تستعجلي، هذا حرام، والله عز وجل منع من ذلك، لكنه أباح التعريض، فربنا فرق بين التصريح والتعريض، وقالوا: ها هنا كذلك، ولو لم يكن بينهما فرق لما فرق الله بينهما.

أما دليلهم من السنة فهو: ( أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود )، والحديث معروف، ( فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك إبل؟ قال: نعم، فقال: ما ألوانها؟ قال: صفر، قال: هل ترى فيها من أورق؟ أي: أسود، قال: بلى، قال: من أين أتى؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: ولعل ولدك نزعه عرق )، فقول الرجل: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فيه تعريض بأنه أبيض، والمرأة بيضاء، فمن أين جاء الغلام أسود؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ هذا الرجل بكلامه، فدل على أن التعريض لا يعد قذفاً.

وأما من المعقول فقالوا: التعريض محتمل للقذف ومحتمل لغيره، والحدود لا تثبت بالاحتمال، فلو وجد شيء وشككنا فيه هل نقيم على صاحبه الحد أو لا بد من ظن أشبه بيقين؟ فمن هنا قالوا: بأن القرآن والسنة والمعقول قد دلت جميعاً على أن التعريض لا يقام به الحد.

أدلة القائلين بوجوب إقامة الحد في القذف بالتعريض

والقول الثاني: قالوا: إن التعريض يقوم مقام التصريح، واستدلوا أيضاً بالقرآن وبأفعال الصحابة الكرام، أما القرآن فإن الله عز وجل ذم بني إسرائيل لما قالوا لـمريم : يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28]، وهذا تعريض، وحين يقول لك أحدهم: يا أخي أنت أبوك كان رجلاً صالحاً، وأمك كانت امرأة صالحة، فمعناه أنت غير صالح، وبنو إسرائيل لما جاءت مريم عليها السلام تحمل ولدها قالوا لها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28]، والله تعالى قال عنهم: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، وهذا الدليل يمكن أن يناقش؛ لأنهم صرحوا وما عرضوا حين قالوا لها: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27]، هذا واضح، فقول الله عز وجل: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ، ليس المقصود تعريضهم فقط، وإنما المقصود تصريحهم حين قالوا لها: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27]، أي: شيئاً مفترىً ليس من نكاح صحيح.

واستدلوا أيضاً على أن التعريض يؤاخذ الله به أن الله تعالى ذم قوم شعيب لما قالوا: يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، ومعنى الكلام: إنك لأنت السفيه الغوي، كما لو أن إنساناً مثلاً أتى فعلةً بلهاء فتقول له: يا ذكي، وأنت تقصد أنه غبي، فهذا تعريض، ومثله قول الله عز وجل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، الكلام هذا يقال له في جهنم، ومعنى (إنك أنت العزيز الكريم): إنك أنت المهان المحتقر، وذلك حين يعطوه من الزقوم والعياذ بالله، قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:43-49]، هذا ما يحمل على ظاهره بأنه مدح له بالعزة والإكرام، وإنما هو مهان ذليل محتقر، ومثله قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد المعنى الظاهر حين يقول للمشركين: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ؟ فلا يقصد أنه ممكن أن يكون في ضلال، ولا يشك في ذلك، وإنما مقصود كلامه: وإنا لعلى هدىً وأنتم في ضلال مبين، هذا كله من القرآن.

فقول الله عز وجل: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28].

وقول مدين لشعيب: إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

وقول الله عز وجل لـأبي جهل أو لـأبي لهب : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49].

وقول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

وأما من فعل الصحابة فقالوا: إن عمر حبس الحطيئة لما هجا الزبرقان بن بدر ، فقال له:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

على ظاهر اللغة فإنك أنت الطاعم أي: الذي يطعم غيره، الكاسي الذي يكسو غيره، لكنه يقصد إنك أنت المطعَم المكسي، فـعمر رضي الله عنه حبس الحطيئة بهذا الكلام مع أن ظاهره المدح، وكذلك اختصم رجلان، فقال أحدهما للآخر: لست بزان، ولا أبي زان، ولا أمي زانية، فذهب الآخر فشكاه إلى عمر ، فجمع عمر الصحابة، فقالوا: يا أمير المؤمنين! الرجل يمدح نفسه وأمه وأباه، فقال عمر : لا والله لقد كان لأمه وأبيه مدح غير ذلك، فقد كان من الممكن أن يقول: والله إن أبي كان رجلاً شجاعاً وكذا وكذا، لكنه لما ذكر هذا فإنه يريد أن يقول للآخر: أنت زان وأمك وأبوك، ولذلك أقام عليه عمر الحد، قالوا: وكذلك عثمان رضي الله عنه أقام الحد على من قال للآخر: يا ابن شامة الوذر، مع أنه لم يذكر الفاحشة تصريحاً، وإنما من باب التلميح، لكن المعروف من لغة العرب أن هناك ذماً وقذفاً بطريق التعريض، وفي قول آخر:

قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

قالوا: لما سمع عمر هذا الكلام قال: يا ليت آل الخطاب كذلك لا يغدرون ولا يظلمون، والرجل لم يقصد المدح، وإنما قصد الذم؛ ولذلك قال بعدها:

ولا يردون الماء إلا عشيةً إذا صدر الرواد عن كل منهل

يعني: لا يأتون لسقي أغنامهم إلا في الليل بعدما ينفض الناس، قال عمر : يا ليت آل الخطاب كذلك، يعني ما يزاحمون الناس، لكن الذي يعرف أو يقرأ الأمر من أوله يدرك أن الرجل ذام، ولذلك قال:

إذا الله عادى أهل لؤم وخسة فذم بني العجلان رهط ابن مقبل

إلى أن قال:

وما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب فاحلب أيها العبد واعجل

فالمقصود أن كلامه كله ذم في ذم وإن كان ظاهره المدح، ولذلك يقول الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: التعريض يرجع فيه للعرف، فإذا كان العرف يقضي بأن هذا اللفظ قذف فإنه يقام به الحد، فمثلاً في كلامنا الآن لو أن إنساناً قال لآخر: يا ابن الحلال أنا أقول لك كذا وكذا، فهذا ليس قذفاً، لكن في بعض البلاد لو أن قائلاً قال لآخر: يا ابن الحلال، تقوم الدنيا ولا تقعد؛ لأن هذا في عرفهم قذف، لأنه لما قال له: يا ابن الحلال هو يقصد والعياذ بالله يا ابن الحرام، فالمرجع في ذلك إلى العرف، كما أن المرجع في اليمين إلى العرف، فمثلاً لو أن إنساناً ذهب إلى الجزار ووجد قيمة اللحم أربعة وعشرون، فقام وغضب قال: والله الذي لا إله غيره لا آكل لحماً مرة ثانية، وقام وأكل سمكاً، فلا تلزمه كفارة؛ لأن العرف أن اللحم عندهم لحم الحيوان من غير السمك، بينما القرآن قال: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا[النحل:14] ويقصد باللحم هنا السمك، لكن العرف عندنا أن اللحم غير السمك؟ فمن قال: أكلت لحماً فلا يفهم منه أبداً أنه سمك، مع أن القرآن جعل السمك لحماً، وهو في الواقع لحم.

نقف عند هذا الحد إن شاء الله.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وظاهره وباطنه ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، نسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير الثواب، وخير النجاح، وخير العلم، وخير العمل، وخير الحياة، وخير الممات، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، اللهم كما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم، وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.